وأخيراً، أخيراً، ما الحقيقة؟
حبيب سروري
“ما الحقيقة؟” سؤال متشعب عويص، يفرض نفسه اليوم في زمن “الفيك نيوز” (الأخبار الزائفة) التي تطرقنا لها بإسهاب في مقالين سابقين في “ضفّة ثالثة”، ومع ازدياد الحوارات والنقاشات الصحيّة، في الشبكات الاجتماعية وغيرها، حول مفاهيم برامج الإيمان وطرائق البرهنة.
سيستقيم شعر رأس من يبحث عن الإجابة عن هذا السؤال في نصوص فلاسفة الماضي أو الحداثة، أو في الكتب المدرسية ومقولات الأديان بأنواعها… من فرط غموض العبارات التي تشرح مدلول الحقيقة أحيانا، وتناقض المناهج للوصول إليها..
بعيدا عن عرض أي استشهاد، وعن تلخيص ردود الفلاسفة على هذا السؤال الأزلي الأبدي، الثابت والمتغير، سأحاول، مثلما يفعل جهاز “المنشور الضوئي” وهو يفكك ألوان طيف الضوء، تفكيكَ وبلورةَ مفهوم الحقيقة بعبارات بسيطة وأفكار واضحة، من منطلق العِلم والفكر الحديثين.
يحلو التمييز في البدء بين “الواقعة” Fact، كمسلمة لا يختلف حولها اثنان، مثل: 1+1=2، نهائي الدوري الأوروبي 2018 بين ليفربول وريال مدريد…
وبين مشروع الحقيقة Truth كطرحٍ فكريٍّ (نابع من تركيب ذهني تخييلي)، يُراد به أن يُعتبر حقيقةً دامغة، أي تعبيرا يتطابق مع الواقع ويوافقه.
لا يكفي، في رأيي، تعريف الحقيقة بأنها “تطابقُ الطرحِ مع الواقع”: يشبه ذلك تعريفَ “اللون” بأنه “الإدراك البصري لأحد أطياف الضوء”.
يشبهه في كونهِ تعريفاً مجرّداً، لا يسمن أو يغني من جوع تقريبا، ليس للأعمى فقط، ولكن للبصير الذي يريد أن يعرف ماهيات وأنواع الألوان، وتطوّرها عبر التاريخ، ولمن يريد رؤيتها بأم عينيه في نماذج كاشفة.
لذلك يلزم إجلاء مفهوم الحقيقة في كل مجال من مجالات المعارف على حدة: الحقيقة التاريخية، الحقيقة الغيبية (أو الحقائق الغيبية المتوازية، على الأحرى)، الحقيقة العلمية، الحقيقة الاستشرافية المسقبلية…
لعلّ مفهوم “الحقيقة التاريخية”، أي ما حدث حقا في الماضي، أفضل مثال يشرح تغيّر وتطوّر مفهوم الحقيقة عبر الزمن.
فقبل عصر الحداثة، لم تكن كتابة التاريخ إلا نوعا من النسخ والنقل لما قاله الأقدمون. وإن تعرّض سرد التاريخ أحيانا من قبل المؤرخ (الذي كان حينها كاتبا أو أديبا أو فقيها) إلى تحسين أو حذف فقرات يعتبرها ضعيفة، تثير شكّه أو عدم رضاه.
وبطبيعة الحال، لم تكن كتابة التاريخ الهدف الرئيس للفقيه، بقدر نشر رسالة دينية معينة. عندما يتحدّث مثلا عن موسى وفرعون، لن يذكر يوما متى كان ذلك، وعن أي فرعون يتحدث. إذ ثمّة سلسلة فراعنةٍ حكمت مصر، لها أسماء، ولتبوئها السلطةَ تواريخ.
وقد يُميّز ذلك “المؤرخُ” أحيانا بين النص التاريخي الأصلي الذي يعتبره مرجعا رئيسا، وبين صيغ النقل المختلفة اللاحقة له، والتي ينظِّف منها ما لا يناسبه، لكنه لم يكن لِيتجرأ يوما، قبل عصر الحداثة، التساؤل: ماذا لو كان النص الرئيس نفسه مجرّد تخييل؟ ماذا لو كان غير صحيح كليّة؟… لأنه كان يرى دوما أن كتلةً ما من الحقيقة تنطوي حتما فيه.
