مفتاحان للخروج من مأزقنا الحضاريّ العربي
حبيب سروري
(إلى صديقي موليم العروسي، ونحن ننهي معا كتاب محاوراتنا عن الدماغ/الروح، الذكاء الاصطناعي، ووهمِ مفهوم «العقل العربي»)
ماذا نحتاج للخروج من مأزقنا الحضاريّ العربيّ، واللحاق بالعصر؟
سؤالٌ مركزيٌّ يهيمنُ الآن على كتابِ محاورتنا الطويلة، الفيلسوف والباحث المغربيّ موليم العروسي وأنا، التي تقترب من الانتهاء.
بعد أن أنهينا في محاورتنا فصلا طويلا عن الروح/الدماغ (نشرتْ صحيفة «الوطن» المغربية مقاطع طويلة منه [1])، ثمّ فصلا طويلا بعنوان: «من الروح/الدماغ إلى الذاكرة والذكاء» (نشرتْ صحيفة «النهار» اللبنانية مقاطع طويلة منه [2])، تدور محاورة الفصل الثالث حول التفكيرِ، كونه أهمَّ ملَكات الروح/الدماغ، وحول واقعِهِ في مجتمعاتنا العربية، وسُبلِ الخروج من مأزقنا الحضاريّ.
استهلَّ موليم محاورات هذا الفصل بهذه الفقرات شديدة الأهميّة:
((فلنبدأ بديكارت، المشهور بفكرته (Je pense donc je suis) والتي ترجمها العرب خطأ في نظري ب ”أنا أفكر إذن أنا موجود”، والصحيح ”أنا أفكر إذن إنِّي”. وذلك لأن قول ديكارت ”إني” تعني أنه اكتشف ذاته (وليس وجوده) بالتفكير. وبهذا يحدد التفكير بروز الذات والعقل على أنه دليل على انبجاس الفرد. ولعل أهم شيء حدث في الفكر الأوروبي قبيل وبعد النهضة هو انبجاس الفرد والاعتراف بقوته كفكر وكإحساس وبالتالي كفرد مستقل عن المؤسسات الدينية، والسياسية، والقبلية وكذا روابط الدم والعشيرة. إذْ لم يكن للحداثة أن تقوم لو لم تكن فردية الإنسان قد تحققت بهذا الشكل. وهذا معناه التفكير بحرية دون الخضوع لسلطات الدين أو السياسة أو العشيرة. ولو أن هذا الاستقلال الفردي لم يتم ولم ينتقل من الفلسفة إلى السياسة والدين لكان العلم بقي تحت سلطة الكنيسة بأوروبا كما هو الشأن ببلداننا العربية.
ولكن المنحى الديكارتي، وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي أتاحه للفكر وللعلم، أقام فكرا مبنيا على إرادة القوة والرغبة في السيطرة على الطبيعة. كما أن الديكارتية التي تحولت إلى ما يشبه العقيدة حاولت أن تُخضع كل شيء للمنطق الديكارتي. وإذا كان هذا المنحى، وفق الانتقادات الموجهة للديكارتية، قد ينجح إلى حد ما في البحث العلمي الصرف فإن الإنسان ليس آلة، والعلوم التي تسير شئون الإنسان ليست كلها منطقية بدرجة الديكارتية. من هنا، حسب الفلسفات اللاحقة بدأ الشك الديكارتي يتسلل للبناء المنطقي نفسه الموروث عن روني ديكارت)).
أضع فيما يلي مداخلتي التي تلَتْ هذه الفقرات، وبدأتْ بتناولِ هذا السؤال المركزيّ.
اتّفقُ، عزيزي موليم، مع ترجمتكَ الصحيحة والأنيقة لمقولة ديكارت على هذا النحو: «أنا أفكّر، إذن إنّى». ومع ما قلتَهُ عن اندلاع مفهوم «الفردانية» ودور الفرد، بفضل تسليط الضوء على نشاط التفكيرِ: مربطِ الفرس وعصبِ الحرب.
وبالفعل، مثّلَ انبجاسُ مفهوم الفرد الشرطَ الضروريّ الأوّلَ لدخول عصر الحداثة.
