عناق العلم بالأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية اليوم

حبيب سروري

كلُّ من يشتغل بالأبحاث العلمية، ويجاهد ليجدَ تمويلا دوليا أو محليّا لمشاريع فريق مختبرهِ العلمي (كالتمويل الأوربي مثلا، أو تمويل الدول المتطوِّرة) يعرف جيّداً أن ثمّة شرطا جديدا صار ضروريا (منذ ثلاثة عقودٍ على الأقل) لا تُقبل المشاريع غالبا بدونه، ولا تُموّل.

ينصّ الشرط على أن تكون أبحاثا متعدّدة التخصّصات Interdisciplinary.

السبب جليّ: تعقيدُ المواضيع الجديدة المفتوحة للأبحاث العلمية في عصرنا اليوم (أو القديمة التي ما زالت بعيدة الحلّ والمنال لفرط صعوبتها)؛ وتواشجُ وتداخلُ أبعادها ومجالاتها، وصل درجةً لم يعد ممكنا بعدها فكُّ قفلِ أسراره، بالاتكاء على تخصّصٍ أو مجال واحد فقط.

كذلك حال الابتكارات العلمية الكبرى اليوم، وتطوير المعارف الحديثة: تحتاج عضويا إلى عناق المعارف والمجالات وفرق البحث المختلفة للخوض فيها.

اتكأتِ الابتكارات العلمية دوما، وليس اليوم فقط، على الانطلاق من محاكاة النماذج الموجودة في الطبيعة أو بنات خيال الإنسان (لا سيّما الأدب).

لأضرب مثلا سريعا: اختراع الطائرة انطلق من رغبة محاكاة ملَكات الطيور التي عبّرت عنه الميثولوجيا والأدب، منذ الحصان الإغريقي الطائر: بيغاسوس، الحصان العربي بُراق والصافنات الجياد، وأساطير قومية محليّة في مختلف الشعوب على غرار عبّاس بن فرناس…

(بطبيعة الحال، المحاكاة ليست نقلا آليا، وإلا لوجدنا أجنحة الطائرات تتحرك على غرار أجنحة الطيور!).

كذلك كلُّ الاختراعات الحديثة مثلا، من الكمبيوتر (الذي يحاكي الدماغ البشري)، ونموذج “شبكة العصبونات الاصطناعية” في علوم الكمبيوتر الذي قاد إلى طفرة الذكاء الاصطناعي منذ أكثر من عقد؛ إلى الروبوت (الذي دخل القاموس الدولي انطلاقا من مسرحية “روسوم” التشيكية)، “السيارات بدون سائق”، “الإنترنت” و”العوالم الافتراضية” وغيرها، لم تتحوّل إلى ابتكارات إنسانية، إلا لأنها خطرت بخيال الإنسان يوما ما سبقَ صناعتها بكثير، وغالبا في أدب الخيال العلمي أو التأمليّ، والأدب والروايات عموما، كونها منجم الخيال البشري بامتياز.

لكن لجوء العلم إلى رؤى الأدب والعلوم الاجتماعية والفلسفة، وعناق التخصّصات، أضحى اليوم جوهريا ولا يمكن تجاوزه، بسبب التعقيد الذي وصلت له طبيعة القضايا المفتوحة للبحث اليوم، والحاجة الاستراتيجية لهذا اللجوء لتوجيه مشاريع الابتكارات، كما سنرى لاحقا.

لذلك، يراقبُ كبارُ رؤوس التكنولوجيا الحديثة، كَـ إيلون موسك مثلا، جديدَ الخيال العلمي، وتخترعُ مختبراتهم تقنياتها أحيانا من وحْيِه. دون الحديث عن قرارات بعض وزارات الجيوش بتشكيل فرق تضمّ عددا من روائيي التخييل العلمي إليها. هدفُه: تسهيل وتخييل تجديد الصناعات التكنولوجية العسكرية…

بيد أن دور الأدب لا يكتفي فقط بتفجير شرارات الاكتشافات غالبا، لكنه، بالتحالف مع العلوم الاجتماعية والانثربولوجية والتاريخ، يضع رؤئً جوهرية حول مستقبل استخدام الابتكارات ومخاطرها.

