-قلت إن “نزوح” ولدت من أحشاء عملك لبضعة أشهر في جامعة درم ببريطانيا. اطلعنا على تفاصيل تلك الفترة، وكيف ولدت فكرة الرواية وكم استغرقت في كتابتها؟ 

قبل الإقامةِ في جامعة درَم، وزيارةِ مختبرات في الفيزياء الفلكيّة هناك، كانت قد أدهشتني دومًا، حدّ الدوخة، كلُّ الصورِ التي تصلنا، هذه الأيام، من تلسكوب جيمس ويب، وممّا سبقه من تلسكوبات، لِأوّلِ لحظاتِ تشكُّلِ أوّل المجرّات في الكون، لِولادة الضوء، لِمناظر أنحاءٍ مختلفة من كوننا الشاسع الحبيب.

مشاريعُ غزو الفضاء واستيطان القمرِ والمريخِ تُذهِلني كثيرًا أيضًا، لا سيّما وأنّ الوضعَ البيئي المتدهور لِكوكبِنا بأمسِّ الحاجة لِميزانيّاتها الهائلة: ثمّة مفارقةٌ فاقعة في الحقيقة!

أتساءلُ أحيانًا إن لم يكن في الأمرِ هروبٌ ما، مغامراتٌ ليس وقتها الآن. أتابعُ باهتمامٍ وشغفٍ يوميّات مشاريع غزو الفضاء، وأقرأ، بقلقٍ حقيقي، تقاريرَ الأوضاعِ البيئيّة لكوكبنا المسكين، فتُربكني هذه المفارقة أكثر فأكثر.

ثمّ في يومٍ ما، في بداية نوفمبر 2022، التقيتُ بباحثٍ علميٍّ يشتغلُ حول الأوضاع الصحّيّة والنفسيّة لِروّاد الفضاء الذين يعيشون لأشهر، خارج الجاذبيّة الأرضيّة، وما تعانيه أدمغتُهم من توتّر وضغط وهي تعيش في محابس مركباتها، أو محطّاتها الفضائيّة عدّة أشهر، أو جرّاء خلو طاقم المركبة من توازنٍ في عدد ذكورهِ وإناثِه إذا طالت المدّة!

بدأنا نتحدّثُ معًا حول تداعيات الإقامةِ طويلةِ الأمد خارج كوكب الأرض، والعددِ النموذجيّ للذكور والإناث فيها، ومواضيع أخرى جديدة في مجالات أبحاثهم العلميّة، قبل أن يتفجّرَ هذا السؤال المثيرُ المفاجئ:

هل يمكن للإنسان المقيم في بيئةٍ سماويّةٍ مستديمة، بعيدًا عن الجاذبيّة الأرضيّة، أن يُجامعَ، ويُنجِبَ، ويتكاثر؟

سؤالٌ روائيٌّ بامتياز، جاءني من السماء، استحوَذ عليّ، ولم أعد أفكِّر إلّا بروايةٍ يكونُ مركزَها.

-شكرت رائد فضاء في ختام الرواية، وهو مصدر جديد وربما غير معتاد لقراء الروايات العربية، يعطينا لمحة عن التحضير المختلف للرواية. كيف حضرت لهذا العمل؟ وكيف اختلف -التحضير- عن أعمالك السابقة؟

بعد تفكيرٍ طويلٍ بمشروعِ روايةٍ تنطلقُ من ذلك السؤال، تخوضُ في المفارقة المركزيّة التي تحدّثتُ عنها قبل قليل، بدأتُ بحثا بيوغرافيا طويلا لكلِّ جديدِ اكتشافات العلوم الفضائيّة. كانت ألبوماتُ صوَرِ رائد الفضاء الفرنسي توماس بيسكيت، وكتبُه، ومحاضراتُه من ألذّ المراجع. لذلك شكرته، خاصّة أنه ابن مدينة عملي، وحضوره الإعلامي حولي واسعٌ ومنير.

ثمّ تشكّلتْ المعالِمُ الأولى لِشخصيّاتِ مشروعٍ روائيٍّ جنينيٍّ يدور حول تلك المفارقة المركزيّة، حاولتُ فيه، بحياديّة، تركَ شخوصٍ لهم رؤىً مختلفة، أتّفِقُ أو لا أتفّقُ شخصيًّا معها، تُعبِّرُ عن آرائها وتُحقِّقُ أحلامها.

عموما، التخييلُ الروائي في «نزوح» كليّ، انطلق من الصِّفر، ووجدتُ في ذلك لذّةً خالصة.

