نهاية التاريخ، أم تاريخٌ بلا نهاية؟
حبيب سروري
في الحياة الإنسانية اليومية، يسير خط الزمن كالسهم في اتجاه واحد، بدون تماثل هندسي بين الماضي والمستقبل. من الأول نحو الثاني، وليس في الاتجاه المعاكس.
فيما يتماثل الماضي والمستقبل في زمن الرياضيات: عندما تضع في صيغة رياضيةٍ (أحدُ متغيراتها: الزمن، ز) مقداراً سالباً لهذا المتغير، أو مقداراً موجباً له، تصل إلى القيمة النهائية المطلوبة للصيغة، سيّان أكانت في الماضي (المقدار السالب)، أو المستقبل (المقدار الموجب)!
زمن الحياة الاجتماعية أحادي الاتجاه. لذلك يمتلك الإنسان ذاكرة الماضي، لكنه لا يمتلك ذاكرة المستقبل، تلك التي يموضعها الميتافيزيقيون فيما يسمونه “علم الغيب”.
ولذلك مثلا بإمكانك معرفة كل تاريخ مرآتك الزجاجية، منذ خروجها من المصنع، لكنك لا تعرف مستقبلها: يمكنها أن تنكسر، لهذا السبب غير المتعمد أو المتعمد، اليوم أو بعد أسبوع. وإن انكسرت فلن تستطيع ترميمها وإعادتها كما كانت في الماضي.
كذلك، يمكن تحليل حفريةٍ عمرها ملايين السنين، بالكربون 14، لمعرفة موعد ولادتها، ومراحل تاريخها. لكن يصعب التنبؤ بالطقس الجوي بدقة، لِما بعد أسبوعين فقط من الآن، وذلك لتداخل مليارات العوامل والظروف والمتغيرات الطبيعية والصناعية والإنسانية الممكنة، الإرادية وغير الإرادية، التي قد تقود لهذا الطقس أو ذاك.
كم يزعج ويقلق الإنسان عدمَ امتلاكه ذاكرة المستقبل، ويقنعه بضعفه الوجودي الجذري. لا تهمه كثيرا ذاكرة الماضي. يردد غالباً “ما فات مات”، فيما تحملق عيناه في القادم، وفيما “وراء الأكمة”، بقلق وترقب، مهووساً باستقراء ما يحمله المستقبل والتنبوء به.
وما عصر “البيانات العملاقة” اليوم، Big Data، إلا سعي لاستنطاق ما سيفعله الإنسان (ما ينوي شراءه من سلع، وما سيقوم به في كل المجالات) لأسباب تجارية وسياسية واستخبارية، عبر التجسس على كل تاريخه المبعثر في العالم الرقمي.
لذلك يجد المرء كل الفلسفات والأديان تُنظِّر له حول اتجاه الحياة والمصير المستقبلي، وما سيحمل له الزمن من خواتم. وما اهتمامها بتقديم سيناريوهات لأصول ماضيه، وسر وجوده وكيفية نشوئه، إلا لتهيئة نظرياتها عن مستقبله الذي يهمه في المقدمة، لتجعله بذلك يعتنق أطروحاتها، فتقود سلوكه ومسيرة حياته.
بعد سقوط جدار برلين، ومعه نظرية المعسكر الاشتراكي المستقبلية: “اتجاه التاريخ حتمية انتصار المعسكر الاشتراكي (بصيغته السوفيتية)، وسقوط الرأسمالية”، برزت نظريتان حول مستقبلنا القادم، لباحثَين كبيرين، ترسمان لنا المستقبل الجديد الذي ينتظرنا، من وجهة نظرهما.
الأولى: نظرية “نهاية التاريخ” لفوكوياما. مفادها أن التاريخ وصل إلى صيغة نهائية بعد سقوط الجدار. اعتنق معظم العالم فيه الرأسمالية وقيمها الليبرالية، مؤشرا بتبدد جميع الأيديولوجيات والاختيارات الأخرى.
