رواية « خضوع » لهولبيك: تخييلٌ سياسيٌّ خارج النص
حبيب عبدالرب سروري
(نُشِرَ في صحيفة الحياة)
ميشيل هولبيك أشهر روائيي فرنسا المعاصرين وأكثرهم استحواذاً للقارئ الفرنسي والعالمي، وإثارةً للآراء المتناقضة والجدل. كل رواية يصدرها حدثٌ أدبي يثير سيلاً من التفاعلات.
يتصدَّرُ الحدثَ الثقافي منذ أشهر: قام هو نفسه بلعب دور هولبيك في فيلمٍ عن هولبيك. أُخرِجتْ روايته الثانية « الجسيمات الأوليّة » في مسرحية ناجحة في مهرجان أفينيون ٢٠١٤. وتثير اليوم روايته السادسة: « خضوع » زوبعةً من الجدل، منذ قبل أسبوعين من صدورها في ٧ يناير ٢٠١٥.
مشروعهُ الروائي: سرد تحوّلات العالم، آلامِه وجراحِه، احتضاراته وقبحه وانكسارته، بكلماتٍ تصل كأسهم، وبتحضيرٍ وثائقيٍّ انسكلوبيدي دقيق، وباستخلاصات ورؤىً فلسفية ترفدها لغة الشاعر الملهم الذي أصدر أكثر من ديوان، لاقى آخرهم: « هيئة الشاطئ الأخير » استقبالاً ونجاحاً واسعاً كعادة معظم أعماله.
رجعيٌّ وحدانيٌّ سوداويٌّ وعدميّ، دخل مع والدته في تبادل شتمٍ إعلامي شديد القساوة، ومع عدوّهِ الحميم المحارب الغشّاش هنري برنار ليفي في تبادل مراسلات هجائية دعائيّة نشراها في كتاب مشترك: « عدوّان عموميان ».
تحضر في كل أعماله بإبداعٍ مرموق كآباتُ الحياة، مآسي غياب الحب، وتنبؤات الانقلاب الميتافيزيقي الذي ستقود له، حسب اعتقاده، تطورات العِلم المعاصر في غربٍ يلهث مرهقاً، ينحدر ويحتضر، بدون مشروع إنساني لمستقبل الحضارة البشرية…
روايته الخامسة: « الخارطة والأرض » التي نالت جائزة الغونكور قبل ٤ أعوام انتزعت شديد الإعجاب. موضوعها: الفن المعاصر في عالمٍ استهلاكيٍّ مأزوم. (أثار جدلاً جانبيّاً فيها شتمُهُ الهجائي الكليّ لفن بيكاسو، رمز الحداثة.) يرسم فيها الكاتب سيرورة فناء شخوصها، وخراب العالم بشكلٍ عام، بإبداعٍ مثير. يتوسّط هذه السيرورة سردٌ طويلٌ لِمقتل الكاتب هولبيك وكلبه، في مذبحةٍ شنيعة، قبل أن تلتهم جسدَه الدودُ والذباب.
يصوّر هذه التراجيديا باستعارات بودليرية يجيد استلهامها، هو المهووس بالإنتاج الأدبي والفكري للقرن التاسع عشر، والخبير المرموق الذي تستضيفهُ لِدراساتها المجلاتُ المتخصصة بذلك القرن.
لعلّ روايته « الجسيمات الأوليّة » (فلاماريون، ١٩٩٨)، التي كانت على وشك نيل جائزة الغونكور حينها، أكثر أعماله إجلاءً لكلِّ مشروعه الأدبي، بمختلف أبعاده. بطلاها أخوان يفرّقهما كلّ شيء، وإن كانا وجهين لنفس التراجيديا التي يسببها خلو حضارة اليوم من عمودٍ فقريٍّ ميتافيزيقي، في رأي الكاتب. أو ما يمكن ترجمته بغياب « ليفة الدين » في ذهنية الغربي المعاصر، حسب تعبيره:
ثمّة ضجرٌ جذري في حياة إنسان اليوم قاد له انتصار العلم (شديد الحضور في أعمال هولبيك الذي بدأ حياته المهنيّة مبرمج كمبيوتر!)، واحتلاله موقع الدين السابق في حياة الناس في الغرب.
يراهن هولبيك في روايته الجديدة « خضوع » على أن الإنسان، ليكون سعيداً، يحتاج في جوهرهِ إلى « الإيمان المطلق والخضوع المطلق ». وأن بحثه عن الانعتاق والحريّة وهمٌ طوباويٌّ في العمق!