اختلف الأمر رأسا على عقب اليوم، بعد اللجوء إلى مناهج التنقيب الأركيولوجي لبرهنة الحقيقة، وإلى استخدام الفيزياء والكيمياء (لا سيما الكربون 14) لمعرفة زمن كتابة النص أو الحدث أو عمر الحفريّة أو الجثة، وإلى وسائل منهجية أخرى كثيرة للتأكد من صحّة ما قاله الأقدمون، وللإجابة الدائمة عن هذا السؤال: هل ما قالوه حقيقة يمكن برهنتها، أم هو مجرد تخييلٍ اعتبره الناس حقيقة خلال آلاف السنين؟
هكذا، لم يعد المؤرخ مجرد أديب أو كاتب، وإنما ناقد كاشف للحقيقة التاريخية المبرهنة، بوسائل علمية ولغوية حديثة.
لهذا السبب، اختلفت رؤية الإنسان الحديث لمفهوم الحقيقة التاريخية اليوم، عن إنسان ما قبل الحداثة. وتحوّل عددٌ لا يحصى مما كان يُعتبر حقائقَ تاريخية للأقدمين مجرّدَ تخييل ميثولوجي أو وهم أو فرضيات. لها جميعا ربما رسائل ووظائف اجتماعية معينة، لكنها بكل بساطة لم تحدث إطلاقا.
أنتقلُ الآن إلى “الحقيقة الغيبية”، كوجود أو عدم وجود الآلهة والكائنات الفانتازية والعالَم الآخر، ومسائل الإيمان أو عدمه بها.
فلكونها جميعا ليست فرضيات علمية (بل دينية أو غيبية)، فالبحث عبر العِلم عن برهنةٍ “رياضية” أو منطقية لوجودها، أو لدحضها، عبثيٌّ بالضرورة.
لذلك، هناك مشاريع حقائق متعددة ومتوازية في هذا المجال، يمكن الإيمان بها لمن أراد، أو عدم الإيمان بها.
وثمّة في الواقع أطروحات شتّى تؤمن بأنواع مختلفة من الآلهة والكائنات الغيبية، وتعتبرها حقائق. وثمة أيضا أطروحات عديدة مناقضة ترفض ذلك.
لمعاينة تطوّر مفهوم الحقيقة مع مرور الزمن، في مجال الإيمان الغيبي، يكفي قراءة أنموذج التجربة الإغريقية. لعل كتاب “هل آمن الإغريق بأساطيرهم؟” للأستاذ في كوليج دو فرانس: بول فيين، مرجع ثريٌّ جدا.
قد يبدو غريبا فعلا أن الإغريق، الذين أسسوا مفاهيم العقل والديمقراطية ووضعوها في قلب حضارتهم، كانت لهم علاقة خاصة بأساطيرهم وتاريخهم الميثولوجي: آمن الجميع بها، لا سيما العامة، بدرجات متفاوتة، وبنماذج وبرامج إيمانية متنوعة (لم يوجد، مثلا، أحدٌ حينها لم يعتبر “حرب طروادة” حقيقة تاريخية!)، ولم يذهب أحد منهم لرفضها الجذري عبر البحث عن الحقيقة التاريخية بالمناهج الحديثة.
لعلّ عبارة أفلاطون: “كوننا لا نمتلك وسائل لتحرّي هل الأحداث العتيقة حقيقية، فنحن نعمل ما نستطيعه ليقترب الزيف أكثر ما يمكن من الحقيقة” تلخّصُ كيف تعامل فلاسفة الإغريق مع تاريخهم الميثولوجي.
أما في ما يتعلّق بـ”الحقيقة العلميّة” في الرياضيات (وعلوم الكمبيوتر النظرية كابنةٍ لها) وعلوم الفيزياء والكيمياء والحياة، فمن المهم ملاحظة أن إقرار واعتماد الحقيقة العلمية هنا (من قبول أو رفض) يخضع إلى إشارة خضراء من بعض المجلات والمؤتمرات العلمية الدولية المتفق عليها.