-كيف يمكن تصنيف هذه الرواية. ديستوبيا، أم خيال علمي أو تخييل علمي كما في أعمالك الأخيرة؟

لا أحبّ، في المجال الأدبيّ، التصنيفات التي تشبه «جدول مندليف» في الكيمياء، كما لا أحبُّ وضعَ القبّعات النمطيّة على النصوص، أو التقييمات المانويّة النهائيّة لها.

لعلّها، عزيزي أسامة، كلُّ ما قلتَ معا في الوقت نفسه. أو لِنَقُلْ بكلمتين: هي تخييلٌ تأمليّ Speculative Fiction، بكل بساطة.

-العلم والتكنولوجيا والدين والتطور واحتلال الفضاء، إضافة إلى قضايا أخلاقية خلافية يحركها لقاء مستتر بين الشرق والغرب إذا اعتبرنا أن كل سفينة ترمز لجهة.. تطرح الرواية قضايا متعددة وتناقش أسئلة كثيرة لكن ما هو سؤالها الأساسي من وجهة نظر كاتبها. وبشكل عام ما هو رأيك في مسألة التأويل وأنت كاتب النص؟

سؤالُها الأساسيّ، يتلخّص ربما، كما كتب الشاعر والكاتب المعروف عيسى مخلوف في مقال له في مجلة «الوطن» المغربية: «شعرتُ وأنا أقرأ هذه الرواية أنّ بطلها الحقيقي هو الفضاء الخارجي، وأنها تطرح سؤالاً جوهريّاً عن وجود الإنسان في الكون، كما تكشف عن هذا التوق إلى اختراق أسرار المجهول، ما يحيلنا إلى الشاعرة اليونانيّة سافو التي عبّرتْ عنه منذ زهاء 2600 سنة بقَولها: “لو أستطيع أن أضمّ السماء بذراعيَّ!».

التأويل، عندما ينطلق من قراءة وحساسيّة فنيّة عالية، وتجارب ذاتيّة لافتة ومتجدِّدة، يضيف أبعادا جديدةً للنصّ. يفتح الباب حينها لثرائهِ وتعدّدِ إمكانيات معانيه.

-إلى أي حد تخوفت من تأثير توالي المعلومات العلمية والتكنولوجية وكثرتها على مسار السرد داخل الرواية؟

لم أتخوّف فيما يتعلّق بآليّة دمج المعلومات داخل السرد الروائي، في الحقيقة. ربما بسبب تجاربي في خمس من عشر روايات سبقت «نزوح»: عرق الآلهة، تقرير الهدهد، حفيد سندباد، وحي، جزيرة المطفِّفين (حسب الترتيب الزمني)، اندرجتْ في جميعها معارفُ علميّة وفلسفية وغيرها، في سياقاتٍ سرديّةٍ عاطفيّةٍ وحميميّةٍ مؤثرة غالبا، مما خفّف من وطأة ذوبان المعارف في السرد، وساهم في حسنِ تلقّي ذلك.

لكن تخوّفي الدائم سببهُ ضعفُ ثقافة القارئ العربي، وغيابُ معارف علميّة وفلسفيّة وتاريخيّة أساسيّة عن إدراكه؛ وضرورةُ أخذِ كلِّ ذلك بعين الاعتبار عند السرد.

الأمر يختلفُ كليّة مع القارئ الغربيّ الذي يواكب تطوّرات هذه المعارف منذ الصغر، بل يعتبرها معلومات أوليّة، بفضل المدرسة والمتاحف ووسائل الإعلام وهيمنة العلم (وليس الدِّين) على الحياة في بلدانه.

-اعتمدت في أغلب أعمالك السابقة على رحلاتك في أرجاء العالم، هل يمكن القول إن الرحلات كانت داخلية في هذا العمل، استرجاع لما ترسب من الرحلات السابقة حيث لا يوجد تركيز كبير على مكان واحد باستثناء اليمن طبعا؟

ربما كانت رحلات تأمليّة وتخييليّة في الأساس، بسبب أني لم أزر الفضاء بعد! لكن الجزء الذي يدور في الأرض احتاج منّي فعلا إلى استثمار بعض معارف وتجارب رحلات سابقة، كما لاحظتَ بحقّ.

