رابط بحث الأستاذة الجامعية والروائية هدى عيد، عن روايتي «نزوح»، الفائز بجائزة أفضل بحث في مؤتمر اللغة العربية بدبي 2025
Science fiction between realism and futurism
in Habib Abdul Rab Sroury’s novel “ Displacement”
Department of Arabic Language, Faculty of Literature and Humanity, Jinan University, Tripoli-Lebanon
houdaeid@hotmail.com
Objectives: The study highlights the significance of the novel Displacement as a modern literary product that emulates science and its advancements, especially in astronomy and physical and mathematical sciences. The author employs an experimental literary style, combined with an eloquent language that makes use of technical jargon and intertwined with other literary genres in structural and semantic relationships.
Methodology: An analytic semiotic approach was applied to the title, characterization, narrative, lexical and semiotic levels down to the semantic, intertextual and cultural levels implicit in the text.
Key Findings: 1) The author’s ability to combine scientific data and literary style in his fiction and to produce science fiction 2) the purpose of caring for the “fate of planet Earth”, preserving its future to protect human civilization and keeping up with Arab scientific achievements 3) attempting to emulate artificial intelligence products instead of being alienated from them in order to develop Arab awareness 4) an explicit call to preserve the environment while aspiring to the outer worlds.
Conclusion: Through his novel, the author has provided a qualitative addition, thus including it in the literary experimentation category, specifically in science fiction, which is popular in the West, given the importance of this genre that speaks to the mind and uses imagination to objectively visualize achievements, enrich the cultural inventory and diversify artistic tastes, which fulfills a need in our Arab societies and urges critics to study and analyze this genre.
Key words: Habib Sroury – displacement – science fiction – meditation – foresight
الخيال العلميّ ما بين الوقائعيّ والاستشرافيّ في رواية ” نزوح” لحبيب عبد الرّب سروري
الدّكتورة هدى على عيد[1]
القسم: الّلغة العربيّة، الكلية: الآداب والعلوم الإنسانيّة، جامعة الجنان، المدينة: طرابلس، الدولة: لبنان
*الباحث المعتمد للمراسلة: الدّكتورة هدى عيد
الملخّص:
الأهداف: سعت الدّراسة إلى تسليط الضّوء على أهمّية رواية “نزوح” كمنتج أدبيّ حداثيّ يحاكي العلم، ويفيد من مُنجزِه المتقدّم لاسيّما في حقل ” علوم الفضاء”، وحقل العلوم الفيزيائيّة، وعلوم الرّياضيّات، وظّفها الرّوائيّ في سياق معالجة أدبيّة تجريبيّة، تتبنّى لغةً فصيحة تجيّر لصالحها المصطلح العلّميّ، وتتناصّ من خلالها، مع أجناس أدبيّة أخرى تحاورُها، وتشتبك معها في علاقات بنائيّة ودلاليّة.
المنهجيّة: طُبّقت على الرّواية/الأنموذج دراسةٌ استقرائيّة تحليليّة تأويليّة سيميائيّة للعنوان، لنسق الشّخصيّات، للمستويات السّرديّة، المعجميّة، والسّيميائيّة وصولاً إلى قراءة المستويات الدّلاليّة، التّناصيّة، والثّقافيّة المضمرة في النّصّ المسرود.
نتائج البحث: أبرز نتائج البحث: 1) كفاءة الكاتب، وقدرته على المزاوجة ما بين المعطيات العلميّة، وبين المعطيات الأدبيّة في مسروده الرّوائيّ، وعلى إنتاج أدب الخيال العلّميّ، 2) غائيّة السّرد المتمثّلة في العناية “بمصير كوكب الأرض”، والتّطلّع إلى صون مستقبله، حمايةً للحضارة، وتأكيدًا على ضرورة مواكبة المنجز العلّميّ عربيًّا 3) محاولة محاكاة الجديد من منتجات الذّكاء الإصطناعيّ، بدل الدّخول في قطيعة معرفيّة معه، رغبة في الإسهام في تطوير الوعي العربيّ، 4) الدّعوة الصّريحة إلى حتمية صون البيئة الأرضيّة، بموازاة التّطلّع إلى العوالم الخارجيّة.
الخلاصة: تمكُّنُ الكاتب من تحقيق إضافة نوعيّة من خلال روايته، ما يدرجها في خانة التّجريب الأدبيّ، وتحديدًا في ” أدب الخيال العلّميّ” الرّائج في الغرب، على أهمّية هذا النّوع الكتابيّ الّذي يحاكي العقل، ولا يكتفي بمحاكاة الوجدان، ويسخّر الخيال في سبيل تصوّرِ المنجز بعيدًا من التّهويم، ما يجعله يشكّل خطوة فاعلة لتغذية المخزون الثّقافيّ التّوعوي، ولتنويع الذّائقة الفنّيّة، وهذا حاصلٌ يلبّي حاجةً في مجتمعاتنا العربيّة، ويمثّل دافعًا قويًّا للنّقد للعناية بهذا النّوع، ولإجادة استقرائه.
كلمات مفتاحيّة: حبيب سروري- نزوح- الخيال العلميّ- التّأمّل- الاستشراف
متن البحث:
- المقدّمة: الأحلام المُشتهاة وحقيقةُ تفاوتِ الذّائقة:
لطالما افتتنَ الإنسانُ بطِلابِ المعرفة، وسعى بحثيثيةٍ إلى امتلاك أسرار المشهديّات الكونيّة الكبرى الّتي تتوالى أمام ناظريه؛ وكلّما ازدادت سطوة هذا المخلوق المتفكّر وسيطرته عليها، وتفاقمت ثرواتُه عمدَ إلى تحصيل مزيدٍ من العلم بأسباب تثبيت تلك القوّة، وبكيفيّة ضمان عدم زوالها.
معلومٌ أنّ العلم هو محصّلة بحث الإنسان الدّقيق في نفسه، وفي غيره من الكائنات الأخرى، كما في مظاهر الطّبيعة والكون، على ارتباط دقّةِ النتائج المحصّلة بوساطتِه، بتحقّق دقّة وسائل البحث المعتمدة، أي وسائل القياس، الاستدلال، التّجربة، والاختبار، بالإضافة إلى الآلات الدّقيقة الّتي قد تستدعيها طبيعة المبحوث وخَصيصته.
لا شكّ بأنّ الثّورة الرّقميّة، وما أفرزته من تطوّرات معرفيّة، تكنولوجيّة، وسينمائيّة حركيّة نابضة قد أسهمت في جملة ما قدّمته من منجزات، في توليد جنس مبتكر من “الكتابة المُشتبكة” ناغَت بوساطتها جمهورًا متعطشًا إلى الجديد المختلف، إنسانُه متلهفٌ دائمًا على فعل المغامرة، لأنّه اعتاد على مَزجِيّة محبّبة ما بين الكلمة، وبين حركيّة الصّورة، والتفلّت من الحدود النّهائيّة الفاصلة للأجناس والأنواع.
وهذا الجنس هو ما أطلق عليه مصطلح ” أدب الخيال العلمي”، ولذلك يمكن للقارئ أن يفهم سبقَ كتّاب كبارٍ في أوروبا وأمريكا، والاتّحاد السّوفياتي، واليابان إلخ، إلى إنتاج كمّ كبير من روايات هذا النّوع متماهِين مع الحواضن العلميّة المتواليةِ الاكتشافات على امتداد عقودٍ زمنيّة سالفة، ومع المشهديات العسكريّة المتفوّقة الّتي وجدوا أنفسهم يسبحون فيها، لا سيّما أنّ هذا الضّرب من الكتابة ينطلق من نظرياتٍ وفرضيّات علميّة، ليبنيَ عوالمَه المتخيّلة بأدوات أدبيّة، فيعالج في نسيجه السّرديّ موضوعات مغايرة أبرزها: السّفر عبر الزّمن، ظاهرة الأطباق الطّائرة، الكواكب الرّديفة لكوكب الأرض، غزو الكون، البحث عن الخلود…وسوى ذلك من موضوعات برزت في غير رواية، انتمى كتّابها إلى إحدى البلدان الغربيّة المشار إليها.