لعلّنا أمام فكرةٍ رجعيّة تقليدية قديمة، يجسِّدها هولبيك في روايته باللجوء إلى الإسلام كدين الإيمان المطلق والخضوع المطلق. « أسخف الأديان »، كما قال يوماً في حديثٍ شفويّ لا يخلو من التحرّش الرخيص، وإن التزم بحياديّة ذكيّة إزاء الإسلام في روايته الأخيرة هذه، لا تسمح للقارئ بتصنيفه كمعادٍ للإسلام، أو مستثمرٍ روائي لِجوانبه المحافظة لا غير!…
تستغرق الرواية في سرد حياة الراوي، فرانسوا، الذي يُدرِّسُ في جامعة السوربون في سنوات تعاظمت فيها شعبية حزب « الإخاء الإسلامي » الذي أسسه محمد بن عباس، كحزب إسلام سياسي معتدلٍ مناورٍ ذكي ذي علاقة طيبة بالمؤسسات اليهودية، بعد شهرٍ من انتخابات ٢٠١٧ الذي حقّق فيها اليمين المتطرف أرقاماً انتخابية مرتفعة استثنائية.
أعدّ فرانسوا، قبل ذلك، أطروحةَ الدكتوراه خلال سبع سنوات عن المفكّر والناقد الفنيّ هيومانس (١٨٤٨ ـ ١٩٠٧)، صاحب عبارة: « إغرقْ إذن أيّها المجتمع، متْ إذن يا هذا العالم القديم! »، مؤلف رواية « على العكس » الذي قدم فيها دليل عمل للخروج من قرنٍ منهار، وأحد أبرز من يُسمَّوْنَ: « كتّاب نهاية قرن ». تتماهى حياة الراوي بحياة نموذجه الفكري بشكلٍ مدهش.
يسلِّطُ الراوي الضوءَ على علاقاته الجنسية السطحيّة المتقلّبة، في بلدٍ تحكمه « اشتراكية ديموقراطية تحتضر »، يواصل انطفاءَه وانكفاءه وانحداره طوال الفترتين الرئاسيتين للرئيس الحالي فرانسوا هولاند.
« كانت لديّ رغبةٌ صغيرةٌ في مناكحتها، ورغبةٌ صغيرةٌ في الموت في نفس الوقت »، يقول الراوي في أحد لقاءاته مع طالبةٍ في بيته.
يصل بن عبّاس، الذي كان من أصغر وأبرع خريجي كليات نخبة النخبة في فرنسا: المدرسة البوليتكنيكية والمدرسة الوطنية لِلإدارة، في الدور الثاني من انتخابات عام ٢٠٢٢ إلى رأس السلطة في فرنسا، بعد تأييد أهم حزبين يساري ويميني في فرنسا لِحملته الإنتخابية، تلافياً لِوصول مرشّحة اليمين المتطرف الشهيرة مارين لوبين للرئاسة، بعد أن حصلت على ٣٤٫١٪ في الدور الأول، تلاها عباس ٢٢٫٣٪، ثمّ الاشتراكي فالس ٢١٫٩٪.
يبدأ هكذا عهدٌ إسلاميٌّ جديد في تاريخ فرنسا الذي يترأسها « نابليون مسلم » ذكيٌّ جداً ذو رؤية أوربية متوسطيّة راسخة، تنتهي خلاله العلمانية ومدرستُها بسيطرة الإسلاميين على وزارة التربية والتعليم، بعد مفاوضات صعبة مع الحزب الاشتراكي، ترك الإسلاميون له مقابلها معظم الوزارات الهامة الأخرى: تلك أوليتهم الدائمة: « من يسيطر على الأطفال، يسيطر على المستقبل! ».
ينتهي بعد ذلك عصر التعليم المختلط، ويتمّ طرد المدرِّسين غير المؤمنين من العمل (كما حصل لفرانسوا)، وإن ظلّوا يستلمون نفس رواتبهم كمتقاعدين، بفضل دعم المملكات البترولية للحكومة الإسلامية الفرنسية.