جليّ اليوم أن هذه النظرية أخطأت، كما يكشفه واقعنا المعاصر بصراعاته الدينية والطائفية العتيقة، وبعودته لأيديولوجيات مغبِّرة. وكما يوحي به مأزق الرأسمالية نفسها وتعثراتها الجذريّة، وما يبدو طريقا مخنوقا مسدودا لها اليوم.
الثانية: نظرية تتناقض كليّة مع الأولى: نظرية “صدام الحضارات” لهنتغتون التي تنبأت بصراع صدامي بين الحضارات البشرية الرئيسة، بعد الحرب الباردة.
جليٌّ أنها لا تخلو من السطحية في رؤيتها للحضارات ككيانات مغلقة. إذ ليست هناك اليوم حروب من هذا القبيل. ثمّة حروب طائفية وأهلية ودينية داخلية في بعض المجتمعات الإسلامية مثلاً، تصل بعض تداعياتها وفيضاناتها نحو الغرب، لكن تدميرها العربي الذاتي هو السائد.
فالتطور التكنولوجي والعلمي، وما يقود إليه من تغيرات اجتماعية في العالم أجمع، وصل المجتمعات العربية والإسلامية مثل غيرها. وما كل ما تحلم به شعوب هذه المجتمعات التي حاول بعضها الانتفاض على طغاته، تحت شعارات الحرية والكرامة و”الشعب يريد اسقاط النظام”، إلا انسجام مع قيم العالم الحديث، عالم حقوق الإنسان، الذي وصلت إليه أوربا نفسها مثلاً بعد حروب دينية ومراحل شبيهة.
أما ما يدور حاليا من صراعات ونكسات عربية إلا تعبير، في الأساس، عن مشاق الكفاح الذاتي ضد الطغاة والقوى السلفية والجهادية التي ترفض الجوهر العصري لهذه الثورات، وعن عدم مقدرة القوى الجديدة بعدُ على تغيير موازين القوى، كما استطاعت تقريبا في تونس فقط.
أما صراع الحضارات، بمدلول تلك النظرية، فلا تتمناه في الحقيقة إلا أقليتان في كلتا الحضارتين معا: القوى اليمينية المتطرفة هنا، والأصولية الظلامية هناك.
ماذا تبقّى لنا إذن من مشروع معقول يفسِّر معالم القادم؟
مشروعٌ أقلّ تطرفاً وفرقعات من “قراءة فنجان” النظريتين السابقتين المتناقضتين، تلخصها عبارة بسيطة صمّاء: “العودة إلى التاريخ”!
كان هذا العنوان أحد مواضيع نقاشات “معامل الفكر” التي نظمتها صحيفة اللوموند الفرنسية (بجانب معامل أخرى نظمتها غيرها من الصحف، في مهرجان أفينيون للمسرح في يوليو 2016) مع المؤرخ المتخصص بالقرون الوسطى، باتريك بوشرون، البروفيسور في كوليج دو فرانس.
فحوى أطروحة المؤرخ أن أحداث اليوم الكبرى: غياب الأفق العام والاضطراب واليأس والانحطاط، والحروب المعاصرة، والخطابات التي تذكي العصبوية هنا وهناك، وأطروحات “نحن، وهم” التي تفصل بين البشر والتي كان آخر تجلياتها “البريكسيت” الإنجليزي والمدّ اليميني المتطرف والعنصري في الغرب عموما… يمكن استيعابها وتصور توجهاتها المستقبلية عبر دراسة التاريخ، وتصفحه العميق، بمنهج استقصائي كليّ، مقارن ومفتوح على تاريخ العالم؛ والبحث فيه عن الممكن عمله لمواجهة تحديات الحاضر من زاوية أفضل.
إذ أن “الحاضر تاريخ متراكم”، و”المستقبل تاريخ بلا نهاية”، كما يقول.
