نسورٌ ومناطيد، فوق جمجمة العالَم

حبيب سروري

 

بعيدا عن المشاريع المستقبلية (التي تشبه الخيال العلمي) لِعملاقَي التكنولوجيا الحديثة، غوغل والفيسبوك، كإدامة الحياة وهزيمة الموت، الروبوتات المؤنسنة العبقرية، السيارات الطائرة… ثمّة مشاريعٌ باهرة لنا موعدٌ قريب معها خلال السنوات القليلة القادمة، إن لم تكن قد انطلقت فعلاً: السيارات بدون سائق، وشبكات نسور الفيسبوك ومناطيد غوغل التي ستملأ السماء، لتغطية كل الكرة الأرضية بشبكة الإنترنت.

 

لنتحدثْ عن فيالق عفاريت وجن التكنولوجيا الحديثة التي بدأت تتناثر في سماء العلم، لِتغطّيها عمّا قريب، تماماً كما تُغطّي سماءَ الميثولوجيا جنُّ وعفاريت الخرافات والأديان والأساطير.

 

4 مليار إنسان يعيش اليوم بدون الإنترنت. نصف هؤلاء، كما يقول مؤسس الفيسبوك مارك زوكيربيرج، لا يمتلكون شبكات إنترنت في ديارهم، أو هي مكلِّفة جدا، ونصفهم الآخر لا يعرف ما يعني الإنترنت (أي يعيش في عصر الجاهلية الرقمية، إذا جاز القول).

لذلك تتنافس شركة هذا الشاب ذي الفانيلة الرمادية، مع شركة شاب آخر لا يقلّ عبقرية، لاري باج، صاحب غوغل، في إيصال الإنترنت لهم، كما يتنافس المبشّرون الدينيون لإيصال أديانهم إلى أقاصي الأرض!

 

بالطبع، يبرِّران ذلك بدوافع إنسانية (لا تخلو من بعض الحقيقة) من أجل ربط البشر جميعا بجسور الإنترنت، وكسر الجدران الفاصلة بين الناس، وفتح أبواب الحضارة والمعرفة لجميع سكّان كوكبنا الأزرق!

 

الحق، أن النزعة والرأفة الإنسانية النقيّة ليست وحدها بالضبط منبع هذا التنافس المحموم! فمن منظور هؤلاء الشباب الذين يصيغون اليوم بنية حضارة الإنسان الحديث (على هدى وغرار نبيّهم: ستيف جوب، مؤسس آبل، الذي كان وراء إدخال الإنترنت إلى الهواتف المحمولة): البناءُ التحتي لحضارة الغد تلخصها كلمة واحدة، الإنترنت، وشبكات استخدامه الكونية الموحّدة.

السبب بسيط: البناء الفوقي لِحياة إنسان الغد: المواصلات، التعليم، الصحة… سيمرّ عبر الإنترنت، وعبره فقط. ومن يسيطر على البناء التحتي يسيطر على البناء الفوقي بالطبع، كما يجيد الماركسيون شرح ذلك.

 

ولأن ما يشخصن حضارة اليوم هو هذا الاندفاع المهروِل إلى الأمام، والذي لا يمكن توقيفه ولا يعرف أحد مصيره، فمَن لا يفتح اليوم أبوابا جديدة لاقتصادهِ وتطورِه، مصيره الانبطاح والتلاشي:

لعلّ تجربة هواتف شركة نايكون الفنلندية التي كانت في القمة قبل عقود قليلة، ثمّ سقطت سقوطا مهيبا بسبب تلكؤِها في إضافة تقنيات الصور الرقمية لهاتفها حينذاك؛ أو تجربة تويتر الذي نقص ثمنه عدّة مليارات مؤخرا ولم يجد مشتريا، بسبب عدم تنوّع مشاريعه وخدماته، تشرح لماذا يرفض غوغل والفيسبوك النومَ على أريكة أمجادهما الحالية (للفيسبوك أكثر من مليار ونصف مشترك، ولِجِيميل غوغل أكثر من مليار مستخدِم)، ورغبتهما في مضاعفة عدد المدمنين عليهما مرتين أو ثلاثة!