- أهمّية الدّراسة والإشكاليّة المطروحة: يشكّل هذا النّصّ السّرديّ= رواية نزوح نسقًا من طبيعة مختلفة، ذلك أنّ الاستعمال الأدبيّ فيه، واشتباكه مع الاستعمال العلّميّ للّغة، والتّوظيف المقصود لمصطلحاتها، يحوّل الّلسان إلى حاملٍ لدلالات رمزيّة تدفعه إلى تجاوز بعده التّعيينيّ المحدّد؛ وهذا التّحوّل هو الجوهر الرّئيس الّذي يجب الإمساكُ به من أجل الوصول إلى دلالاتٍ أبعد للنّصّ، لا تؤدّيها الكلمات بصورة مباشرة، ما يشكّل مبررّاً للبحث عن معانٍ أخرى غير ما تحيل إليه الكلمات المقولة، لأنّ” كلّ دلالات العناصر المكوّنة للعمل الفنّيّ يجب أن تؤوّل وفق السّنن الأدبيّ” (Roy,200:279). المقدّمة:
فما المقصود بمسرود أو “أدب الخيال العلميّ”؟ وما الأسباب الكامنة خلف توالي إنتاجاته في الغرب، وقلّتها في الشّرق؟ وهل يمكن لنا الحديث معه عن جنس أدبيّ حواريّ عابر للتّصنيفات الضيّقة المحدّدة، مع ما ينتجه من عوالم تفيد من الإمكانات العلمية المتنوّعة، وما يفرزه من رؤى علميّة مستقبليّة؟
تبرز في محاولة الإجابة عن بعض الأسئلة المطروحة، فرضيّتان تقول أولاهما: إنّه قد يبدو من غير المجدي بالنّسبة للبعض، أن ينصرف كاتبٌ عربيّ إلى معالجة رواية عربيّة يهيمن عليها الخيال العلميّ، جاعلًا من المنجز التّكنولوجيّ، ومن روبوتاته الذّكية العملاقة أسًّا متينًا يغزل مسروده الفنّيّ من نسيجه، فيتحرّك في ظلاله، بناءً على مشورته، أو وفق اختياره “لكنّ لجنتنا وكمبيوتراتها الذّكية الفذّة اختارته من فتاتين وثلاثة شبّان” ( سروري، 2024: 10)، في حين تتصدّر مشكلة الأميّة في بعض أنحاء العالم العربيّ، وتتراوح نسبتها في بعض مناطقه، ما بين 25-40%( عاصم، داليا، مقال النّهوض بالتّعليم في العالم العربيّ، (On line) الرّابط التّالي: https://aawsat.com/home/article، سبتمبر 2016) استرجع 4/5/2024). في حين تربط الفرضيّة الثّانية بين ضعف الإقبال على الكتابة في النّوع، وبين ضعف الرؤية المعاصرة للتّعليم تلك الّتي يجب أن تقوم على تحرير الفرد، وعلى التّمرّس بقيم الدّيمقراطيّة، وقيم العقلانيّة مع الاستفادة من ثورة تكنولوجيا المعلومات ومن ولاداتها المتلاحقة.
في ضوء هذه الرّؤية، تتبلور أهمّية رواية “نزوح” في كونها منتجاً سرديّاً يتجاوز التّجريب البسيط إلى محاولات التّأصيل للنّوع، عاكساً تطلّعَ كاتبه إلى التّغيير “برفضه القوالب الجاهزة المألوفة، والشّخصيّات النّمطيّة، والأشكال التّعبيريّة البسيطة” (يقطين، 2011: 20) ليعالجَ، من خلال مسروده، إشكاليّة العلم في علاقته بالأدب، على نزوعٍ إلى توظيف الفانتازيا أحيانًا، ينسج في ظلالها لغة خاصّة تجمع ما بين التّراث العربيّ الدّينيّ/ الثّقافيّ، وما بين لغة الحداثة/ التّكنولوجيّة، بمفرداتها وبطقوسها.
- الجنس الكتابيّ الجديد، والتّكامليّة المثاليّة لشخوصه في “نزوح”:
نقرأ في لسان العرب، في مادّة “خال”: خال الشّيء خيلا وخيلةً وخيلانا ومخايلة ومخيلة وخيلولة: ظنّه (ابن منظور، 1994:226)، وفي الاصطلاح ” الخيال قوّة تتصرّف في المعاني لتنتج منها صورًا بديعة، وهذه القوّة تصوغ الصّور من عناصر كانت النّفس قد تلقتها عن طريق الحسّ والوجدان، فليس في إمكانها أن تبدع شيئًا من عناصر لم يسبق للمتخيّل معرفتها ( عتيق، 1972: 119). أمّا العلم لغةً: فعلم يعلم علما نقيض الجهل، ورجلٌ علاّمة، علاّم، عليم ، ( www.almaany.com (Online)).
وعليه فالخيال العلّميّ Science Fiction جنس كتابيّ حديث في الثّقافة الإنسانيّة؛ إنّه نوع أدبيّ أو سينمائيّ تكون فيه القصّة الخياليّة مبنيّة على الاكتشافات العلّميّة التّأمليّة والتّغيّرات البيئيّة، وارتياد الفضاء، والحياة على الكواكب الأخرى www.almaany.com (Online))، واصطلاحا هو ” مجموعة من الحقائق المنسقّة المتّصلة بجانب من الكون، أو بمنحى من الشّؤون الإنسانيّة، وهي خاضعة لنظام من النّواميس العامّة، والقواعد الخاصّة، وغرض العلم المعرفة من أجل الانتفاع بالصّواب، والاحتراس من أضرار الخطأ ووسيلته البحث ( الجابري، 2002: 21)، فهو يؤشّر إلى نشاط عقلي، يمكن للفرد من خلاله ابتداع وتكوين صوررة ذهنيّة فريدة لأشياء جديدة، في مجال العلوم الطّبيعيّة، وذلك بالاستناد إلى خبراته العلمية السّابقة، وإلى ما تتيحه الإمكانات العلمية الحاضرة، والرّؤية التّنبؤيّة لمستقبل العلم ( مرسي، 2014: 137).
من رحم هذا الجنس الأدبيّ، وفي ظلال طقوسه يبني حبيب عبد الرّب سروري الفضاء السّرديّ لروايته ” نزوح”، مقيمًا التّوازي بين عنصريْ الحقائق الإنسانيّة الوجوديّة، والحقائق العلمية التّكنولوجيّة الذّكية المتراكمة، وما يتعالق معها من عوالم متخيّلة، يُشيدها الكاتب مَاتحًا من ثقافتين تتذاوبان بانسيابيّة لافتة في وجدانه، وفي فكره، كما في أدوات التّنضيد الّلغويّ الّتي يتبنّى مصطبغةً أحيانًا بتهكميّة ساخرة محبّبة؛ وهاتان الثّقافتان هما: الثّقافة المشرقيّة الدّينيّة التّقليديّة بأبعادها الّلغويّة الصّوفيّة، والثّقافة الغربيّة المعاصرة بأبعادها العلمية الرّياضيّة التّكنولوجيّة والفيزيائيّة، تمكّن من خلالهما من إنتاج نموذجِه الرّوائيّ الخاصّ متقاطعًا مع ما أكّده المنظّر الّلغويّ باختين M. Bakhtine في إقراره إيمانَ النّاقد الألماني شليخل Karl Schlegel من كون “كلّ رواية هي نوع أدبيّ في ذاتها، وأنّ جوهرها كامنٌ في فرديتها وخصوصيّتها…بل هي خلاصة خليط من كلّ الأنواع الأدبيّة الّتي سادت قبلها” Todorov,1981:13))
وانبثاقًا من ثقافته الإنسانيّة، نجد سروري يؤكّد منذ الفصل الأوّل لروايته، بَداهة وأهمّية العلاقة الجدليّة الكيانيّة ما بين الذّكر والأنثى، وضرورة تكاملهما لكي يتولّد توازنٌ في الكون، ويكونَ استواء” يحتاج ذلك الغاز الذّكوري إلى هذا الغاز الأنثويّ على نحو عضويّ لا انفصام له، وباتحادهما يولد مصدر الحياة: الماء…فكيمياء علاقة الرّجل بالمرأة انعكاس واستمرار لعلاقات عناصر الطّبيعة” ( سروري، 2024: 10)، ممهّدًا من تأكيده على هذه العلاقة، لسّؤال إشكاليّ يمثّل الهدف الخفي للرّحلة الفضائيّة الغازية للكون، وجوهره امتحان القدرة البشرية ” على الاستيطان الدّائم، والتّناكح والتّناسل والتّكاثر خارج مجال الجاذبيّة الأرضيّة” ( سروري، 2024: 11)، ما يصيّر رحلته المفترضة، مثار فضول وتطلع ومتابعة، بل يجعلها رحلة تاريخيّة “ينتظر نتائجها الجميع” ( سروري، 2024: 12).