نقدُكَ لِترجمتِها الشائعة بالعربية: «أنا أفكِّر، إذن أنا موجود» في محلِّهِ تماما، وإن يبدو أن لصيغتِها العربيّة القاصرة هذه علاقةً بصيغةٍ متوسطة، قالها ديكارت نفسه في 1941: «je suis, j’existe»، إلا أن ترجمتك هي الأدق، لأنها تتفق مع الصيغة الديكارتيّة الأصليّة المعتمدة، أي الأولى والأخيرة.
لعلّ «أنا أفكِّر، إذن إنّي» الأنيقة هي فعلا أحدُ أهمِّ المفاتيح لمقاربةِ الاشتباك مع منابع مأزقِنا الحضاريّ العربي. نحتاج ربما لمزيدٍ من تسليط الضوء على هذه المقولة التأسيسيّة، المترجمةِ على نحوٍ قاصر عربيّا، لتمكينِ القارئ من استيعاب أهميَّتها.
اسمح لي أن استخدم مرادفتَها الناعمة: «أنا أفكِّر، إذن أنا أكون» التي تسلِّط الضوء على مربط فرسنا: «الكينونة». أليست الكينونةُ هي تجّلي الروحِ بأكمله. هي الروح/الدماغ، منطلق ومربط فرس كتابنا هذا؟
يلزمني أوّلا التذكيرُ بِسياق مدلول: «أنا أفكِّر» الديكارتيّ، المبنيّ على منهج الشكّ في كلِّ شيء، وعدم الانقياد للمقولات والمعتقدات السائدة.
لنتذكّرْ أنه قالها في كتابه «مقالٌ عن المنهج» في 1637، بعد 3 سنوات من إدانة محاكم التفتيش لجاليلو الذي شاركَهُ ديكارتُ الرؤيةَ الكوبرنيكوسيّةِ، المخالفةَ للرؤية الدينية السائدة حول مركزيّة كوكب الأرض.
(لم ينشر ديكارت، المتَّهمُ حينها بالهرطقة، رؤاهُ عن ذلك، ولا عن الدماغِ أيضا، إلا بعد مماته. كتبَ عن الدماغ أطروحات وفرضيات متقدِّمةً على زمانه، تُفسِّر انطلاقا من الدماغ كثيرا من النشاطات البيولوجية للإنسان، مخالفةً رأي الكنيسة التي كانت تعتبرها نشاطات إلهيّة).
لعلّ جاليلو، في تقديري، هو خيرُ تجسيدٍ لمقولةِ ديكارت. أتذكّرهُ شخصيّاً كلّما أسمعُ هذه العبارة!
ترتبط الكينونةُ إذن، من منظور هذه المقولة، بالتفكيرِ الفردّي الحرِّ الذي ينطوي عليه مفهومُ «الفردانيّة». منظورٌ مسؤولٌ فعلا، وخلّاقٌ أيضا، يقود إلى التميّزٍ والإبداع، لأنه، كما قلنا، يعتبر رؤى الفرد ومواقفَه مسؤوليّتَهُ الشخصيّة، وليست مسؤولية الحاكم أو الدين.
نحن هنا، صديقي، أمام عصبِ حرب الحداثة، ومدماكِها الأهمِّ الذي ما زال مرفوضا بمجمله في واقعنا العربي عموما، حيث تسود الأيديولوجية الشمولية (للحاكم وللدين) التي تُلغي مركزيّةَ الفرد، تُعلِّمهُ في الأساس ومنذ الطفولة، كيف لا يخرج عن السرب، كيف لا يُفكِّر، كيف لا يشكّ وينتقد ويرفض…
الحقّ أن الفردانيّة في ثقافتنا السائدة (حيث صلاة الجماعة، أخت صلاة القدّاس، «أفضل من صلاة الفرد ب 27 درجة»، وحيث لا صوت يعلو فوق صوت الاستبداد الشموليّ السياسيّ أو الدينيّ) غيرُ محبوبة، فيما هي أساس دخول الحداثة.