يلزمك، عزيزي القارئ، إذا أردت التأكد من خبر اكتشاف علمي أو عدم شعوذة من تسمّى شخصية علمية هنا وهناك، الإجابة عن سؤال: في أي مؤتمر نشر بحثه؟ وما قيمته؟
الحقيقة الرياضية “مُطلَقة”، لا يختلف حولها اثنان بعد برهنتها ومراجعتها وقبولها، أكانت ببساطة “نظرية فيثاغورس”، أو “مجموع زوايا المثلث (في الهندسة الإقليدية) يساوي 180 درجة”، أم معقّدة كبرهان “فرضية فيرما” التي تمّت برهنتها مؤخرا، في أكثر من 120 صفحة، بعد أن بدّد آلاف الباحثين في الرياضيات، منذ منتصف القرن السابع عشر، أعمارهم في البحث عن برهان يؤكد أو ينفي صحة الفرضية.
الجدير جدا بالذكر أن مفهوم الحقيقة الرياضية نفسه عرف ثورة هائلة في عام 1931.
فليست كل فرضية رياضية تنتهي بعد البرهنة باعتبارها صحيحة أو خاطئة. ثمّة مآل ثالث (“ضفّة ثالثة”)، اكتشفه عالِم المنطق الرياضي الشهير، جودل: بالإمكان البرهنة رياضيا بأنه يستحيل برهنة كون بعض الفرضيات صحيحة أو خاطئة.
هي، بعبارة أخرى: “غير قابلة للتحقيق الإيجابي أو السلبي”.
ثمّة قائمة مسائل رياضية تنتمي لهذه القبيلة التي تقبع في “الضفة الثالثة” من ضفتي الصواب والخطأ.
لعلّ استعارة “الكاذب الدائم الذي يقول: أنا أكذب” تساعد على تقريب هذا المفهوم العميق: لا يمكن قبول مقولته كحقيقة، لأن ذلك يعني أنه ليس كاذبا دائما.
ولا يمكن اعتبارها كاذبة. لأن ذلك يعني أنه لم يكذب عندما قالها، مما يتناقض مع كونه كاذبا على الدوام.
أما الحقيقة العلمية في الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة فهي أيضا حقيقة مبرهنة بدلائل تجريبية ومختبرية ورياضية شتّى. لكنها تتطوّر غالبا مع الزمن: تتّسع ويتم تجاوز بعضها بحقائق أخرى، تُطوّرها في مجالات وسياقات جديدة. كحال نظرية النسبية لآينشتاين، وتجاوزها لقوانين ميكانيكا نيوتن التي تظلّ مع ذلك جوهرية وصحيحة في نطاقٍ محدّد.
كما يجدر التذكير بأن مفهوم الحقيقة في فيزياء “الجسيمات اللانهائية الصغر” مثير جدا، ويختلف عنه في الفيزياء التقليدية: تلعب نظرية الاحتمالات فيه دورا جوهريا، يتجاوز نطاق مقالنا.
وله قيود معرفية لا يمكن تجاوزها، كـ”مبدأ الريبة” لهايزنبرغ، في عام 1927: لا يمكن قياس موقع وكمية حركة الجسيم اللانهائي الصغر، في الوقت نفسه، إلا بدرجة معيّنة من الدقة.
أما “الحقيقة الاستشرافية” للمستقبل فيلزم الإصغاء لها بعين نقدية شديدة، لأنها لا تختلف غالبا عن قراءة الفنجان!
المستقبل القريب، فما بالكم بالبعيد، لا يمكن التنبؤ به عموما.
من تنبأ بالهواتف الجوالة، التي غيّرت كل حياتنا الآن، قبل 20 عاما من اليوم فقط؟
من تنبأ بسقوط جدار برلين قبل أسبوعين من سقوطه؟
ثمّة مشاريع علميّة للعقود القادمة، سترسم بالتأكيد بعض ملامح المستقبل (مثل مشاريع الذكاء الاصطناعي التي تحدّثنا عنها في أكثر من مقال في “ضفّة ثالثة”)، ويمكن دراستها لاستشراف بعض اتجاهاته، لكن الحقيقة المستقبلية حبلى دوما بالصدفة والمفاجآت، وتحتاج إلى بروميثوس لينتزعها من دماغ علّام الغيوب!