يقترف سروري مغامرته = الأدبيّة/ العلميّة+ التّخيلية/ الارتحاليّة متوسّلا في سبيل سيرورتها، راويًا مهيمنًا يرسله من داخل كون القصّ، ليقولَ بوساطته؛ هذا الرّاوي هو حديبو (الصّوت الضّمنيّ للكاتب المتخفي خلفه)، يتموضع في القصّ، في موقع ” رئيس لجنة الإشراف الأرضيّ” المتابع الفعلي لطاقم مركبة الرّحلة الفضائيّة/ المزدوجة، والرّحلة هي انتقال واحدٍ أو جماعة من مكان إلى آخر لمقاصد مختلفة، ولأسباب متعدّدة( البستاني، 1988: 564)، فيستعرض من خلاله، كما من خلال أصوات الرّواة الآخرين تظهّرهم “المشاهد” المتوالية في الرّواية، منظورَه العلميّ والإنسانيّ الوجوديّ المتنوّع بتنوّع حواضنه، وذلك وفاق منظومة فكريّة تأمليّة فلسفيّة يعتنقها، ويحاكم الوجود والموجود من خلال أفكارها، معطياتها، ثوابتها، ومنجزاتها.
يتخيّر الكاتب لرحلته مجموعتين من البشر، تتصف كلتاهما بمثالية مطلقة في المشهديّة، وفي طرائق التّفكير المغاير؛ فقوام طاقم المركبة الفضائيّة النّاقلة للرّحلة الأولى XxxXx00F امرأتان هما خَولة وقائدة الفريق مانيارا، وثلاثة شبّان يتمتعون بقدرات مائزة، أي “خمسة جميلون مذهلون غاية الإذهال”، عاشقون للفضاء يمتازون بقدرات عقليّة رياضيّة تكنولوجيّة عالية وبإرادات نيتشاويّة عالية( سروري، 2024: 11)، ستدوم رحلتهم مدّة عامين كاملين، في حين يتكوّن طاقم الرّحلة الثّانية Yyy4+1W، أو ” مركبة العائلة السّعيدة” الّتي غادرت الأرض بعد نصف عام من مغادرة المركبة الأولى، من أفراد من نمط خاصّ، فالطّاقم يضمّ أربع فتيات عالمات يضاهين بدبلوماتهنّ، وبتجاربهنّ الفضائيّة روّاد فريق بيغاسوس، ويجمعهنّ موقف واحد مناهض “لفكرة الإنجاب من دون ذكر”، وعدم الرّغبة في العودة مجددا إلى كوكب الأرض، أمّا خامسهنّ فشاب/ “نبي ونبوّته” ذات طابع مختلف، وهو يفارق زملاءَه في كونه يرغب بالعودة إلى الأرض، من بعد تلقيه الوحي من ” جزيرة الوحي”، الواقعة – كما يعتقد- في مكان ما في الفضاء”(الرّواية: 61)، ليكون مستقبلا خلاصًا للأرض من كلّ أوجاعها وكوارثها… تزوّج الرائدات المرافقات له دفعة واحدة معًا، بعد بدء الرّحلة بقليل. تقتصر رحلة الفريق الثّاني على العام ونصف العام فقط.
يضمرُ الرّاوي ومن خلفه كاتبُه، توجّسًا عميقًا حيال “إشكاليّة الحضارة البشريّة الأكثر تهديدًا لمصيرها الوجوديّ” المتمثّلة في ظاهرة “تراجع الإنجاب” ( سروري، 2024: 17-18)، لذا يطرح السّؤال المركزيّ الّذي يمثل أحد الدّوافع المحفّزة على الرّحلة المتخيّلة، وهو” هل يمكننا نحن البشرَ، أن نضاجعَ ونجامع وننجب ونتناسل ونتكاثر بعيدًاعن نطاق قوّة جاذبيّة أمّنا الأرض؟” (سروريّ، 2024: 12) ، وهو سؤال سيغتذي من هوس طاقم المجموعة الأولى بالمغامرة، ومن حبّ الاكتشاف للعوالم الجديدة الّذي تبلور مسًّا محمومًا بالنّسبة إليهم، جعلهم يرون ” كوكب الأرض مجرّد نقطة زرقاء شاحبة رقيقة مهترئة، هشّة زائلة، في محيط كونيّ متلاطم” ( سروري، 2024: 14)، وسيفيد تاليًا من أنوثة خولة، ومن ملكاتها الغرامية الخصبة، ومن افتنانها المغروس في حمضها النووي بعالم الفضاء الرّحيب، وبالقمر المقيم في أنحائه، وهي الفرصة عينها المتاحة مع رائدات الطّاقم الثّاني.
8-تسبيب النّزوح والتّمثيل البلاغيّ للعنونة:
يَظهَر العنوان” نزوح” للمتلقي، عنواناً مستفزًّا مفتوحاً على تضاديّة الإكراه والاختيار المطروحة دومًا في الحياة؛ فلهذه العتبة النّصيّةأهميّتها المنبثقة من بعدها الدّال لكون العنوان مؤشّرًاً تعريفيًّا وتحديديًّا ينقذ النّصّ من الغُفلة (حسين،2007: 32)، ويؤدّي ببعده الدّلاليّ والإيحائي دوراً مهمّاً في عمليّة تأويل النّص واختزاله، إذ يقوم بتعيّين طبيعة النّص الذي يَسمه مشكّلا الإشارة الأولى الّتي تواجه المتلقّي فتكون أحيانًا مفتاحًا دلاليًّا يستطيع اختزال المرسلَة.
تتيح لنا القراءة التّحليليّة لعنوان هذه الرّواية، البحث في دائرتين مشتبكتيْ العلاقة هما: عنوان النّصّ ومتن النّصّ، فهذا العنوان يورّي من ناحية “النّزوحات الكثيرة” الّتي تعرض لها المستضعفون اضطهادًا، وظلمًا في أنحاء كثيرة من الأرض، وذلك على مرّ الأزمان والعصور، في تأشير إلى ما شهدَه كوكبُنا من حروب دامية اقتاتت البشر والحجر، ودفعت الكثيرين منهم إلى ترك أراضيهم، وكلّ ما لهم عليها، ) هذا ما حصل في اليمن موطن الكاتب الأصليّ)، وما لحق بأشباهه من الدّول الّتي يشهد المؤرّخون لها بالحقيقة المرّة، ومفادها أنّ “تاريخ البشريّة تراجيديّات دائمة، تموت حضارات فيها، وتنقرض من ذاكرة الأجيال أحيانًا، وتفرغ مدن كاملة من سكّانها بسبب الإبادات أو الطّرد أو النّزوح، ويحلّ محلّهم سكان آخرون، لاستبدالهم عن قصد، أوعن غير قصد” (الرّواية:195) في أحايين أخرى.
بالمقابل، يحمل هذا العنوان ترميزًا إلى الطّموح، وإلى إمكانيّة تعبيد سبل العيش في زمن المستقبل الآتي، والسّفر إلى فضاءاته، بدل الرّكون إلى الاستعادات العبثيّة للماضي/ الثّقب الأسود الّذي يبتلع من يحيا فيه وله، ليتأبّد أسيرَ تكرار لا نهائيّ تنعدم قيمة معه الزّمن/ الحاضر، وتفقد فعاليّتها. وما دام النّزوح= نزح ينزح عن بلاده رحل عنها، ونزح إلى مكان آخر ( معجم المعاني الجامع (Online) www.almaany.com)، فإنّ دلالة المسار الكونيّ الّذي ستسلكه تلك الرّحلة الغازية للفضاء، والنّازحة عن كوكب الأرض، ستحمل معنى الخروج والابتعاد عن مقرّ السّكن التّقليديّ، والسّعي إلى نشدان فضاءات أخرى أكثر تلبية لطموحات ابن الإنسان، لاسيّما لروّاد الرّحلة الأولى المفتونين منذ نعومة أظافرهم بالتّطلّع إلى القمر، وبتأمّل النّجوم والفضاء، والمسكونين بشغف ميتافيزيقيّ ” لا حلّ له إلّا بالرّحيل إلى أعماق السّماء، لثقب أسرارها، بترويضها، والتّجوّل في أحشائها…فالكون مملكة الإنسان، والفضاء هيكله” ( سروري، 2024: 167).
