التاريخ الدولي لِ “طُور الباحة”

حبيب سروري

 

ثمة منهجان لسرد جغرافيا الغابة. الأوّل سردها من وجهة نظر أشجار الغابة وهي تصف ما تراه حولها.

والثاني سردها من وجهة نظر طائرةٍ تحلّق فوق الغابة، تصعد في عليائها بعيدا لترى الغابة في سياق محيطها الشاسع الكلي، أو تهبط حتى القاع لترى أديم الغابة وتحلل تربتها عن قرب.

 

كذلك حال دراسة التاريخ: ثمّة منهج التقديم الوطني، لتاريخ هذا البلد أو ذاك. يسرد التاريخ المحلي كما تسرده الشجرة المغروسة وهي تحملق بمحيط غابتها. يولِّه هذا المنهج الهويّة الوطنية عموما، يصنعها من العدم أحيانا في الحقيقة، يُسخّنها ويشعلها، ويدور حولها كخذروف.

 

وهناك منهج آخر يدرس تاريخ البلد في إطار التاريخ الدولي، كجزء لا يتجزأ منه، كون التاريخ المحلي مجرّد إسقاط لتاريخٍ دوليٍّ أوسع يتجاوز الحدود.

ينظر هذا المنهج للظواهر من وجهة نظر أن رفرفرة جناح فراشة في كولومبيا يمكنه أن يثير إعصارا في فيتنام. ويقود آليا لكسر وإلغاء مساعي “تأميم” تاريخ البلد في إطار رؤية عرقية أو شوفينية ضيقة، تمحو مساهمة الأقليات فيه، وتصنع تاريخا ملفّقاً مغلقا يخدم الأيديولوجيات السياسية أو الدينية.

 

تجلّى هذا المنهج الجديد في صيغته الكاملة الطليعية (التي تفتح الباب لإعادة كتابة تاريخ كل بلد، بالمنهج نفسه) في موسوعة جديدة قاد مشروعها المؤرخ باتريك بوشرون، أستاذ التاريخ في كوليج دو فرانس، وساهم فيها عدد هائل من المؤرخين، نُشِرت قبيل أشهر، عنوانها: “التاريخ الدولي لفرنسا”. دام إعدادها عدة سنين.

 

يجدر الإشارة إلى أن مناهج كتابة التاريخ وتدريسه تثير دون توقف جدلا حميما عارما دائما في فرنسا، لاسيما في كل انتخابات رئاسية.

 

قبل الحديث عن الموسوعة وعن منهجها الفذ، من المفيد التطرق لكتابٍ سابق ظهر في 1987، وأعيدت طباعته قبيل أيام. لعله التزم بالمنهج نفسه، وفي زمن مبكر، ولو كان ذلك في موضوع أقلّ اتساعا. عنوانه: “الأسطورات الوطنية”، لِلمؤرخة سوزان سيترون.

 

نتعلّم منه مثلا أن الملك كلوفيس (466ـ511) الذي يُقدَّم كمؤسسٍ لِفرنسا، لم يكن حتى على علمٍ بهذا الدور التاريخي. اسمه، في الحقيقة، غير فرنسي: كلودفيج، تمّ فرنسته لاحقا.

كذلك حال الملك شارلمان (747ـ814) ذي الأهمية الكبرى في التاريخ الفرنسي، لم يكن غير إمبراطور ألماني اسمه: كارل دير جروس، تمّ إقحامه في التاريخ الوطني الفرنسي، لا غير.

 

فكفكة ما يسمّى برموز التاريخ الوطني وأساطيره، والحديث عن ضرورة تقديم التاريخ الوطني في إطار تاريخ دولي، كان مسعى الكتاب آنذاك، وإن تمّ تحقيقه في موسوعة باتريك بوشرون وفريقه الواسع مؤخراً.

 

من المثير مثلاً أن هذه الموسوعة، وهي تعيد كتابة تاريخ فرنسا، لم تتحدث عمّا يسمّيه غالبا اليمين الفرنسي، لاسيما المتطرف: “الدحر الفرنسي للغزو العربي لفرنسا، وهزيمة العرب في معركة مدينة بواتييه”، إما لأنها من وجهة نظر المؤرخين مجرّد أسطورة لا غير، أو لأنها كانت مناوشات طفيفة لا تستحق الذكر!…

 

ومن الجميل جداً سماع باتريك بوشرون وهو يقول إن نموذجه المنهجي العالِمَ الجغرافي الجليل: الإدريسي، وهو يكتب في فجر القرن 12 جغرافية أوربا في سياق دولي كليّ “كضاحية للإمبراطورية الإسلامية”، عبر وصف استقصائي شامل استخلصه من الرحالة والبحارة والعابرين، والإدارات الرسمية الصقلية، ومن بحثٍ كليٍّ دقيق لم يترك أدنى تفصيلٍ حول الطقس واتساع الطرقات والعادات والتقاليد والحياة الحضرية، دون عرضهِ وتحليله.

 

إذا كان لي مأخذٌ ما على الكتابين فهو أسلوبهما الأكاديمي الذي لا يسمح أحيانا بوصول هذه الرؤية الجديدة للتاريخ، للعامة من الناس.

ثمّة، في رأيي، حاجة لسرد ذلك في سياق أدبي، روائي أحيانا، يكسر الترسيمات المنهجية الشكلية، ويثير جماليات وأحاسيس لا يجيد صناعتها المنهج الأكاديمي.

 

وجدتُ كل ما ابتغيه أخيرا في كتابٍ تاريخي (روايةٌ، كما كُتِبَ بغلافه) أذهلني وأمتعني فعلاً، لمدير الأبحاث والمؤرخ الفرنسي الروائي فيليب فيدولييه.

