ما الذكاء الاصطناعيّ «الفائق»؟
حبيب سروري
ثمّة مرحلتان قادمتان لعلوم الذكاء الاصطناعي، ستقتحمان حياتنا عقب مرحلة علوم الذكاء الاصطناعي الحالي (الضعيف، كما يُطلق عليه!)، يلزمنا استيعاب ما تعنيان، لأهمية ذلك القصوى في حياتنا المستقبليّة جميعاً:
1) الذكاء الاصطناعي «العام»:AGI ؛
2) الذكاء الاصطناعيّ «الفائق»: Superintelligent AI.
قبل تعريف معنى هذين العِلمين اللذين يتّجه نحوهما الذكاء الاصطناعي، واللذين نلاحظ دخولهما في تسميات فرق الأبحاث العلمية في كبار الشركات مثل OpenAI وGoogle DeepMind، أو في مجموع مختبرات «ميتا» نفسها Meta Superintelligence Labs، نحتاج إلى إدراك أن السنوات القليلة المقبلة ستحمل نقلات نوعية سريعة جداً ومذهلة في علوم الذكاء الاصطناعي، تحدّثتُ عنها في «ندوة سرديات المستقبل» في بيروت، في 22-23 سبتمبر/أيلول الماضي.
يكفي ملاحظة أن غزوَ التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعيّ، وهيمنتَهما المقبلة على حياة الإنسان، يتمّ اليوم من دون فرامل: الابتكارات والميزانيات المالية العامة والخاصة ترتفع على نحوٍ أُسِّيّ، وعدد الجامعات والأبحاث والأطروحات المرتبطة بالذكاء الاصطناعيّ في تزايد وتسارع رهيبين.
لنلاحظ أيضاً قبل تعريفهما، أن تدافع سباق الذكاء الاصطناعي الحالي «الضعيف!» لا يتوقّف عن فتح آفاقٍ جديدة، قريبة أو بعيدة المدى، في كل المجالات إطلاقا، لتمكينِ الذكاء الاصطناعي من تغيير حياتنا، من دون كوابح، واختراع آليّاتٍ جديدة لِتأهيلهِ اقتحامَ مجالات جوهريّة واعدة، كانت ضمن إقطاعيّة سرديّات التخييل العلميّ فقط.
تستحقّ كلَّ التأمل، بهذا الصدد، دعوةُ النوبليّ في الاقتصاد فيليب آجيون، في محاضرته الشهيرة في كوليج دو فرانس في 17 أكتوبر الماضي، لِتأسيسِ مختبرٍ أوربيٍّ ضخم «CERN de l’IA»، على غرار أكبر مختبرات العالَم في الفيزياء CERN الذي يضمّ 3500 باحثٍ، يعملون في «كاتدرائية» علميّة طولها 27 كيلومتراً تحت الأرض، بين سويسرا وإيطاليا وفرنسا، تمكّنَ الإنسان بفضلها من برهنة «النموذج الأساسي» للفيزياء، الذي يشرحُ تشكّّلَ الجسيمات الأولية، بعد الانفجار الكوني العظيم وولادة الكون.
لِتعريف الذكاء الاصطناعي «العام» و«الفائق»، نحتاجُ أوّلا إلى مقدمةٍ تاريخيّةٍ ضروريّةٍ عن سَلفِهما: «الضعيف» الحالي.
وُلِد هذا العلم في مؤتمرٍ في دارموث في عام 1956، بدعوة من جون ماكارثي (مخترع لغةLISP )، بهدف محاكاةِ الكمبيوترِ للذكاء البشري قبل نهاية القرن العشرين، وتجاوزه ربما، على نهج أفكار آلان تورنج: مؤسس علوم الكمبيوتر وأب الذكاء الاصطناعي أيضا؛ ومخترع ماكينة إينجما، التي فكّت شيفرات برقيات جيوش النازية، وساهمت في التعجيل بهزيمتها.
انقسم منذ بداياته إلى فرعين:
1) الذكاء الاصطناعيّ الرمزيّ symbolique (الذي ساد حتّى 2012)، والذي يقدِّم المعارف إلى الكمبيوتر على شكلِ «قواعد منطقية» (على غرار القاعدة التبسيطية الشهيرة: «إذا كان الإنسان فانٍ، وإذا كان سقراط إنساناً، فالنتيجة: سقراط فانٍ»)، تُستَنْبَط عبرها آليّاً كلُّ النتائج والحلول، بفضل «ماكينةِ استدلالٍ منطقيّة» مُبرمجةٍ في أحشاء اللغات الذكيّة، تُترجِمُ بعضَ خوارزميات البرهنة الآليّة في علوم الكمبيوتر والمنطق الرياضيّ.