هو خروجٌ مقصودٌ يتبدّى منذ بداية الرّحلة، رشيقًا حيويًّا نابضًا بالحماسة، وبفرح الشّباب وانطلاقهم، تغزله لغة الكاتب الفتيّة النّابضة، إلاّ أنّه يبقى مرتبكًا يعرُوهُ اضطرابٌ بفعل الاسترجاع الّذي يمارسه “رئيس لجنة الإشراف الأرضيّ” ربطًا بالأماكن المرجعيّة الّتي ينتمي إليها، إذ تكشف التداعيات، وتلك الاسترجاعات أنّ هاجس البحث عن موضع استيطان جديد مبعثُه بالإضافة إلى “شغف الاكتشاف”، “اليأسُ من عالم أرضيّ معتلّ”، كثرت أوبئته وعمّ فساده، فصار طاردًا لأبنائه، ومحفّزا لهم على فعل الرّحيل. والسّبب في ذلك، انهماكهم بالحروب على أنواعها، بحيث صاروا يقضون حيواتهم يتقاتلون، ويكرهون بعضهم بعضًا مسخّرين المنجزات العلميّة القيّمة الّتي ابتكروها، معرّضين الكوكب بأسره لخسارتها، ولخسارة كلّ ما أنجزته الحضارة البشريّة حتّى يومنا هذا” أنا استحضر شريط حروبنا اليوميّة التّدميريّة والإباديّة، قنابلنا الذّريّة، روبوتاتنا القاتلة…وأصناف التّعذيب الّذي نمارسه في السّجون طوال التّاريخ…” (سروري، 2024: 63).
وبالعودة إلى المتن المسرود، ستشكّل “الإدانة” لتوحّش البشر بؤرة دلاليّة يطلّ منها الرّاوي على منجزات العلم محتفيًا بها متى أُحسن توظيفها، وواجدًا الخلاص الحقيقيّ من خلالها، ليرتفع على وقعها شعار “اكتشاف كوكب جديد مسالم”، يكون هو التّحقّقَ المتوخّى. لذلك يمكن لنا الحديث عمّا يسمّى وظيفة الرّواية، بحسب النّاقد الفرنسيّ رولان بارتRoland Barthes، لكونها تربط بين الإبداع والمجتمع، فهي أي الرّواية، الّلغة الأدبيّة المتحوّلة من خلال وجهتها المجتمعيّة. إنّها الشّكل المتأثّر بالنّية الإنسانيّة، وهي على هذا النّحو، مرتبطة بالأزمات الكبرى للتّاريخ ( Barthes, Le degré zéro : 14).
يُبرِزُ العنوانُ في ضوء ذلك، وهو الجملة الإسميّة القائمة على حذف مبتدئها، قضيةَ الوعي البشريّ من خلال الأدبيّ/ التّخييليّ في علاقته بالوجود، وبالواقع الاجتماعيّ المعتلّ، ربطاً بمقولة كارل ماركسKarl Marx “ليس وعيُ البشر هو الّذي يحدّد وجودهم، بل إنّ وجودَهم الاجتماعيّ هو الّذي يحدّد وعيهم” (لوكاتش،1979: 60)، تأشيراً إلى حتمية تحقّق الخلاص على يد الإنسان السّاعي إلى الخير، والمتبني لثيمة العشق الصّافي خلاصًا، نضح به إعلان خولة في الخاتمة” العشق نسغ الرّوح، والتّقدّم الحقيقيّ هو ثراء هذا النّسغ، هو ازدياد العشق الإنسانيّ للآخر، للعالم، للكون” ( سروري، 2024 : 253) منظورها الفلسفيّ سبيلاً أوحدَ إلى التّصالح مع الحياة، وإلى تحقيق السّعادة لإنسانها/ الرّماد، السّاعي في رحابها الفانية بإيمان ورجاء.
9-البعد الاستشرافيّ في الرّواية ومحاولات نَوال الخلود:
تمثّل “نزوح” باعتبارها خطابًا، كيفيّة خدمة الخطاب لوجهة النّظر/ الرّؤية الّتي ينبثق منها القول، بحسبانه نتاج فكرةِ الوعي التّاريخيّ للذّات الجمعيّة، ومبعث الفكريّ الّذي يضمره الرّوائيّ حيال العالم المحيط به، بحيث يشكّل كوكب الأرض، والوطن بأبعاده الدّيموغرافيّة، والسّياسيّة إحدى البؤر التي تعبر من خلالها الأحداث والأشياء والأشخاص، وكلّ من وما يسهم في تكوين عالم النّصّ الرّوائيّ لهذه الرّواية الّتي تصوغ قواعدها الخاصّة بها؛ يبيح الرّاوي لنفسه مثلا، وهو يقطع سياق السّرد، أن يخبر القارئ أنّه سيتخيّر أسماء أبطاله، وسيطلق عليهم رموزًا، أو أحرفًا تومئ إليهم” كنت أنوي أن أطلق عليها- خولة- اسم هيلين الّتي تفجّرت حرب طروادة بسببها…إحداهن فيلسوفة سأطلق عليها اسم فاء، الثّانية شاعرة سأسمّيها: شين…” ( الرّواية:15-59)، وكأنّه يمثّل بفعله، ما قاله روجي كايلوا R. caillois يومًا، من أن “لاقواعد للرّواية، فكلّ شيء مسموح فيها، وليس هناك أي فنّ بوطيقي يذكرها، أو يسنّ لها قوانينَ، إنّها تنمو كعشب متوحّش في أرض بوار” (Caillois, 1942: 210)
يعيد الكاتب خلال ارتحاله المتخيّل إلى رحابة عالم الفضاء، تسريد عالمه المرجعيّ فنيّاً متوسّلاً لعبة الدّلالات ساعياً عبر تقنياته السّرديّة، إلى بلوغها في نصّه، وإلى تجسيدَ الإجحاف التّاريخي الذي تعرضت له منطقةٌ جغرافيةٌ محددةٌ من العالم، هي أرض اليمن، والإضاءة على محاولات التجهيل له من قبل سلطاتها تلك الّتي قادته إلى الاحتضار التّدريجي، “فتخثّر في دوّامة ثالوث ثوابته، وتشظّى إثر هيمنة عصاباته السّلاليّة، وصراعات ميليشياته، وحروبه الدّاخليّة الدّائمة مثله مثل دولٍ يحكمها طغاة فاسدون متأبدون، لم تغادر بلدانهم حياة الماضي السّحيق حتّى اندثارها” (الرّواية: 194-195)، وذلك نتاج محاولات الاستضعاف لساكنيها، بل تركهم لمصائرهم، تعصف بمعظمهم الأمراض والأوبئة والمجاعات والفقر القاتل، في كنف عالم مجحف ” تناساهم أوّلا، ثمّ نسيهم كلّية وهو يلهث وراء همومه الخاصّة (الرّواية: 195)
تمثّل هذه المشهديّة التّاريخيّة بوقائعيّتها القاسية تغذيةً لنزوع الكاتب في نصّه، إلى عوالم جديدة مغايرة يسود فيها الإنسان العاقل العالمَ مقدّمًا مشهديّة مقابلة، يقودها الخيال العلمي الممزوج بالحقائق المثبتة، وبالرؤية التّنبؤيّة، كما كتب يومًا جول غابرييل فيرن ( Jules Verne 1828-1905) (Arts and Culture https://artsandculture.google.com))، وهربرت جورج وايلز(H.G. Wells (1866-1946)، (الرّوائيّان المؤسّسان لأدب الخيال العلّمي)، وكما يفعل سروري في روايته هذه، حيث ينشئ عالمًا مؤسّسًا على معرفة وافية بالعالم الخارجيّ والدّاخلي، تقترن بمعرفة بالماضي فتتاح له الفرصة ليتنبّأ بالمستقبل، اتّكاءعلى التّجربة العلّمية الثريّة الّتي عايشها، وأسهم في بعض منجزها مؤمنًا “بأنّ معظم ما نعيشه اليوم كان يعتبر خيالا علميًّا قبل سنين فقط” (الرّواية: 68).