تُمنع الملابس عارية الكتفين والميني جوب، غير أن الحياة الجنسيّة لا تذبل في الجمهورية الإسلامية الجديدة: الزواج من صبيّة جميلة، أو من أكثر من زوجة في نفس الوقت (كما صار مسموحاً في القانون الفرنسي) ممكنٌ جدّاً، لا سيّما لِلفئات الغنيّة…
تنتهي البطالة في فرنسا بفضل عودة المرأة تدريجيّاً للمنزل، تنخفض الضرائب والإضرابات عن العمل والجرائم واضطرابات صراعات الهويّات، ويزدهر السلام الإجتماعي…
يعتنق فرانسوا الإسلام بعد حوار طويل، دام ظهيرةً ومساء، مع رئيس جامعة السوربون، روبير ريديجر، الذي اعتنق الإسلام قبل وصول « الإخوة الإسلامية » للسلطة بسنين. (رمق فرانسوا في بيت روبير الفاره إحدى زوجاته، عمرها خمسة عشر سنة بالكاد، علمَ منه أنها ندمت على رؤيته دون حجاب!).
يوفّر إسلامُهُ لفرانسوا وظيفةً جامعيّة عالية الدخل، ويفتح له باب الزواج من طالبات صغيرات لم يحتج بذل أدنى مجهودٍ لمغازلتهن.
يصعب، في نظري، تبريرُ اختيار الرواية لجملة من التفاصيل الرمزية التي تقود لأراضٍ مُلغَّمة:
عنوان الرواية هو نفس عنوان فيلم عن أوضاع المرأة في الدول الإسلامية الذي صدم بعض المشاهدين السلفيين. مخرجهُ حفيد الفنان فان جوج، الذي أغتاله إرهابيُّ إسلامي في عام ٢٠٠٤، بعد ظهور فيلمه.
لِروبير ريديجراسم شبيه جدّاً باسم روبير ريديكر الذي اشتهر بكراهيته للإسلام، والذي يعيش حاليّاً بحماية بوليسية من تهديدات القتل الإرهابي جراء تصريحات عدائية للقرآن والنبي محمد.
استحضار هذه الرموز للتذكير بعداء الإرهابيين لِحريّة التعبير، كما لو كانت مرادفةً لِدين الإسلام، اختيارٌ غير موفق، وخطير أيضاً، لا يعادله إلا مماهاة الدين المسيحي بمحاكم التفتيش وصكوك الغفران!
الانطلاق كذلك من عبارة الإمام الخميني: « إذا لم يكن الإسلام سياسةً فهو لا شيء » يرفض الاعتراف بتجارب إسلامية معاكسة، تفصل الدين عن السياسة، كما هو حال حزب النهضة في تونس الحديثة.
ثمّ إن اللجوء لسرد تنبؤات مستقبلية روائية باجتياح الإسلام السياسي والشريعة للنظام العلماني الفرنسي (في تطوّر انتخابيٍّ ناعم، « أشبه بحلمٍ سيء ») يميل للتخويف أكثر من الاستشراف والحدس، لا سيّما في واقعٍ معاصر فشل فيه الإسلام السياسي في عقر داره، وعلى كل الأصعدة؛ وارتبط اسمه غالباً بالعنف والمشاريع الرجعية التي تجاوزتها الحضارة الحديثة. فكيف له أن ينجح في دولةٍ التنوير والعلمانية الراسخة؟
تخويفٌ يضرّ كثيرا الفئات المسلمة في المجتمع الفرنسي، التي تبدو هكذا ضمنيّاً (على عكس ما هي غالباً جدّاً، في الحقيقة) في صدامٍ ثقافي وعداء حضاري مع قيم الجمهورية الفرنسية العلمانية، مما يسهِّلُ لليمين المتطرف العنصري وخطابه المعادي لها مزيداً من النيل والتجريح…
عبقرية هولبيك الروائية تظلُّ مع ذلك مثيرةً للإعجاب، لإبداع تركيباته الروائية وتبحُّرِها المعرفي وفنيّتها العالية، حتّى وإن كان جوهرُ تنبؤات خيالها السياسي بخيساً جداً بُخسَ تنبؤاتٍ بفرنسا يحكمها بريجنيف سوفيتي، أو يعود فيها للحكم ملكٌ كلويس ١٦، أو تتنقّلُ فيها بريجيت باردو بنقابٍ إسلامي…
لعله يشترك بشكلٍ أو بآخر مع الأصوليين الإسلاميين أنفسهم في رفض نتائج حركة الزمن، وفي إرادة أن يستحمّ المرء في نفس النهر مرّتين!