 

فكل شيء بالنسبة لهما يبدأ أولا بإيصال البناء التحتي للإنترنت إلى الإنسان، حيثما كان. لكنه لا يصل إلى الجميع بالطريقة نفسها: ثمّة راكبوا قطار الحضارة في عربات الدرجة الأولى، وثمّة راكبوه في عربات الدرجة العاشرة.

 

لنبدأ بأصحاب الأولى. لهم الإنترنت الذي يمرّ عبر أسلاك الألياف الضوئية، المغروسة في عمق الأرض وأسفل البحار والمحيطات، والتي تربط أمريكا بأوربا باليابان والصين.

كانت هذه الألياف، حتى قبل سنوات، تدخل جامعات الدول الغنية المتقدِّمة ودورها الحكومية والاقتصادية الكبرى فقط. ثمّ تمّ، خلال سنوات، حفر أخاديد في أراضي مدنها الكبرى، لِغرس هذه الألياف ومحطّاتها المتصّلة بالعمارات والمنازل المنفردة.

 

أتذكّر: قبل سنوات، وصل بيتي عاملان من شركة الهاتف، لمدّي بخطوط الألياف الضوئية مجانا (في هذه البلدان التي اختفى فيها مفهوم المجّان!).

يفتح العامل الأول ثقبا خفيّاً في أرض البيت، حيث تمرّ أسلاك الهاتف والكهرباء في قاع الأرض، ليضيف لها سلك ألياف ضوئية، مطويا في عجلة مهيبة جاء بها.

يمدّ العامل سلك العجلة من الثقب، ليصل طرفه، عبر باطن الأرض، إلى محطةٍ ما في أحشاء الشارع، حيث يلتقفه العامل الثاني. ثم يربط الطرف الآخر بهاتف البيت.

يضع بعدها، بين هاتف البيت وعلبة الإنترنت، جهازا صغيرا يحوِّل إشارات الإنترنت الآتية عبر الألياف الضوئية إلى إشارات كهربائية!

 

تتغيّر حياة الإنسان هكذا بعد ساعة واحدة فقط من وصول العامِلين، وهو يمتلك في بيته إنترنيتا هائل السرعة: تجهيزٌ مكلِّفٌ جدّاً، ومجاني مع ذلك!

تساءلتُ في قرارة نفسي حينها: متى سيصل عاملان كهاذين إلى بيوت مدن بوركينافاسو والموزمبيق، لإمدادها بهذه الألياف الضوئية؟ متى ستصل الألياف الضوئية إلى بيوت “طور الباحة” باليمن؟…

 

مستحيل بالطبع.. لهؤلاء صمِّمت، كبديل جماعي، مناطيد غوغل ونسور الفيسبوك!

اشترت غوغل قبل سنوات “المستودع رقم واحد” من أرض شركة الفضاء نازا، ليكون منطلَقا لأسراب مناطيد تبعثُها لتغليف سماء الأرض، لا سيما حيث لا يوجد الإنترنت.

يغطي كل منطاد 25 كم مربعا. ولا تتوقف غوغل عن تحسين تصميم لوحة شمسية (نانو فوتوفولتاييك، كما يقول الراسخون في علوم الطاقة) تسمح بتطويل مدّ هذه المناطيد بالطاقة، لِتظلّ تُحلِّق في الظلام، قبل ضخّها من جديد بطاقة ضياء الشمس حال إشراقها.

 

لكن التقدّم في هذا المجال، والأولوية الاستعراضية فيه، من نصيب الفيسبوك الذي أطلق هذا الصيف أوّل طائرة بدون طيّار، أكيلا (النسر)، مجهّزة لهذا الغرض؛ وحمل زوكيربيرج نفسه تمثالاً لهذه الطائرة، سافر به إلى الفاتيكان ليسلِّمه للبابا فرانسوا، كرمز لهذا “العمل الخيري الذي سينقل البشرية من الظلمات إلى النور”!