يتجلّى المنجز العلميّ الّذي يفتن الكاتب، في مجال صناعة وتطوير الرّوبوتات الذّكية الّتي صارت تنافس الذّكاء البشريّ الفطريّ لبرمجتها بخوارزميات معقّدة، لدرجة يُخشى منها على ذكاء الإنسان مستقبلا، وربّما على وجوده، فتتبلور مشاهد سورياليّة أفرزتها منجزات الحداثة الواقعيّة، استثمر بعضها خيال الكاتب في متن الأحداث، مزاوجًا بينها وبين بعض الموروث التّاريخيّ/ أو الأسطوريّ أحيانًا، حيث يستحضر السّرد صناعات تكنولوجيّة مهولة باتت صادمة، ومذهلة في آن “المنظر مهيب في الحقيقة، الصّاروخ الّذي يحمل الكاتدرائيّة عملاق كناطحة سحاب تقريبًا، على هيئة برج بابل معدنيّ مروّع، مقدّمته المخروطيّة الحادّة مرعبة، كما لو كانت في طريقها لطعن أحشاء السّماء” (الرّواية: 51) “هي تحفة ألكترونيّة صغيرة ينتظرها الطّاقم بسعادة – تقترب بسرعتها الخارقة من سفينتنا العملاقة- يلتحم الكائنان الألكترونيان التحام جبابرة ألكترونية- تندمج أياديهما الرّوبوتيّة وتتشابك بتلتان فولاذيتان مكونتان من ثقوب ونتوءات” (الرّواية: 137)
على أنّ هذا التّقدّم العلّميّ المتسارع الذي شكّل نواة هذا العمل الأدبيّ/ العلميّ لا يُنسي كاتبَه أن يطرح- متجاوزًا تخييله- إشكاليات معقّدة في حال تمّ استغلال الفرص مجددًا، من قبل إقطاعيي الأرض الّذين عاثوا فيها فسادًا وإفسادًا. وبذلك، يبرز استشراف الرّاوي المتمثّل بإمكانية انتقال إقطاعيي الأرض إلى القمر، حيث قد يفرضون شراء الفيزات من ” شركات الاقتصاد القمريّ”، ويهدّدون “بتفجير أي مركبة تخترق أجواءهم القوميّة” (الرّواية: 206) / بل سيكثر العمران على أسطح الكواكب المكتشفة الّتي يمكن العيش فيها “يعرف الخمسة أنّ ثلاثين قرية سياحية لم تطأها بعد رجل إنسان، مؤسسة بأحدث الكبسولات الفضائيّة والروبوتات الذّكية المتخصصة”( الرّواية: 207)؛ وإذ صحّ واقع حمْل خولة من جلال، نجده يستشرف خطورة تمام حمْل خارج الغلاف الأرضيّ، وتخوّفه من عُتوِ الإنسان وافتخاره من مثل هذا التّحقّق، فحينذاك ” سيتضخم غرور الإنسان وفخره بإنجازاته الاستيطانيّة الفضائيّة، وستتدفّق سيول شهواته بغزو الكون واستباحته، كأنّه يعيد تجربة كريستوفر كولوكبوس” (الرّواية: 223).
بالإضافة إلى ما سبق، تتبلور في الرّواية، ثيمة البحث عن الخلود، وهي الشّغل الشاغل للبشر منذ أقدم العصور، حيث التّفتيش الدّائب عن العَقار الأسطوريّ ” إكسير الحياة”، وعن ” عشبة الخلود” الجلجاميشيّة، ومحاولات التّحايل على الموت كفعل الكيميائيّ جوهان كونراد ديبل تمثيلًاّ ، والّذي كان يسعى في إحدى تجاربه إلى تحويل روح شخص يحتضر إلى جسد شخص آخر ميْت...(www.fdolmarefa.com). وتتبدّى خولة أنموذجًا للشّخصيّة المسكونة بهاجس الخلود ( ضمن طاقم الرّحلة الأولى) تخاتلها رغبة محمومة تماثل الحلم الفنتازيّ في خروجه عن المألوف؛ وهو حلمٌ لا شفاء منه تسعى إليه بشبق وتلهف، فهي “تريد إنجاب طفل أو طفلة تحمل جيناتها، وتشبهها تمامًا، ترفعها بيديها أمام الشّمس والنّجوم بعشق وفخر وسعادة” ( الرّواية:19)، تتطوّر هذه الرّغبة لتستحيل تصميمًا يمتزج في وجدانها، وفي سلوكها حيال سباسكي وفيشر بداية، وحيال جلال تاليًا ” لماذا لا تكون أوّل إنسانة، في تاريخ البشريّة تنجب خارج كوكب الأرض في القمر معشوقها الأوّل؟…فهل ثمّة ما هو أعظم وأهمّ وأخلد من تصميم أوّل طفل بشريّ خارج كوكب الأرضن وإنجابه في السّماوات؟” (الرّواية: 20).
كذلك بدا نون/ فريد زوج النّساء الأربع في ” مركبة العائلة السّعيدة”، باحثًا لجوجًا في طلاب الوحي من السّماء، يدأب على الخروج يوميّا من المركبة الفضائيّة مستخفًّا بخطورة تعريض نفسه، لفضاء مشحون بالأشعة الكونيّة وبالرّياح الشّمسيّة، وهو أمر سيودي إلى حتفه في ختام الرّحلة، لتنتهي معه أحلام النّبوة القائمة على الوحي، في تضمين يقبع في داخل الكاتب يرفض من خلاله فكرة الوحي، وما يرتبط به من تحصيل المعرفة “جاهزة”، مرتبطة بعوامل خارجيّة بعيدًا من إعمال الفكر البشريّ، وتيقّظ وعي حامِليه.
10- تناصيّة الحوار والأبعاد الدّلاليّة للخطاب: لكن إلى أي مدى تتحقّق في هذه الرّواية خاصيّة تفاعل الخطابات، وما مدى اشتغال آلية الحوار فيها؟ لا بدّ من التنبّه إلى الاشتباك الحاصل ضمن النّسيج السّرديّ لهذه الرّواية، للعديد من الأنواع والأجناس التّعبيريّة، بحيث تتذاوب ضمن انبنائها الفنّيّ مع السّرد والحوار، ما يولّد تمازجَها وعناصرَ القصّ الأخرى: كالأزمنة والفضاءات المكانيّة والشّخصيّات، متماهيةً والسّياق القصصيّ النّامي، طابعةً إيّاه بسمة الوعي الّلسانيّ، في ملاقحته السّياقات التّاريخيّة/ الاجتماعيّة المرجعيّة، والمشكلّة هوّيته الثّقافيّة/ المنبع.
يماثل العمل الأدبيّ الّلوحة الفنيّة الّتي تتنوّع خطوطها وألوانها في سبيل استيلاد صورة جاذبة يتزاوج في مساحاتها الماضي والحاضر في تناغميّة الاستمرار، وفي توّلد القدرة على استشراف المستقبل المتطوّر، وفي ذلك تحقّقٌ لمبدأ الحواريّة الّذي يقول به الفيلسوف والمنظّر الّلغويّ الرّوسيّ ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin (1895-1975) مع ما يستتبعه ذلك، من تعدّد الأصوات والأساليب والمواقف، وتباين الرّؤى والتّوجهات الفكريّة، وكثرة الشّخصيّات؛ فتلك الّتي تقود الأحداث في فضاء الرّواية ليست مجرّد شخصيّات من ورق يتحكّم فيها الكاتب، وإنّما هي وسائطُه إلى القول، وحمّالة القيم الدّلاليّة بتعابيرها وبانفعالاتها الّتي لا تتحكّم فيها الفرديّة، بل تجاوزها إلى الخاصيّة الاجتماعيّة، وبذلك، تكون الرّواية هي الجنس الأدبيّ الأكثر تجدّدًا بين الأجناس الأدبيّة الأخرى لكونها ” تأخذ الجديد الّذي لم يتكوّن، وتنبئ بجديد لا يراه غيرها، معلنة أنّها تخاطب المستقبل قبل أن تحاور الحاضر الّذي تتغيّر فيه” (34).