أتّفق معك، صديقي موليم، على أنّ كثيراً من التصنيفات الجغرافية، مثل العقل «الغربي» والعقل «العربي» التي تُستخدَمُ عربيّا وغربيّا، هنا وهناك، خاويةٌ في الجوهر، لا تخلو من الانفصامِ النفسيّ أحيانا، كما أجْلَتْهُ الفقرةُ الأخيرة من مداخلتك، عندما قلتَ:
«الغريب أنهم يرفضون العقل الكوني الذي سموه بالعقل الغربي عندما كان محمولا من طرف أجساد أوروبية أو أمريكية أو يابانية وبعد ذلك صينية، لكنهم اقبلوا عليه عندما أصبح كمبيوترا وهاتفا محمولا واليوم ذكاء اصطناعيا».
فالمقولةُ الديكارتية التي نحن بصدَدِها هنا ابنةُ العقلِ «الكونيّ» فعلا: المرجعِ الإنسانيّ الوحيد الذي لا شريك له. مثلُها في ذلك مثلُ رفيقِها المعاصِر: قانونِ جاذبية نيوتن، ابنِ نفسِ القرن السابع عشر.
يحتاجها الإنسان (شرقا وغربا) لدخول عصر الحداثة، كما يحتاج لمعرفة قانون الجاذبية، بِغضِّ النظر عن بقعة ولادته أو موقعه الجغرافيّ. وكما يحتاج لمبادئ إنسانيّة تنتمي لتراث «الأنوار» الكونيّ مثل: حريّة التعبير، التسامح الدينيّ، «لا إمام سوى العقل»…
شديدُ التعبيريّةِ رفضُ هذه المقولة في مجتمعاتنا العربيّة، وطمسُها بكينونتين لا ثالث لهما: «نحن» و«الله»؛ أو بشعاراتٍ مثل: الله – الوطن – الملك (يغيب عنها الأهمّ: القانون – الشعب – الإنسان).
نعم، عزيزي، ثقافتُنا السائدة تعادي الفردانيّةَ وتطمسها، لا تُعلِّمُ الإنسانَ العربيّ «كيف لا يفكِّر» فقط، أي: كيف لا يكون؛ بل تُعلِّمهُ أساسا كيف يفتخر أحيانا بأنّه لا يفكِّر ولا يكون، تحت تبريرات «أنويّةٍ» egocentrique زائفةٍ فارغة، تجعلهُ يعتقدُ أنه ينتمي لأمّةٍ اصطفاها الله على العالمين!
قبل أن أتوقّف قليلا عند «إرادة القوّة» التي انبثقت من أعطاف مقولة ديكارت، أودّ العودة للجذور الشكسبيرية لمقولة ديكارت.
نتذكّر جميعا الصرخة المركزية لِمسرحيته «هاملت»، في 1604: «أن تكون أو لا تكون!».
لعلّ جذور فكر إرادةِ الكينونة، المقاومِ لطمس الذات، وللشمولية والهيمنة والاستبداد، انطلقت من هذه الصرخة ذات التجليات العديدة: «أن تفعل أو لا تفعل»، «أن تريد أو لا تريد»، «أن تقبل الضيم والقمع أو أن تكون حرّاً»…
غير أن الشرط الضروري والكافي لولادة الكينونة هو، حسب ديكارت، آتٍ ضمنا من أهمِّ تجليّاتها التي تجيب على هذا السؤال: «أن تفكِّر أو لا تفكِّر؟».
لن تدركَ ما يوجدُ وما لا يوجد، لن ترى تاريخَ الكون في الأضواء القادمة من فجر ولادته: البيغ بونغ، لن تُحقِّقَ كينونتك وحريّتك من دون الردِّ الإيجابيّ على هذا السؤال المركزيّ.
أعود الآن إلى «إرادة القوّة» التي انبثقت من المقولة الديكارتية. لم ترتبط إرادةُ القوّة هذه بالفرد فقط، لكنها توسّعَتْ سريعا وامتلكَتْ نظيرَها الجيوسياسيّ عبر مفهومٍ جديدٍ شديد الأهميّة: «الدولة-الأمّة» L’état-nation، ظهرَ في 1648، بعد سنوات قلائل من عبارة ديكارت، عند «اتفاقية ويستفاليا» بين بعض الدول الأوربية، عقب حرب الثلاثين عاما.