لا يعني ذلك أن الحاضر تكرار رتيب للماضي. إذ ثمّة جديدٌ يشق طريقه دائماً، مخالفاً لكل التوقعات أحيانا.
أكبر مثال: سقوط الأبارتايد دون تمزق جنوب أفريقيا، والدور الاستثنائي التاريخي لنيلسون مانديلا في تثبيت قيم تعايش إنسانية جديدة راقية، أسقطت معاقل التمييز العِرقي التاريخية؛ أهمُّ أحداث القرن العشرين، كما قال المؤرخ.
بيد أن استيعاب الحاضر والتوجه نحو المستقبل يحتاج لدراسة عميقة مختلفة للتاريخ، من وجهة نظره، بعينٍ تستشفّ منه أضواء تساعدنا على معرفة أفعالِ وردود أفعال البشر، وعلى إدراكٍ أفضل لحاضرنا، وعلى رؤية مختلف الإمكانيات للقادم الذي ينتظرنا.
“يهرب المؤرخون من الحاضر نحو الماضي غالبا، يدرسونه لذاته، فيما نحتاج لأن يدرسونه لاستيعاب الحاضر واستنطاق الممكن المستقبلي الأفضل”، قال.
عدتُ لمحاضرة المؤرخ الافتتاحية، عند دخوله كوليج دو فرانس، لأجد بعض الاتجاهات التي اقترحها لمنهجه في دراسة التاريخ، مع فريق من الباحثين.
طريقته الأولى هي دراسة التاريخ بشكل استقصائي تام، ومن كل المصادر، بما فيها استنطاق اللوحات الفنية، وتحليل السرد اليومي. نموذجه في ذلك العالِم الجغرافي الجليل: الإدريسي، وهو يكتب في فجر القرن 12 جغرافية أوربا في سياق دولي كليّ “كضاحية للإمبراطورية الإسلامية”، عبر وصف استقصائي شامل استخلصه من الرحالة والبحارة والعابرين، والإدارات الرسمية الصقلية، ومن بحث كلي دقيق لم يترك أدنى تفصيل حول الطقس واتساع الطرقات والعادات والتقاليد والحياة الحضرية، دون عرضهِ وتحليله.
ثم “تاريخ السلطات هو تاريخ السلطات المقارن”، يقول المؤرخ. إذ لا يمكن دراسة التاريخ دون المقارنة بين أشكال تجلياته المختلفة هنا وهناك، في هذا العصر أو ذاك.
استحضرُ هنا دخول الديانة المسيحية للإمبراطورية الرومانية. لعلّ اعتناق إمبراطور غرب أوربا، قسطنطين، لها، وما لعبه بعد ذلك من دور تأسيسي في تعايش المسيحية مع الوثنية (دون إراقة قطرة دم واحدة بين عامي 312ـ394 الذي تعاقبت خلاله سلطات دينية تعددية كان بعض قياصرتها مسيحيين وبعضهم وثنيين) ساهم في اكتساح هذه الديانة كل أوربا آنذاك، لتصير لاحقا أول ديانة في العالم (من أستراليا إلى الأمريكتين، اليوم)، وإن غدت في بعض مراحلها الظلامية لاحقا ديانة محاكم التفتيش والحروب الدينية وعداء العلم والحروب الصليبية.
لعل التاريخ المقارن مفيد لنا، معشر العرب والمسلمين، لمعرفة مدى ما تركه تدمير الأصنام، وحروب الردّة التي تلته في بدء نشوء الإسلام، من مبررات سمحت اليوم لبعض القوى الدينية القمعية اللجوء إلى العنف لفرض قناعاتها الدينية.
ودراسة التاريخ يلزم أيضا أن تكون في سياق دولي مقارن مفتوح على العالم، كما يقول المؤرخ، وليس في سياق محلي. إنسكلوبيدية “التاريخ الدولي لفرنسا”، (وليس “تاريخ فرنسا الدولي”) الذي ينهي المؤرخ إعدادها مع فريقه، يسير على هذا المنوال في البحث.