نكتشف بفضله مخاطر القادم: لو انتبهت الدول إلى ما قاله الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأدباء عن مخاطر الغطرسة الإنسانية Hubris، وضرورة عدم تجاوز حاجات التوازن البيئي، ومنع تلويث وتدمير الطبيعة، لما وصلنا إلى المهلكة الحالية.

لذلك بطبيعة الحال، لم يعد ممكنا إنشاء مشروع علمي أو معماري أو مدني (كحال “المدن الذكيّة”) دون حضور المتخصصين بالبيئة، بالطبيعة الإنسانية…

تتفجّرُ في أذهاننا جميعا عند قراءة الأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية أسئلةٌ وفرضياتٌ حيويّة متداخلة. تدعونا غالبا إلى عدم الانجراف مع المدّ الأعمى الذي تقودنا غالبا إليه انحرافاتُ إمبراطوريات أسواق المال والتكنولوجيا في المجال العلمي، وإلى مقاومة جيَشان الرداءة الذي يفرضهُ “المجتمع الاستعراضيّ” والمشتقّات السيّئة للتكنولوجيا المستقبلية، وعدم الوقوع في إغراءات الميثاق الفاوْستي (نسبةً لشخصيّة فاوْستْ في الفلكلور الألماني، كما مسرَحَها غوته): البهجة في استهلاكاتِ المجتمع الاستعراضيّ، مقابل بيع الروح لشياطين الدوائر المالية التكنولوجية.

تتفتّح للجميع، لا سيما للعلماء، عند قراءة الأدب التأملي باقةٌ من الأسئلة الفلسفية الجديدة (على غرار تساؤلات رواية فرانكشتاين، قبل قرنين) حول الطبيعة الروبوتية المؤنسنة ومنهج تفكيرها وطبيعة غرائزها التي برمجها الإنسان؛ ومستقبل العلاقة بين الإنسان وروبوتاته المؤنسنة الذكيّة؛ وعلاقة الإنسان عموما بمستقبل تطوّر التكنولوجيا ومدى استعداده للحياة معها وبها…

نكتشفُ بفضل دور الأدب هنا ذواتَنا، وعلاقتنا بمن سيكونون أقرب لنا من حبل الوريد: كائنات المستقبل التكنولوجية.

لأضرب مثلا الآن على أحد المجالات التي تتداخل فيها الحاجة لتظافر كل الجهود، بسبب تعقيد المشاريع الذي يزداد يوما بعد يوم.

نعرف جميعا منذ ابن سيناء أنه لا تفكير بدون كلمات. فالروح كائن لغويّ (مؤثث على نحوٍ لغويّ)، كما يرى العلماء المعاصرون.

“أصول ونشأة اللغة” في تاريخ الإنسان موضوع من مواضيع الأبحاث المعقدة الكبرى المفتوحة منذ أمد. لا يمكن استيعابه دون تعاضد أبحاث علماء حفريات وبيولوجيا يتابعون التطور البيولوجي لدماغ الإنسان منذ هومو اركتوس وقبله إلى هومو سابيانس. ودون رؤية ذلك بمعزل عن أبحاث الانثروبيولوجيين وعلماء الاجتماع الذي يشرحون كيف لعبت صناعة الآلة للاصطياد وغيره، والحاجة للتعاضد بين أفراد المجموعات الإنسانية القديمة، دورا حاسما في سيرورة ذلك التطور.

المتخصصون في اللغة والأدب لهم أهميتهم المركزية في متابعة تطور البنية اللغوية وتاريخ الكلمات خلال هذه السيرورة الزمنية لنشأة اللغات، منذ اللغة البدائية Proto-language لأسلاف هوموسابيانس.

الأبحاث المتصلة باللغة اليوم وصلت درجةً هائلة من التعقيد والاتساع تتجاوز علماء اللغة وحدهم، أو علماء الدماغ المتخصصين بمناطق اللغة في خارطة الدماغ البشري وآليات عملها.