تلتزم الرواية بكل هذه الشروط المنهجية التاريخية والسردية الروائية معاً في إطار لا يخلو من روح الفكاهة. ظهرت في دار نشر غاليمار الشهيرة، في 500 صفحة مزدحمة، في بدء هذا العام 2017.

كان بإمكان عنوانها أن يكون: “التاريخ الدولي لِعدَن”، لكن عنوانها الرسمي: “أربعة فصول في فندق الكون”. (فندق شهير في عدَن في القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين).

 

ماذا يسرد الكتاب؟

تاريخ عدَن منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، في سياق تاريخٍ دوليٍّ واسع جداً.

تبدو فيه عدَن من الداخل أوّلا، عبر سرد تاريخي لكل يومياتها، بتفاصيل ميكروسكوبية أحيانا، آتيةٍ من إرشيف دوليٍّ واسعٍ عظيم.

بفضله تعرفتُ بدقّة على عدَن القرن التاسع عشر، وكل ما كنت أجهله عن يوميات حيّ الشيخ عثمان فيها (مسقط رأسي)، لاسيما خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ كل ذلك في إطار الصراعات الدولية، وعبر سردٍ باذخٍ لتاريخ العالَم العربي الذي كان مثار أطماع الغرب، كما لم يكنه يوماً ربما.

 

وتبدو فيه عدَن من الخارج أيضاً، غالبا جدا. التحليقُ البعيد في يوميات العالَم خارج عدَن قد يبدو أحيانا فضفاضا، أو “خروجا عن النص”. لكنه بديعٌ حقا، بديعٌ جدا.

تحلِّق طائرة المؤرخِ الروائي خلاله عالياً عاليا، في تاريخٍ دوليٍّ واسع، يتداخل فيه تاريخ الشرق والغرب معا. لكن شبكيّةَ عينِ الطائرة تنظر دوماً باتجاه نقطة جغرافية اسمها عدَن، وإن طافت بعيدا جدا عنها.

يخدم هذا الخروج اللذيذ عن النص عدَن، والعالَم العربي عموما، لأنه يشرح المنابع البعيدة لكل حدثٍ صغير عرفَه تاريخنا، ويجلي كم التاريخ العدَني واليمني والعربي والإنساني وحدة واحدة.

 

ورغم أن الكتاب تاريخيٌّ أكاديميٌّ دقيق، فهو رواية أيضاً بكل ما في السرد الروائي من جماليات.

أضرب هنا مثلا واحداً صغيرا فقط. عندما أراد الكاتب استهلال تقديم بداية تاريخ علاقة الإتحاد السوفيتي بالمنطقة العربية عموماً، وعدَن خصوصا، بدأ فصلٌ فيه بشذراتٍ من عبارات يلقيها الأمين العام للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش أمام ستالين. بجانب شذرات لقائد شيوعي سويدي وآخرين. جميعها ممتعة جدا تقودنا إلى عمق السياق الدولي عموما، والسوفيتي خصوصا، بفضل أضواء البلاغة وغمزاتها الفنيّة.

قبل سرد ذلك، كان القارئ قد تبحّر بتاريخ شخصية خالد بكداش، وبكل تاريخ سوريا قبل الحرب العالمية الثانية؛ سوريا التي تحتلّ في الرواية موقعا خاصا وهاما جدا.

ينتقل السرد بعد ذلك إلى كيفية رؤية ستالين ومحيطه لما كانوا يسمّونه منطقة “عربستان”، أي العالَم العربي عموماً. ثم ينتقل بعدها إلى تفاصيل هدايا بعثها ستالين للإمام يحيى في صنعاء، تتضمن قنينات فوتكا وكافيار، بجانب معونات غذائية؛ قبل أن تتواصل الأوديسة السوفيتية بشكل متوازِ مع فيلق من الأوديسات الروائية الأخرى…

 

الكتاب يعجّ بتفاصيل تاريخية أكاديمية متسلسلة لا تعدّ ولا تحصى. يجسّد الروائي عبرها أيضاً منهج الإدريسي في الاستغراق في استنطاق التفاصيل لسرد التاريخ. هذا المنهج الذي التزم به باتريك بوشرون ورفاقه في موسوعتهم قبل ذلك، ويلتزم فيه بوشرون في كوليج دو فرانس، وهو يعطي محاضرات تاريخية كاملة من وحي قراءات جميلة تستنطق تفاصيل لوحات تشكيلية آتية من القرون الوسطى!

 

ماذا عن تاريخنا؟ لا أحتاج للقول إنه غيبيٌّ ملفّق في العمق، مشحون بالفجوات، لأسباب عديدة لا مجال لسردها هنا. وبحاجة ماسّة قصوى إلى إعادة كتابته من منظور علمي، في ضوء هذا المنهج الجديد الواعد.

أتذكّر، على سبيل المثال فقط، أني أكتشفت اسم حسن الصباح وقلعة ألَموت وحركته السياسية الإرهابية: “الأساسيين”، التي استلهمَتْ منظمة القاعدة منها الاسم وطرائق العمل، ثم داعش بعد ذلك، بعد وصولي للدراسة في فرنسا لا غير، ولم أسمع عنه قبل ذلك أثناء دراسة التاريخ حتى الثانوية!

لهذا التجهيل في تقديم التاريخ سلبيات جوهرية ندفع ثمنها حتى الآن.

 

يقودني كل ذلك نحو الرغبة المعاكسة: كتابة “التاريخ الدولي لِطور الباحة”، هذه القرية اليمنية المسكينة، القابعة، بصمت وبراءة، في منتصف الطريق بين جنوب اليمن وشماله!