-قواعد علمية، ومركبات وسياحة فضائية.. حتى أعقد التخييلات العلمية تجعلها تنطلق من اليمن؟ كيف تفعل ذلك. ولماذا؟

تحضر اليمن في كثير من رواياتي بأشكالٍ مختلفة. وتغيبُ عن بعضها كليّة، مثل رواية «تقرير الهدهد». بيد أن أهمّ معالم تاريخها الحقيقي، غير الرسمي، منذ السبعينات يمكنُ القبض عليه ومتابعته غالبا في توالي رواياتي. يهمّني ذلك، وإن ليس ألفَ وياءَ مواضيع رواياتي طبعا.

غير أن حضورَها في رواية «نزوح» المستقبليّة (حيث انطلقت المركبات الفضائيّة من «أرخبيل «سُقطرى الجديدة») مختلفٌ تماما: كانت اليمن فيها قد انهارت كليّةً بسبب حروبها الدائمة، وفشلِها المستفحِل ودورِ العالَم الخارجيّ السلبيّ فيها. «اليمن الجديد» و أرخبيل «سُقطرى الجديدة»، في الرواية، يسكنُهما بشرٌ آخر، كما يحدث لأوطان الشعوب المنقرضة!

ننسى غالبا أنّ الأمم، مثل كلِّ الكائنات الحيّة، تولد، تعيش، وتموت، كما حدث لِشعوب الأمريكتين قبل غزو كريستوفر كولمبس وعصاباته للقارّتين، وكما حدث لأمثلةٍ بلا عدّ طوال التاريخ.

-حاضرت قبل فترة وجيزة في مهرجان ميلانو عن الذكاء الاصطناعي واللغة العربية، بما يعكس اهتماما متزايدا بالفكرة وتأثيرها على اللغة والرواية بطبيعة الحال. ما أبرز ملامح المحاضرة وما التخوفات التي ترصدها بشكل شخصي؟

كانت محاضرتي الافتتاحية للمؤتمر مركّزةً حول وضع اللغة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي، بعد محاضرات ومقالات كثيرة كتبتُها في السنوات الماضية حول قصور دخول لغة الضاد لِلعصر الرقمي، وعدم استكمال بنائها التحتي آنذاك (واليوم أيضا، للأسف الشديد).

بعد تعريفٍ مقتضبٍ لمفهومِ الذكاء الاصطناعي، ولِتاريخهِ المرتبطِ جينيّا بتاريخ الكمبيوتر منذ ١٩٥٠، استعرضتُ سريعا المجالات التي يتفوّقُ فيها الذكاءُ الاصطناعي عن الذكاء الإنساني، أو تلك التي ما زال الأوّل فيها بعيدا جدا عن مستوى الثاني وقدراتِه.

أوضِحتُ في نهاية هذا المدخل أن الذكاءَ ليس مجالا واحدا نمطيّا خطيّا، والتفاعل بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني زجزاجيٌّ يتطوّرُ على الدوام.

ناقشتُ في ضوء ذلك سؤالَ المؤتمر: الذكاء الاصطناعيّ «قيدٌ للماضي أم أفقٌ للمستقبل؟» موضِّحا أنّ عبارةَ «قيدٌ للماضي» لا محلّ لها من الإعراب في تقديري، مع ضرورة مقاومة تطبيقات الذكاء الاصطناعي المؤذية السامّة كالتجسّسِ الآلي؛ وضرورة جعل مدوّنات اللغة Corpus، ونماذجها LLM، شفّافةً ومجّانيةً، في متناولِ الجميع (في إطار «العلوم المفتوحة»)، لتلافي الكثير من التداعيات الضارّة والمخاطر الافتراسيّة الممكنة جرّاء تعليم الكمبيوتر لغات الإنسان واستخدامِها آليّاً بدلا منه.

انتقلتُ بعد ذلك إلى الوضع الحالي لتقنيَتي الترجمة الآلية والتوليد الآلي للنصوص، منذ طفرة تقنيةِ «التعلّم العميق بشبكات العصبونات الاصطناعيّة».

استعرضتُ وضعَ اللغة العربية في هذين المجالين مُسلِّطا الضوءَ على بعض النواقص والعقبات الموروثة منذ عدم اكتمال بناء الأسس التحتيّة لدخول العربية العصرَ الرقمي، وتداعيات ذلك اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي.

تناولتُ في الأخير بعضَ المشاريع التي ينبغي رفدُها سريعا، والاتجاهات الضرورية لحضورٍ مرموقٍ وجبّارٍ للعربية يليق بتاريخها وإمكانياتها الهائلة.