لا يمكن التقدّم بها دون تظافر جهودهم مع قافلة جديدة من الباحثين الذين صارت اللغات زادهم مثل علماء الكمبيوتر، والرياضيات، ومجالات عديدة أخرى.

فالرياضيات لغة خاصّة، لها مناطقها المحدّدة في الدماغ. قبل الخوارزمي كانت في الجوهر هندسة أقليديسية، ورسماً لأشكال هندسية في الأساس، تُستخدم لحل هذه الإشكالية العملية أو تلك، لا غير. أدخل جلالته عليها اللغة الإنسانية كما لم يفعل أحد قبله، وحوّلها إلى لغة ومنهج يسمحان بتنظير تجريدي كليّ، بعد اختراعه لعلم الجبر.

شرح مثلا نظرية معادلات الدرجة الأولى والثانية في الرياضيات بلغة دقيقة استخدم فيها مصطلحات جديدة: “الشيء”، “الجذر” (الرقم الذي يحلّ المعادلة)، “الدرهم” (الرقم الثابت في المعادلة)…

اخترع فكرة المتغيّر الرياضي  x، وأسماه “شيء”، قبل أن تصل هذه الكلمة العربية بدورها إلى أسبانيا وتلفظ في لغتها القديمة: “إكسي”، ثم تغزو أوربا بعد ذلك بصيغتها النهائية: “إكس”.

ما المعادلات الرياضية، وما علم المنطق الرياضي، بل وما كل العلوم، لو كانت بدون استخدام المتغيرات والمجاهيل ودمج اللغة الإنسانية في مداميكها؟…

علوم الكمبيوتر تعجّ بلغات تنطح لغات. بدأت بلغاتٍ بدائية “الكترونية” ضعيفة جدا، لا يمكن للعين الإنسانية أن تستوعبها. ثمّ تطوّرت بفضل أبحاث علماء اللغة كشومسكي (الذي لعب معها دور الخوارزمي مع الرياضيات) بإخضاعها ل “قواعد نحوية” على غرار قواعد اللغات الإنسانية، وتطويرها لتصير لغات تعبيرية راقية تسمح بكتابة الخوارزميات بسهولة، وبترجمة لغات الكمبيوتر الراقية من لغة إلى لغة، بما فيه إلى اللغة البدائية الإلكترونية.

ثمّ جاء دور الرياضيات لإغنائها بالمنطق الرياضي لتزداد تعبيريتها. تلاه دور الفلسفة التي استُسقيَ منها مفهومُ الانطولوجية Ontologie الإغريقي القديم، وكُيِّفَ لنمذجة المعارف بطريقة يستوعب دلالتها الكمبيوترُ آليا.

قادنا كل ذلك اليوم إلى مجالات جديدة للأبحاث العلمية المعقدة جدا، كتلك التي تهدف إلى الاستيعاب الآلي لدلالات النصوص من قبل الكمبيوتر، وصناعتها آليا على نحو يتجاوز المقدرات الإنسانية ربما، كما هو حال مشاريع شبيهة ب ChatGPT ما زالت جميعها في طورها الجنيني!

تحتاج هذه الأبحاث جميعها إلى فرق مشتركة تضمّ علماء الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي، علماء الدماغ، علماء الطبيعة الإنسانية، ولغويون وأدباء وغيرهم…

خلاصة القول: دمج الأدب والعلوم الإنسانية والفلسفة بالدراسات والأبحاث العلمية ضرورةٌ عضوية. لذلك أضحت فرق المختبرات العلميّة الكبرى، والمناهج والمؤتمرات العلمية الراقية، متعددة الخبرات، تربط التخصص الرأسي العميق للباحث، بجسور التداخل الأفقي مع باحثين في مجالات أخرى عدّة.

فمجالات المعرفة العلمية واللغوية والاجتماعية والفلسفية “كليّة” Holistique، يجب النظر لها على أنها متكاملة، وليس على أنها مجموعة أجزاء.

لعلّ هذه النظرة أبرز وأهمّ ما يميّز تطوّر المعارف والأبحاث في العقود الأخيرة، وما نحتاجه نحن أيضا، كعرب، في الصميم.