2) الذكاء الاصطناعيّ الاتصاليّ connexionniste الذي اقتحم حياتَنا فعلاً بدءاً من عام 2012، إثر طفرةٍ (أو بالأحرى قفزةٍ كبرى إلى الأمام، حسب التعبير الصينيّ!)، في أبحاثهِ قادتْ إلى تقنيةٍ جوهريّة تُسمّى: «التعلّم العميق بشبكات العصبونات الاصطناعية». تُحاكي هذه التقنية عملَ عصبونات دماغ الإنسان وهي تتبادل التيارات الكهرو كيميائية عند التعلّم والإدراك، أثناء كلِّ نشاطات الإنسان الروحية (التعرّف على الصور، التفكير، اللغة، الذاكرة، الوعي، اللاوعي). فالإنسان، كما يعرف الجميع، جسدٌ لا غير، روحُهُ دماغه. هكذا تفعل العصبونات الاصطناعية عند تعرفها على صورة حِمارٍ مثلاً، بعد التدرّب التجريبيّ على آلاف نماذج من صور الحمير.
من قرأ مقالي السابق في «القدس العربي»: «ما الذكاء؟» لن يجد صعوبة في استيعاب أن النوع الأول من الذكاء الاصطناعي يقترب من المفهوم الأفلاطوني للذكاء، فيما النوع الثاني يقترب من المفهوم الأرسطي.
(من الملاحظ أننا، عربيّاً، لا نضعُ الدماغَ في مركزِ اهتماماتنا ودراساتنا، فيما هو الألفا والأوميجا، الألف والياء. لِنذكِّر مثلاً: تتكوّن «المادة البيضاء» فيه من 100000 كيلومترٍ من أسلاك مواصلات عصبونية مشتبكة تسمح بالتفكير!).
اكتسحَتْ هذه التقنية أوّلاً مسابقات التعرّف على الصور، بين مختبرات الأبحاث، في أحد المؤتمرات العلمية، في عام 2012، اكتساحاً جعلها سريعاً بؤرةَ اهتمامات الباحثين. توالتْ متّكئةً عليها التطبيقاتُ العلميّة الفذّة: أضحتْ تُشخِّصُ الأمراضَ انطلاقاً من كشّافات الليزر، أفضل من أيّ فريقٍ كاملٍ من الأطباء، تقودُ سياراتٍ من دون سائق، تُترجمُ آليّاً من أي لغة إلى أيّ لغة، تنتصر على الإنسان في أصعب الألعاب العقلية، مثل هزيمتها لِبطل العالَم جي سيدول في لعبة «ألغو»: أصعب الألعاب العقلية التي لم تكن هزيمةُ الإنسان متوقّعةً فيها قبل عقدٍ من الزمنِ على الأقل.
تلا ذلك الحدثُ – الزلزالُ الثالث الذي استقطب اهتمامَ الجماهير، في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2022: «الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ»، على غرار تشات جي بي تي ChatGPT، الذي يُجيب على كلِّ أسئلتنا، ويخترع لنا الصور والفيديوهات واللوحات الفنية وقصائد الشعر أيضا، ويتناقش معنا كصديقٍ عزيز حول «المطر والطقس الجميل»، حسب التعبير الفرنسيّ!
ثمّ توالت إنجازاتٌ لا تتوقّف: انتزعَ الذكاءُ الاصطناعيّ مؤخّراً مركزَ الأولويّة في امتحانات الرياضيات الأولمبية الصعبة جداً، وفي الامتحان النهائي للطبّ في أمريكا. ويستطيع اليوم معرفة شكل البروتونات انطلاقاً من الشفرة الجينية!
منحنياتُ تقدّمهِ لا تتوقّف عن الصعود الصاروخيّ مع سرعة أجهزة «مراكزِ البيانات» Datacenter. بيد أنّ هذه المراكزُ التي يتدرب فيها الذكاء الاصطناعيّ على سيول البيانات اللانهائيّة، مستودعاتٌ Hangarsيساوي استهلاك الواحد منها للطاقة استهلاكَ 5000 منزلٍ أمريكي!