يتبنّى عبد الرّب سروري في روايته نزوح، الّلغة العلميّة الدّقيقة المختصّة بعلوم الرّياضيات-الأرقام، الأعصاب، التّكنولوجيا، الأبعاد الجغرافيّة/ التاريخيّة، والفيزيائيّة تنضح بها مفردات وعبارات من مثل: ” ما دام هناك كواكب بلا عدّ، شبيهة بكوكبنا في فترات دوراتها، ومسافات بعدها عن شموسها الخاصّة…وجود المياه فيها والأغلفة الجويّة والحقول المغناطيسيّة …ملايين السنين الضّوئيّة… سرعة الضّوء…منذ العام 1977 تتوالى مسابر تبشيريّة ( الرّواية: 62-63)، ” علوم الفضاء، مركباتها الحديثة، الأمراض الفضائيّة، غياب الجاذبيّة الأرضيّة، صخوره البركانيّة ( الرّواية: 210) ” الدّوار الكونيّ، عصبونات دماغها، أوجاع وتساؤلات وجوديّة، حالة نفسيّة ميتافيزيقيّة خاصّة كما لو دخل باب ملكوت الموت” (الرّواية: 212-213)،” ربيع المريخ المُشرق في قطبه الشّمالي، لصحاريه الحمراء، بعض صخوره ذات الأشكال الغرائبيّة، لمذنبات تعبر علياءه، عواصف جبّارة” (الرّواية: 217)
في حين يبدو الكاتب من جانب آخر، مسكونَ الوجدان بلغة متماسكة البِنى، صافية المنبع ترتقي معها روايته لنجد النّصّ الّذي يبدو أحيانًا علميًا خالصًا نصًّا ملتفًّا بجلباب الفنّيّ الإبداعيّ الشّعري، وأمثلة ذلك كثيرة في الرّواية: استحضار بيت الفيلسوف أبي العلاء المعرّي: هذا جناه أبي عليّ/ وما جنيت على أحد ( الرّواية: 18) بيت طرفة بن العبد” لخولة أطلال ببرقة ثهمد …” ( الرّواية: 246)، استعادة بعض الفنّيّ الرّوائيّ: يبرر عشق مانيارا لكوكب الأرض” منذ صغرها، بعد أن قرأت رواية أنطوان دو سانت إكزوبيري الأمير الصّغير …حلمت بأن يمتلئ القمر والمريخ ببساتين وغابات ومروج ( الرّواية: 41)…يسترجع أحداثًا من روايات ” قمم البراكين والحمم تحت رجليه. قمم الهملايا تحت قدميه، قمم كليمناجارو. يتذكّر السّطور الأولى المدهشة لرواية همنغواي ثلوج كليمنجارو” ( الرّواية: 101) يتحدث عن نون، وعن رغبته للعودة إلى الأرض فهو لن “يلجأ إلى الهروب خارج العالم، بأي ثمن حسب تعبير بودلير” (الرّواية: 103)، يينحاز إلى صدقية بروست عندما قال ” الحياة الحقيقيّة” الفنّ ( والرّواية على وجه الخصوص) من يكشف الّلامرئيّ” (الرّواية: 155)، ويستدعي التّراث” مساحة آمنة لذيذة هادئة، تحيطها الزّوابع والتّوابع من كلّ مكان” ( الرّواية: 219) في تورية تؤشر إلى “رسالة التّوابع والزّوابع” لابن شهيد الأندلسي (قصّة خياليّة تحكي رحلة في عالم الجنّ)، يسمّي الرّوبوت الذّكي العملاق ” وادي عبقر” مستدعيًا وادي عبقر المسكون بجنّ الشّعراء العباقرة ( الرّواية: 55) إلخ.
كما تتجلّى شعريّة الوصف حين يستحضر أرخبيل سُقطرى ” تتلألأ في كلّ صدف لحائها وجوانبها ومجسّاتها الألوان الطّاؤوسيّة البنفسجيّة والذّهبيّة والزّرقاء النّاصعة…تتداخل مع كلّ تنويعات ألوان قوس قزح، في أشكال انسيابيّة ومنحنيات بديعة، بتصميم مدهش. يا لها من لوحة ساحرة”(الرّواية: 194)، وتحضر الفلسفة على لسان الفيلسوفة “فاء”، وعلى لسان حديبو، وهو يتحدّث عن الفلسفة الطّاوية…هيغل…نيتشه ( الرّواية: 72)، هذا بالإضافة إلى أثر الأبعاد الدّينيّة الصّوفيّة ” تراود جلال رغبة ترجمة مقولة مولانا جلال الدّين الرّومي لبعض رفاقه ” لا يفنى في الّله من لا يعرف قوّة الرّقص” ( الرّواية: 162).
كذلك يعمد الكاتب إلى توظيف علاقات تناصيّة مع النّصّ القرآنيّ الكريم، ما يكشف قدرته على استنطاق الدينيّ المقتبس، وتفجير طاقاته الكامنة، وامتصاصها وإخراجها في شكل تراكيب لغويّة، وذلك ضمن سياقات سرديّة فلسفيّة، وفكريّة تتماهى والدّوافع المحفّزة على تلك التّناصات الاقتباسيّة المباشرة: في قرية = وادٍ” غير ذي زرع” ( الرّواية: 102)، أو الضّمنيّة ” الصّافنات الجياد الألكترونيّة” ( الرّواية: 29) ” جلال، كبيرنا الّذي علّمنا السّحر” ( الرّواية: 39) “ما إن انطلق المحرّك النّفاث المدعوم بعشرات الموتورات الضّخمة للصّاروخ الجبّار…تلت ذلك رعشة فظيعة هزّت الكلّ، تشبه رعشة رجفة الرّادفة الّتي تتبع نفخة الرّاجفة (نفحنا الصّور عشية يوم القيامة) ” (الرّواية: 52)/ ” أراد أن يتنازعاها كقابيل وهابيل، ليسيل إثر جروحهما دم…” ( الرّواية: 15)” كلّ في فلكه يسبح، كما يقول تعبير قرآنيّ جميل” ( الرّواية: 76)، وهذه المحاورة للنّص القرآنيّ الكريم ترد في معرض شحن الخطاب الرّوائيّ بطاقة لا تستنفذ، سعيًا إلى إضفاء هالة قدسيّة عليه، محاكيًا بذلك الموروث والحداثيّ في آن، ومتيحًا عبر تنوّع هذه المعطيات العلميّة/ التّخييليّة/ الثّقافيّة/ الّلغويّة/ الأدبيّة تحقيق تجريبيّة الرّواية وهوّيتها شكلاً ووظيفة، بعيدًا من المعياريّة الصّارمة، وتمثيلا لهذا الجنس الكتابيّ العابر للتّصنيفات، والسّاعي في هوّيته إلى ” الاتّجاه نحو” لا “في العودة إلى”، في التّفتّح، لا في التّقوقع، في التّفاعل، لا في العزلة، في الإبداع لا في الاجترار”( أدونيس، 2014:17)
11- نظرية تعدّد الأبعاد والأكوان، والبحث عن عوالم بديلة: تتوزّع الأحداث والوقائع في دوائر مكانيّة تتنوّع مواضعها ما بين الفضاء الرّحب، وبين الأرض الضّيقة، في العصر الحديث، في زمن ينفتح على المستقبل فيلامس العام 2060، ويسترجع مضمّنًا بعض الأحداث العلميّة كغزو جاجارين الفضاء 1961، ومجد أرمسترونغ أول من غزا القمر 1969 ، ويغرق في دوائر الزّمن الماضي مستعيدًا بعض مسار الجدّ الّذي نضحت بها مذكّراته، مضمّنًا حادثة شرائه الحصن السّحريّ الّذي ورثه حديبو اليمني رئيس لجنة الإشراف الأرضيّ على تلك الرّحلة.
تحضر منجزات العلم بأشكالها ومسمّياتها في الرّواية، فتفلح في توليد فضاء مكانيّ سماويّ جاذب منطلق بسرعات مذهلة في حنايا الفضاء اللامتناهي الأبعاد، يتقابل والفضاء الرّوائيّ لعالم الأرض المحكوم بالتضّاد ما بين مشهديات الحداثة ومشهديات الفقر. يصف الرّاوي مركبة رحلة XxxXx00F بأنّها” كاتدرائيّة إلكترونيّة مهيبة الجمال والتّصميم. أحدث وأبدع ” الصّافنات الجياد” الألكترونيّة، بلا منازع اسمها بيغاسوس” ( سروري، 2024: 29)، تقابلها على الأرض مشاهد الحروب والمجاعات والدّمار.
تكشف زمكانية الرّواية التي تجري أحداثها، ما بين الدّائرة المكانيّة = الأرض: أرخبيل سُقطرى مكان مرجعيّ رئيسيّ مستعاد بجماليته السّاحرة، وبطبيعته البكر الخلاّبة أو “آخر معاقل جمالات الطّبيعة” ماضيًا، ومركزًا علميّا متخيلا في” بداية النّصف الثّاني من القرن الحادي والعشرين حيث يستحيل إلى ” سقطرى الجديدة “، تسيّرها بإشراف دوليّ، كبار الشركات العالمية العائدة لقوى بؤر المال والاستيطان، ومناطق أخرى متفرقة/ تقابلها الدّائرة المكانيّة الخارجيّة= الجائلة في رحاب الفضاء: المركبتان حاملتا الرّحلتين بيغاسوس ومركبة العائلة السّعيدة+ أماكن أخرى مستحضرة كالقمر + المرّيخ+ المحطّات الفضائيّة… وذلك في خمسينيات أو ستينيّات القرن الحادي والعشرين أي في الزّمن الآتي يؤطّره المستقبل، فيتقابل بذلك الواقعَ المجتمعيّ/ المرجعي المأزوم، بأبعاده: الإنسانيّة، الاجتماعيّة، والسّياسيّة؛ مغذيًا النّزوع إلى التّخييلي فتنمو على وقعه الأحداث. هو واقعٌ يحكمه، في ” نزوح”، عاملا تضادّ أساسيّان هما:
- الافتتان بالعلم/ الاحتفاء بمنجزه/ محاولات البحث عن عوالم بديلة من خلاله.