-هل فكرت في توظيف الذكاء الاصطناعي في “نزوح”، وهل تفكر في تنفيذ ذلك مستقبلا؟

حاليا: لا. مستقبلا: لا أعرف. لأقُلْ: ربما؛ لأنني مهووسٌ بحبِّ الاستطلاع ومحاولةِ رؤيةِ ما وراء الأكمة، مثل كل أبطال رواية «نزوح».

-في أي مرحلة ترى أن الشكل الروائي هو الأنسب لما تنوي طرحه من موضوعات سواء عن الإنسان أو التكنولوجيا أو العلوم أو الدين، واللغة كذلك. على أي أساس تحدد الشكل الفني لأعمالك، إن كانت روايات أو كتب سردية؟

عندما نريد تناول مواضيع خاصّة، علمية أو دينية أو نقدية أدبية مثلا، فهناك أشكال سرديّة تقليديّة لذلك: لديّ، مثلا، كتبٌ علمية بالفرنسية والإنجليزية في مجال البحث العلمي أو التدريس، وأخرى ثقافية وفكريّة بالعربية. وكتابي القادم سيكون أدبيا محضا حول «رواية الغفران» و«الكوميديا الإلهية» وسيأخذ شكل دراسات أدبية، وليس رواية طبعا.

لكن عندما نريد تناول مواضيع «كليّة»، متعدِّدةِ الهموم والقضايا والأسئلة، فهناك طريقا ملَكيّا لا مثيل له: الرواية. اعتبرُ بحق أنّ «الرواية مدرسة الحياة»، وأنّها الشكل الأسمى لصناعة التخييل والتجارب الإبداعية وتوسيع حياة البشر.

-أرى أحيانا بعض التعليقات العنيفة على ما تطرحه من أفكار سواء في الروايات أو المقالات أو حتى تدوينات على صفحات وسائل التواصل. كيف تتعامل مع هذا الأمر. وبشكل عام كيف أصبحت تنظر لتلقي أعمالك في العالم العربي بعد أن قربت وسائل التواصل بين المرسل والمتلقي؟

أحاول أن أقول وأكتب كلّ ما أريده، في كلِّ المواضيع تقريبا، بشفافيّة وصراحة وحريّة عالية. غالبا جدا أرى التلقّي جيدا وألاحظ نجاح التأثير وإن كان ببطء قاتل. لكنهُ تأثيرٌ محدودٌ جدا أيضا، بسبب المستوى الثقافيّ العربيّ العام، ولأن سوقَ القراءةِ في العالَم العربي فاترٌ شِبهُ ميّت.

طبيعيّ جدا أن العناصر الظلاميّة والطائفية لا تحبّ ما أكتب. هذه سنّةُ الحروب الروحيّة «التي لا تقلُّ شراسةً عن حروب الفرسان»، كما قال آرثور رامبو. تعليقاتُها العنيفةُ التي لاحظتَها، لسوء الحظّ، لا تناقشُ أي فكرة. تُشخصِن فقط، وتشتم ببذاءة لا غير. لكنها قلّتْ نسبيا بالمقارنة بما قبل عشر سنوات تقريبا…

-هل تعتقد أن حساسية ما تطرحه من موضوعات أثر على التقدير والجوائز بالتحديد كما أثر على التلقي؟

لا أفكِّر كثيرا في هذه الأمور، بقدر تفكيري في تجديد وتوسيع مشروعي، وتطوير رفدِه. يُهمّني التلقّي بطبيعة الحال، وكل ما يساعد على زيادته، كالجوائز مثلا، لكني لن أبحث يوما عن إغراء المتلقّي والتمسيد عليه، كما يفعل السياسيّون لكسب أصوات انتخابية.

يهمّني تفجير الأسئلة، الصراع ضد أسباب الجهل والتخلف، الظلمات، الانغلاق، وجرّ القارئ نحو قضايا الحاضر والمستقبل، لا سيّما الأكثر جوهرية وحساسيّة؛ وإن كان ذلك لا يروق للمتلّقي.

-في ظل الواقع الملتهب لمنطقتنا ربما ترى قراءةٌ متعجّلة فيما تطرحه أحيانا ابتعادا عن الواقع المباشر، كيف ترى المسألة؟

نحن بأمسّ الحاجة، أكثر من أيٍّ كان، لا سيّما أدبيا، للانفتاح على كلِّ مواضيع العصر، كي لا نموت في دوّامة واقعنا المأساوي الكئيب، وحتّى لا نتخثّر وننقرض. توسيعُ مجال الرواية العربية يُهمّني كثيرًا، إذ أراهُ غالبًا مُكرِّرًا لِثيماتِه وأدواتِه، ضيِّقًا جدًّا مقارنة بالمفهوم الواسع الحديث للرواية المعاصرة.