أمّا مراكزُ التدريب الجديدة التي بدأ بناؤها، باندفاعٍ محموم، لتكون جاهزةً بعد ثلاث سنوات، فسيرتفعُ استهلاكُها لِلطاقة بكميّاتٍ فلكيّة، إلى نحو ما يعادل 5000000 منزل!
سيصلُ عدد هذه المراكز إلى الضعف في عام 2030، حسب الدراسات الجديدة. ناهيك عن أنّها، في أمريكا (حيث يناهض ترامب استخدام الطاقات المتجدِّدة، ولا يعترف بالكارثة البيئية التي يعيشها كوكبنا)، تشتغلُ أساساً بالطاقة الأحفوريّة، منبع أكثر الأضرار البيئية فتكاً!
ما يمكن ملاحظته بعد هذه الجولة التاريخية هو أن الذكاء الاصطناعيّ الحالي ليس أكثر من أرخبيلِ برمجيّاتٍ ذكيّةٍ جبّارةٍ متخصِّصةٍ في مجالات محدّدة، لا غير: ترجمة آلية، تعرّف على الصور، لُعب عقلية، قيادة سيارات من دون سائق…
إذ لا توجدُ بعدُ منظومةُ ذكاءٍ اصطناعيٍّ عام واحدٍ أحد، تشتغل بالذكاء نفسِهِ في كلِّ المجالات، في منظومة واحدة موحدّة تستخدم الاستدلال المنطقي، وتشرحُ حلولَها وسبب اختياراتها، على غرار الذكاء الاصطناعي الرمزيّ؛ بعكسِ أخيهِ «الاتصّاليّ» الذي لا يمكنهُ إلا أن يظلّ «ثقباً أسود»…
من المؤكّد أن المزيدَ من تطوّر أبحاث علوم الدماغ (التي لم تَكتشف بَعدُ كلّ آليات عملِ وعيهِ ولا وعيه، كلَّ خوارزمياته وأسرارِه)، ودمج الذكاءين الاصطناعيّين الرمزيّ والاتصاليّ في ذكاءٍ اصطناعيٍّ كليّ، ستساعده مستقبلاً على تجاوزِ مقدراته الذاتية القاصرة حاليّاً، والانتقالِ إلى هذا الذكاء الاصطناعي العام الأوسعَ والأرقى، الذي يضاهي الذكاء الإنساني في معظم المجالات، إن لم يفُقه في عددٍ مهم منها، كما تنصُّ أهدافُ هذا العلمِ القادم.
أمّا المرحلة التالية فهي الذكاء الاصطناعيُّ «الفائق»، الذي يُفترضُ نظريّاً أن يكتسحَ كلَّ مجالات الذكاء الإنساني ويدمجُها، ويستحدثُ منها فرضيات لا تخطر ببال أحد مستغِلّاً إلمامَه بكلِّ المعارف معاً (وهذا ما لا يستطيعهُ إنسانٌ أو فريق)، ويتفوَّقُ عليها.
يُحدِّدُ أهدافَ الحياة على الأرض لوحدِه، يُطوّر نفسَه بنفسهِ دون الحاجة إلى الإنسان…
قد يبدو أن ذلك أقرب إلى الخيال العلميّ الخالص اليوم، على الأقل؛ وإن ألاحظُ أنّ الجدارَ الحاجزَ بينه وبين الواقع يتهشّم يوماً بعد يوم، إلى حدٍّ يجعل التنبؤَ من الآن بما سيصير بعد عام 2045 غيرَ واقعيٍّ جداً، فما بالكم بالحديث عن حياة البشر في عام 7777؟
في تقديري: سيذهب العِلم على المدى البعيد إلى أقصى الآفاق، إلى نهايات أهدافه، ولن يترك مجالاً نسمِّيه اليوم خيالاً علميّاً دون اجتياحه. ما نحتاجه فقط هو أن تضبطَ السياسةُ هذه السيرورة اللانهائية، وتقونَنها، وتقاومَ مخاطرها الهائلة على الإنسان والبيئة (ليس مجال الحديث عنها في هذا المقال)، لتكون مصلحةُ الإنسان هي البوصلة، وليست مصلحة الأرباح المالية الجنونيّة.