ارتبط هذا المفهوم مباشرةً بمدلول «السيادة الوطنية» المتكئة على القوة المطلقة المستقِلَّة الدائمة للدولة، وليس على التعايش والتصالح والسلم الدائم أو الاندماج.
سرعان ما فرضت الحضارةُ الأوربية هذا النموذجَ الجيوسياسيّ على العالَم أجمع، باعتباره الإطارَ الرسمي للحداثة في السياسة الدولية.
قاد هذا المفهوم سريعا إلى تعاظم أهميّة الحرب كوسيلةٍ لتعزيز قوّة الدولة والدفاع عنها.
غير أن الحروب، قبل الثورة الفرنسية، كانت شأن الحكومات وحدها (وليس الشعوب): تستخدمُ كلُّ حكومة مواردَها المالية من أجل حروبها، وتزجّ في أتونها بالعاطلين من سكّانها أو سكّان الدول المجاورة التي تهيمن على بعض أراضيها، بُغية توسيع أراضي دولتِها أو الدفاع عنها.
تغيّرَ كل شيء عقب الثورة الفرنسية، كما قال كلوزفيتش صاحبُ كتاب «عن الحرب»: «تحوّلت الحرب فجأة إلى قضيةِ شعب. شعبٌ ذو 30 مليون نسمة يعتبرون أنفسهم “مواطني” الدولة!».
لم تعد الحرب إذن موضوع مكتبٍ حكومي، لكن قضية شعبٍ بكامله. «نابليون بونابرت، هذا الجبروت العسكريّ المبني على قوّة الأمّة بكاملها، تقدّمَ بعنفوانٍ وثقةٍ في كلِّ أوربا، مكتسحا كلّ الجيوش التي واجهها. النتيجة جليّة، لا يمكن الشكّ فيها لحظةً واحدة»، كما يقول كلوزفيتش…
لن أدخل في تفاصيل الحروب بين الدول الأوربية التي أعقبت الثورة الفرنسية وتأثّرتْ بها، أو الصراعات الدولية والتنافس على الهيمنة الاستعمارية، والقانون الذي انبثق من كلِّ ذلك: فرضُ تمييزِ وتفوّقِ وسيادةِ مصالح الدول الإمبريالية الأقوى، كما هو حال أمريكا اليوم، على سبيل المثال.
لذلك، ما يبدو لي في غاية الأهمية الآن: لتكنِ الفردانيّةُ التي نطمح لها فردانيّةً تشاركيّةً تضامنيّةً، لا استحواذيّة، لأنّ الفردانيّةَ الصرف تقود إلى «إرادةِ القوّة» التي يمكنها أن تتضخّمَ وتطفحَ وتقودَ إلى الهيمنة الأنانية.
سأنتقل من هنا سريعا إلى وضع واقعنا العربي الآن، وما يعيشه من حالة اغترابٍ واستلابٍ قصوى في ظلِّ هذه المعمعة الدوليّة وإرادة القوّة الاستعماريّة التي أنجبَتها الحداثة:
خارطةُ عالمنا العربي، بِدولِهِ المتشظّيَة المتناثرة الحالية، ليست ابنة اختيارات محليّة أو شعبيّة، بل فرَضَتْها غالبا قراراتٌ ومصالح استعمارية لا غير، وهزائم عسكرية متوالية.
بجانب ذلك، حياة كل شعبٍ عربيٍّ في إطار دولتهِ (الاستبداديّة غالبا)، استلابٌ خالصٌ: لا سلطة له في الحقيقة، ولا حقوق مدنيّة حديثة لمواطنيهِ في أغلب المجالات.
ثمّ أتتِ العولمة لتزيد الطين بلّة: هي إطارٌ جديدٌ في العلاقات الدولية يتطلّب معرفة الآخر، والتفكير من منظورٍ تشاركيٍّ شامل inclusif، أوسعَ من حدود الطائفة والإقليم. يأخذ بعين الاعتبار مصالح الكرة الأرضية وكائناتها البيولوجية عامّة.
إطارٌ يقتضي التفاعلَ الحيَّ الفاعل مع كلِّ العالَم لِفرض إيقاعِ الذات، داخل سمفونيةٍ أمميّةٍ متناغمة.