ب- التّنكر للهويات الضّيقة/ مأزوميّة الوطن- الأوطان الجغرافيّة في دول العالم الثّالث/ بعض السّياسات العالميّة المرذولة حيال الإنسان، وحيال البيئة الطّبيعية الحاضنة.
تولي دراسة شعريّة السّرد اهتماماً بالخطاب الرّوائيّ، وتبحث في مصطلح المنظور Perspective، أو الرّؤية السّرديّة، والوسيلة الرّئيسيّة لضبط المعلومة السّرديّة، وتحديد صيغة السّرد الّتي تقوم على العلاقة بين الرّاوي والمروي له كما يرى غريماس Greimas، باعتباره مكوّناً مركزيّاً من مكوّنات الخطاب. يشكّل المنظور عمليّة اختيار يجريها الرّاوي في ترتيب البرنامج السّرديّ ( زيتوني: 160) ، لأنّ أيّ حدث روائيّ لا يمكن تقديمه إلاّ عبر رؤية معيّنة، وسيمثّل الرّاوي الأداة، أو التّقنيّة الّتي يستخدمها الرّوائيّ، لتقديم عالمه المصوّر، ولأنسنته، ليتحوّل العالم الفنّيّ، بوساطته، من تجربة إنسانيّة واقعيّة، إلى إبداع ينمو في حضن الّلغة مفيداً من معطياتها، ومن شعريّتها.
حملت أصوات الرّاوي/ الرّاوة، في هذه الرّواية، غيرَ قضية، وغير منظور للفئة العالمة المثقفة الّتي حصّلت كمًّا معرفيّا علميّا هائلا أسهم في خلق الكثير من الوقائع المغايرة، في عالم البشر، لا سيّما في الدّول الأوروبيّة، وأمريكا، وبعض الدّول الآسيويّة كاليابان والصّين، ونجد تمثيلًا لهذا النموذج في :
– الشّخصيّتين سباسكي وفيشر ” الآتيين من دولتين متباعدتين جغرافيًّا، ومن بيئتين ثقافيّتين لم تسمعا يومًا بالجنّ والعفاريت والثّعبان الأقرع…بل فتنا بمجد جاجارين أوّل من غزا الفضاء 1961…ومجد أرمسترونج أوّل من غزا القمر 1969″ ( سروري، 2024: 26)
يقابلهما أنموذج بعض أبناء الحضارات الأخرى الساعين في طِلاب العلم، والمنتقلين من حضارات الأطراف والهوامش المنسية، إلى حضارة المدائن بجامعاتها المتطورة، ومختبراتها الحداثيّة، ومنجزاتها العلميّة والتّكنولوجيّة والذّريّة… أولئك النّاس الّذين تفتّح وعي بعضهم، كما تاريخهم، على ثقافة أعلت من شأن المنقول المختلط بالخرافة والشّعوذة. نجد تمثيلا لهذه النّماذج في:
– في شخصيّة جلال الّذي انتقل من حال فكريّة إلى أخرى في لحظة ما” عندما استوعب جلال بفضل مدرّسه أنّ ” الصّرع” الّذي يعاني منه جاره ليس بسبب ” جنّ تركبه”، حسب مسلّمة لقّنها منذ نعومة أظافره، تهاوت جبال الأوهام كلّها بضربة واحدة” ( سروري، 2024: 23)، في شخصيّة مانيارا العالمة اليمينّة المبدعة والّتي تحلم بتشجير الكواكب العائمة تعويضًا عن التخريب الّذي لحق بأراضي وطنها الّتي كانت ساحرة الطّبيعة.
ينتِج تنوّعُ المنشأ التّقابلَ الثّقافيّ الّذي يتصدّى له تيّار العلم، فيعيد صهرَ عناصره في تجربة فكريّة جديدة ذات اهتمامات تجاوزيّة ” أصولهم وقوميّاتهم لا تهمّني هنا، وإن ولدوا في أصقاع متباعدة: شرق آسيا، غرب أمريكا، شبه جزيرة العرب، أفريقيا، أوروبا، لأنّ ما يربطهم طوال سنوات الدّراسة والعمل، في صالات محاضرات وامتحانات مشتركة، من تجارب ومشاريع، مرتعٌ ثري لأحاديث جماعيّة لا تتوقف بينهم… ناهيك عن انسجامهم…لا تعني لهم الانتماءات الوطنيّة شيئًا لأن المجموعة الشّمسيّة بمجملها قريتهم الصّغيرة” (سروري، 2024: 14)، لذا سينتج هذا التّنوّع حين تلقيه المعرفيّ الجامع نوعًا من “الوعي” الطّامح دومًا، إلى محاولات إنتاج الحلول واجتراحها، الرّافض للقبول بالواقع المختلّ القانع، أو الخانع أو المغلق الآفاق.
بناء على ما تقدّم سنجد في الرّواية، تنوّعاً في الرّؤى التّخييليّة، وفي الأصوات الّتي يمكن إدراجها وفاق الشّكل التّالي:
1-الصوت الطّامح للوصول إلى القمر، الباحث عن اختلاف التجربة ( خولة …)، أو عن تأسيس حياة جديدة في كوكب المريخ (فيشر) و ( سباسكي)
2- الصّوت العالم الباحث في رحاب الكون الرّحيب، حبّا بالمعرفة وبانكشاف الحقيقة وهزم الأوهام (جلال)
3-الصّوت المحبّ لكوكب الأرض، العاشق لجماله، المفتون بزرعه ووروده، والرّاغب في تكرار أنموذجه وتصديره إلى الكواكب الأخرى ( مانيارا فلاّحة القمر والمريخ الأولى)
4-الصّوت المتطلع إلى رؤية العوالم الموازية، واستيعاب التّعقيدات الدّيالكتيكيةّ لمفهوم ” التّقدّم المصلح الرّاعي للأجيال ونشر الحبّ بين البشر، وتغيير طبيعتهم: ( الفيلسوفة فا) البيولوجية باء- الفيزيائية زاي- الشاعرة شين)
5-الصّوت/ الرّسوليّ الجديد يسعى صاحبه لصناعة الواقع/ الاختلاف المعلم من خلال نبوّة فضائيّة تنقذ أبناء الأرض ( نون)
- نتائج البحث والتّوصيات:
انطلاقاً من مبدأ الإدراك وإنتاج المعاني، يظهر أنّ العالَم الطّبيعيّ الخالي من أيّ استثمار دلاليّ، لا يمكن أن يتأنسن إلاّ من خلال تحويل الأشياء، إلى علامات تتيح لها التخلّص، من بُعدها الوظيفيّ، لتحيلها مستودعاً لكمّ هائل من المعلومات تؤشّر – بعيداً من وظيفة التّعيين أو بالتّقابل معها- إلى مواقعَ متنوعة داخل الامتدادت الرّمزيّة الّلامتناهية للكائن البشريّ، في علاقته مع محيطه.
لذا يبدو عبثيّاً البحثُ عن معادل واقعيّ لما تقدّمه النّصوص المسرودة، لأنّ أبسط أشكال التّمثيل الفنّيّ يستند إلى عملية تأويليّة عفويّة تقوم بالحذف أو بالإضافة، بالتّجاهل أو بالإبراز، وفاق استثارة الذّات السّاردة، أو تبعاً لما يستهويها. هكذا لا يمكن لسياقات النصّ أن تكون معطىً جاهزاً، بل هي تصير بناءً يتمّ بتَوالٍ، من خلال عمليات التّأويل المتتابعة الّتي لا تؤدّيها الكلمات بصورة مباشرة، ما يشكّل مبررّاً للبحث عن معانٍ أخرى غير ما تحيل عليه الكلمات المقولة، لأنّ كلّ دلالات العناصر المكوّنة للعمل الفنّيّ يجب أن تؤوّل وفق السّنن الأدبيّ.