 

لأكيلا جناحان أكبر من جناحي طائرة إيرباص، لكن لها جسد ضئيل بثلث حجم سيّارة كهربائية: تبدو أكيلا هكذا كما لو كانت مجرّد جناحين فقط، مستطيلين مفروشين تفصلهما زاوية منفرجة شاسعة. ترفد بطارياتها الشمسُ بالطاقة، بين شروقها وغروبها، لِتسمح لها بالتحليق خلال 3 أشهر!

تطير أكيلا بارتفاع يتجاوز 25 كم، وتغطي دائرة جغرافية نصف قطرها حوالي 100 كم!

تجربة طيرانها الاستعراضي في صيف 2016 كانت تمهيدية وواعدة جداً.

 

سربٌ من هذه النسور ستملأ الفضاء قريبا، ترتبط إحداها بإنترنت الأرض عبر أشعة الليزر، وتمرِّر إلى جيرانها من النسور إشارات الإنترنت، وعبرها إلى جيران جيرانها، على نفس المنوال، لتغطي كل العالَم.

 

ثم هناك ابتكار عبقري حديث ملتصق بكل نسر: مصباح من ألياف بلاستيكية مشعشعة، سيقود إلى إرسال إشارات الإنترنت بأشعة ضوئية غير مرئية، وبسرعة محترمة.

 

كيف يمكن استيعاب اهتمام جَبّاري الإنترنت بديار الجياع والمحرومين، ورأفتهما بجوعهم الإنترنيتي (وإن لم يعبّروا عنه، مثل جوعهم البيولوجي، وحياة الفقر والديكتاتورية والظلمات التي تعصف ببلدانهم)؟

الليبرالية الجديدة أذكى من أن تترك، على نحوٍ أبارتيديّ، ديارَ هؤلاء الجياع بعيدا عن الحضارة، في زمن ما قبل الإنترنت، زمن ما قبل التاريخ. لأن لذلك مخاطر على العالَم أجمع، لا تعد ولا تحصى.

 

تُفضّل بطبيعتها الاستثمارية الاكتساحية غزو كل العالَم، ومدّ المحرومين بالحدّ الأدنى من البناء التحتي الذي يسمح لهم بصنع الثروة في بلدانهم، والحياةِ الأفضل فيها، وركوبِ قطار الحضارة أيضاً، لكن في عربات الدرجة العاشرة.

ثم يدفعون لها مقابل ركوبهم القطار، جزءاً هاما من الثروة التي صنعوها بفضل البناء التحتي التي مدّتهم به.

تضمن لنفسها هكذا دورانَهم في فلكِها، بنفس طاعة المناطيد والنسور التي تحلق فوق أراضيهم، وتغدو بديلا لشركات الهواتف الوطنية في دولهم.

يكفي بعدها، من يدري، أن تعيش بلدانهم كمحميات لها، في إمبراطوريتي الفيسبوك أو غوغل!

 

ختاما: على مواطن البلدان الكادحة أن يفكِّر وحده كيف يستفيد من هذا الإنترنت “المجاني”، ليس كمستخدمٍ خاضعٍ فقط، ولكن كمبدعٍ وصانعٍ ومقرِّرٍ ومكتشفٍ ومؤثر، عبر التعلم والانفتاح على عقلية الحريّة والإبداع.

أما رفضه الاندماج في هذا الفضاء الجديد، فيعني زواله بكل بساطة.

 

فانغلاق الصين، التي كانت في قمّة الحضارة في القرن الرابع عشر، على نفسها، وعداؤها للأجانب في عهد سلالة مينج آنذاك؛ ورفض الدولة العثمانية والعرب، الذين كانوا في قمة الحضارة حينها أيضا، دخولَ المطبعة إلى ديارهم خلال 3 قرون، بحجّة أن “حبر العالِم أقدس من دم الشهيد!”، قادا إلى خسوف الحضارتين!

 

خرجت الصين من خسوفها عبر الاندماج بحضارة العلم والمعرفة، وشقِّ طريقها الخاص فيها، أما نحن العرب فما نزال نغوص عميقا في لجّ ذلك الخسوف المتأبد!