أظنّ أن القراءات المتعجّلة التي تعتبر أن قضايا العِلم لا تهمّنا كعرَب لأننا «ما خُلِقنا لِهذا»، وأن المستقبلَ «بيد الله»، وأن تناولَه روائيّاً أشبهُ بقراءة الفنجان، جميعها قراءات قاصرة جدا، إن لم تكن كارثيّة.

أضحتْ هذه المواضيع اليوم، بسبب تعقيد الحياة وغموض القادم، قِبْلةَ الرواية الحديثة ومختبرَها الأهمّ.

-وبشكل شخصي كيف أثرت الأوضاع في اليمن وغزة والمنطقة عموما عليك وعلى كتاباتك؟

 تأثيرها الوجداني والنفسي عاصف. ألمٌ وأوجاع يوميّة. ينعكس ذلك على قلقٍ وجوديّ نعيشه، وإحباطٍ كليّ.

تساعد الكتابة جزئيا على المقاومة، من خلال تأجيج شغف القراءة، وتوسيع ذائقة عشق الأدب والعلم، بثّ روح المقاومة وعشق الجمال والانتصار للحبّ وللإنسان ضد الظلم والطغيان، من خلال الكشف المعرفي، أو من خلال التحذير الذي ينطوي عليه النصّ الديستوبي أيضا…

-بالحديث عن الواقع الملتهب والتغييرات الواسعة لمنطقتنا وعن الذكاء الاصطناعي الذي يتمدد تدريجيا. كيف تنظر لمستقبل المنطقة من واقع اطلاعك.. 

لستُ متفائلا إطلاقا. لن أقول أكثر. لا يعني ذلك عدم المقاومة، بالعكس.

-ما الجديد لديك؟ وما أبرز ملامحه؟

الجديد كتابان. الأوّل أدبيّ تحت الطبع، اسمه «كوميديا الغفران». يحتوي على صيغة مقتضبة من «رواية الغفران» (الجزء الروائي من «رسالة الغفران» للمعرّي: أحد أروع إبداعات الأدب العربي قاطبة).

حاولتُ فيها إعادةَ كتابة هذه الرواية، التي لم يقرأها أحدٌ تقريبا لِصعوبة لغتها، في صيغةٍ مبسّطةٍ مصغّرة، مُخفِّفا منها كثيرا من الاستطرادات والاستشهادات الطويلة، على غرار ما تفعل نصوصُ المناهج المدرسيّة الغربيّة وهي تسعى لتقديم كبار الأعمال الأدبيّة الضخمة الشاقّة، في صيغٍ تبسيطيّةٍ مقتضبةٍ أنيقة: تنتشلُ منها كلَّ ما يعيق أو يبطئ من قراءةِ غير كبار المتخصِّصين، لا سيّما طلاب المدارس والجامعات.

فيه أيضا قراءةٌ كاشفة لرواية الغفران، تفتحُ البابَ للحوار العميق حول هذه الرواية التي يواجهُ الخوضَ الكاشفَ في تأمّلاتِها وأسئلتِها وأحداثِها سياجٌ لا مرئيٌّ حتّى اليوم، إن لم يكن محرّماً في الأساس على نحوٍ غير مُعلَن.

وهناك قراءة زجزاجية تتنقّل بين رواية المعري والكوميديا الإلهية لدانتي من باب استنطاقِ الأعمالِ الأدبيّةِ الخالدة، وجعلِها تتواجَهُ، تنظرُ لبعضها البعض (من وحيّ: «اعرفِ الآخرَ تعرفُ نفسك»)، تتفاعلُ وتتلاقحُ وتتكامل… لا سيّما وأن العملَين الخالدين قُطبانِ أدبيّان يفصلهما كلُّ شيءٍ تقريبا، نحتاجُ مع ذلك لِقراءتِهما معا، لِيمرّ تيّارٌ مُلهِمٌ ينيرُ لنا الحياة.

الكتاب الثاني ما زال قيد الكتابة. يضمّ حوارا طويلا بدأناه عقب مهرجان ميلانو، الفيلسوف المغربي موليم العروسي وأنا. نتبادل حاليا مراسلات طويلة انطلقتْ من أسئلة الدماغ وعلوم الروح والذكاء الاصطناعي، دخلتْ على خطِّها مواضيع حيويّة ذات آفاق تتجدّد وتتطوّر باستمرار.