بالمقابل، يبرز التّأكيد على بساطة الفكرة التي تدّعي إمكانية قول شيء ذي قيمة عن النّصّ، من خلال وصف خارجيّ، يكتفي بتحديد أشكال الفضاء، أو الزّمن، أو دراسة نسق الشّخصيّات، وسائر المكوّنات النّصيّة الأخرى فقط، لأنّ القراءات التّحليليّة المتوالية هي الّتي تفتح النّصّ على دلالاته البعيدة، لكونها تشكّل نافذة التّواصل مع النّصّ، والفعل الملموس الّذي ينتهي إليه مصير النّصّ (مرتاض، 1998: 176)
وعليه يصحّ لنا التّساؤل من بعد الحديث، عن كيفيّة انبناء خطاب ” نزوح”، وعن مدى تفاعل القضايا المطروحة في فضائه، واشتباكها عن دور المتلقّي في الكشف عن دلالات النّصّ تركيباً وصياغة، وعن مدى إدراكه لهوّية ومعقولية الكون الرّوائيّ ل” لنزوح” في اتّكائه على العلمي/ التّخييليّ الّذي يمتح منه مادّته الحيويّة، مع تنبّهه قطعًا إلى مفارقة العالم الّلغويّ الثّري الّذي نسجت به الرّواية ضمن سياقاتها، وصياغاتها الفنّيّة، وتوليدها هوّية النّوع المفارق.
إنّ أي عمل أدبي لا تكتمل فعاليته إلاّ بمشاركَةٍ ناشطة، من قارئ/ متلقٍ، يسعى إلى حلّ الشفرات المستخلصة التي غالباً ما توظَّف في النصوص، بقصد التّمويه والانحراف عن المعنى القاموسيّ لها، ما يتوافق والقراءةَ الدّلاليّة الاستبطانيّة المفتوحة، لكونها لا تنتهي إلى معنى محدّد، ولكنّها تعكف على ملاحقة المضمر الدلاليّ، في جميع تمظهراته ومستوياته التّرميزية والتشفيريّة، وذلك “على اعتبار أنّ كلّ نصّ له متصوّر ذهني غائب، أو وهميّ في وعي المتلقي، يتشكل لديه من تراكم الخبرات القرائية، ومن المخزون الذاكريّ، وما تضفيه قدراته الإبداعية من خلق وابتكار” ( فيدوح، 2012: 146)
وقد ظهر الصّوت في عالم السّرد، عارفاً مثقّفاً ناقداً وقادراً على متابعة المجتمعيّ/ المحلّي، والعربيّ بأحداثه السياسية الاجتماعيّة البارزة، وعكس الموت التّراجيدي المتسارع لنون فكر الكاتب المؤمن بموت النّبوة القائمة على الانتظار، لصالح النّبوة العالمة الّتي تصنع الحاضر، وتسعى بتوثّبٍ إلى المستقبل، كما رمز موت مينارا المتسارع إلى “موت الأحلام” الّتي لا تجد لها جذورًا في تراب الواقع، مهما بلغ جمالها، وتوالى تدفّقها.
جرّب الرّوائيّ حبيب عبد الرّب سروري في ” نزوحه”، أسلوباً سرديّاً نقل روايته هذه من التّسجيل العفويّ لمعطيات الفعل الإنسانيّ، في أبعاده الديموغرافيّة والأبستيومولوجيّة، إلى محاولة تأسيس رؤية فنّيّة اعتمدت أساليب سرديّة متنوّعة، ووسائطَ قول مختلفة تمتحُ مضامينها، من فهمٍ إشكاليّ لحقيقة الوجود والموجود، ومن محاولة حماية المنجز الإنسانيّ من “حماقة” بعض الإنسان خوفًا منه على الحضارة، وعلى كثيرٍ مما أنجزته للبشريّة، لئلا يصير هذا الإنسانُ لاحقًا، أسيرَ العلم الّذي ابتكره، وأسيرَ الذّكاء الإصطناعيّ/ مولوده، بل رهين متوالياته الّتي لن يعرف كثيرون المدى الّذي قد تبلغه. بناء على ما تقدّم، توصي الدّراسة بضرورة تمكين النّاقد العربيّ من مواكبة عمليّات التّحوّل في الكتابة، ومتابعة كلّ جديد يسهم في تطوير الوعي العربيّ وتزكية ذائقته، لا سيّما هذا حيال هذا الجنس الكتابيّ الّذي تتمّ المزاوجة من خلاله بين عالميْ الأدب والعلم، ما يعني بلورة نظام مفاهيميّ مستنبط من النّصوص المنتجَة، ومن التّغيّرات المستحدثة في العمليّة الإبداعيّة الجديدة لمواكبتها، ولحسن التّعامل مع مخرجاتها، بالإضافة إلى حتمية انخراط النقاد العرب في التّأسيس لوعي نقديّ أكاديميّ جديد، بعيدًا من التّصورات النّقدية العائمة الّتي لا تمكّن أصحابها من الإنتاج الحداثي المتقدّم.
قائمة المصادر والمراجع:
- أ- أدونيس إسبر، ع. (2014). المحيط الأسود. بيروت: دار السّاق
- ب – ابن منظور، أبو. (-711ه/1311م) (1990). لسان العرب ( ط3). بيروت: دار بيروت للطّباعة والنّشر.
- ت- باختين، م. ( 1982). الملحمة والرّواية. شحّيد، جمال ( ترجمة). القاهرة: معهد الانتماء العربيّ.
- ث- البستاني، ب. ( 1988). دائرة المعارف(م:1). بيروت.
- ج- حسين، خ. (2007). في نظريّة العنوان، مغامرة تأويليّة في شؤون العتبة النّصيّة. دمشق: دار التّكوين للنّشر.
- ح- زيتوني، ل. (-). معجم مصطلحات نقد الرّواية (ط1). بيروت: مكتبة لبنان ناشرون/ دار النهار.
- خ- سروري، ح. (2024). نزوح. بيروت: دار السّاقي
- د- عابد الجابري، م. (2002). مدخل إلى فلسفة العلوم، العقلانيّة المعاصرة وتطوّر الفكر العلّميّ (ط 05). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة.
- ذ- عتيق، ع. (1972). في النّقد الأدبيّ (ط2). بيروت: دار النّهضة العربيّة للطّباعة والنّشر
- ر- فيدوح، ع. (2012). معارج المعنى في الشّعر العربيّ. سوريا: دار صفحات.
- ز- لوكاتش، ج. George, L. الرّواية كملحمة بورجوازيّة، طرابيشي، ج. (ترجمة). بيروت: دار الطّليعة.
- س- مرتاض، ع. (1998). في نظريّة الرّواية. الكويت: المجلس الأعلى للثّقافة.
- ش- يقطين، س. (2011). رهانات الرّواية العربيّة بين الإبداعيّة والعالميّة، سلسلة رؤى ثقافيّة (ط2)، الرّياض: النّادي الأدبيّ الثّقافي
- ص- عاصم، د.(2016). النّهوض بالتّعليم في العالم العربيّ،(On line)
- ض- مرسي، ح. (2014). فاعليّة برنامج تدريبيّ مقترح في تنمية الخيال العلمي. مجلّة التّربية العلميّة (2)
- a-Barthes, R. (1972). Le degré zéro de l’écriture. Paris : Ed. Seuil
- b-Caillois, R. (1942). Puissance du roman. Paris : Ed. Sagitaire
– c- Rastier, F. (1989). Sens et textualité. Paris : Ed Hachette Université
– d-Roy, J. (2000). Sémiotique, philosophie et théorie du language. Paris : Grasset
– e-Todorov. T. (1981). M. Bakhtine et le principe dialogique. Paris : Ed. Seuil
- https://alarab.co.uk
- www.almaany.com
- https://artsandculture.google.com
- https://aawsat.com/home/article
[1] باحثة متخصّصة في النّقد الأدبيّ الحديث. أستاذة محاضرة في جامعة الجنان/لبنان. تُعدّ من الأصوات المبادرة في المشهد الثّقافيّ الّلبنانيّ. أسهمت بمقالات نقدّية وثقافيّة، في العديد من الدّوريّات، والمجلّات المحكّمة. روائيّة لها تسع روايات، وبعض الإسهامات القصصيّة. محاضرة في عدد من النّدوات النّقديّة الأدبيّة. حائزة جائزة مؤسّسة الحريريّ للتّنمية البشريّة المستدامة عن روايتها “حبّ في زمن الغفلة”، وجائزة المطران الأب سليم غزال للسّلم والحوار الوطنيّ الّلبنانيّ، عن أعمالها الرّوائيّة، بالإضافة إلى عدد من الجوائز الوطنيّة الأخرى.