إطارٌ جديدٌ ازدادتْ فيه عزلةُ الإنسان العربي واغترابه وتقوقعه ولا أهميّته، كونه لا يمتلك غالبا آليات تفكير العصر لاستيعاب هذا الواقعَ المعوْلَم وطُرق مواكبته، أو لِلعب دورٍ هامٍّ فيه. لذلك ازداد تشبُّثه بماضيه، كردِّ فعلٍ طبيعيّ على ضعفِه وعدم قدرتِه، بل عجزِه، على صنع الحاضر والمستقبل؛ وتفاقمت هزائمه ونكباته وضياعه.
يقودنا ذلك من جديد لعبارة ديكارت التي تُفسِّر هذا الضعف. فنظيرتُها المنطقيّة: «أنا لا أفكِّرُ، إذن لستُ…» هي ما تنطبق تماما على واقع الإنسان العربي اليوم!
«لا أفكِّر» هنا تعني، فيما تعنيه: أفكِّرُ خطأً، انطلاقا من مسلّماتٍ ومعلوماتٍ دحضها العِلم والبرهان.
السؤال الذي سيفرضُ نفسَه علينا الآن، صديقي موليم، بعد رسمِ بعض ملامح ثقافتِنا السائدة، والتذكيرِ ببعض مسلّماتها التي لا تتزحزح:
ماذا نحتاج للخروج من مأزقنا الحضاريّ، واللحاق بقطار الحداثة؟
نحتاج، بطبيعة الحال، إلى بوصلاتِ ثقافةِ الحداثة، ذات الاتجاه المعاكسِ للبوصلات السائدة.
بيد أن ثقافةَ الحداثة ليست فطريّة. لا تُكتَسب بدون تربيةٍ وتعليم. لها معارفُها وطرائق بثِّها وترسيخِها. وللمدرسةِ في تحقيق وترسيخ ذلك دورُها الطليعيُّ.
ولأنَّ الأميّة الثقافية (مثل ثقافة غسل الدماغ الأيديولوجي، والديني الظلامي) تقود بسهولة إلى تكريس وديمومة الثقافة السائدة، وإلى خلق أجيالٍ من جنودِ أنظمةِ الطغاة والظلمات، وإلى قتلِ عشقِ المعرفة والرغبة في صناعتها، وإلى رؤيةِ العالَم على نحوٍ مغلوطٍ ضار لا يسمح بالاندماج به. فالجهلُ يقود دوما إلى النكبات والهزائم.
أوّلُ البوصلات المعاكسة تكمن في تغيير مناهج المدارس كليّةً لتعليمِ الطالب العربيّ كيف يفكِّر على نحوٍ حرّ، كيف يتساءلُ ويشكُّ من كلِّ المسلمات وينتقدُ ويرفض. بغية غرسِ عشقِ التعلّم الدائم في عمق أعماقه، وشغفِ البحث والاكتشاف وصناعة المعارف.
المناهجُ البديلة يلزمُها أن تُغذّي وتوهِّجَ في تلابيب دماغ الطالب روحَ الفردانية التضامنيّة التشاركيّة التي تحدّثنا عنها أعلاه. وأن يكون شعارُها: «لا إمام سوى العقل» لمولانا أبي العلاء المعرّي، وأن تتكئ كليّةً على العِلم، وأن تنفتحَ على الذكاء الاصطناعي وجديدِ البيولوجيا الحديثة، وأن تتناغمَ مع الزمن وعصر العولمة، وأن تكون منفصلةً عن مسلّمات الدين: تتكئُ على تقديم التاريخ العلمي (وليس الدينيّ)، وعلى سردِ نشوءِ الكونِ وأصلِ الإنسان من منظورِ العِلم فقط، وعلى نشرِ أخلاقِ حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين…
تحويلُ ذلك إلى برامج دراسيّة مشروعٌ يتطلّب جهودا هائلةً وخبراتٍ نيّرةً لا تميل إلى النفاق والمواربة والترقيع. إذ هو فعلا الركيزةُ الأساسيّةُ للدخول في عصر الحداثة، ولتجاوزِ المأزق الحضاريّ في مجتمعاتنا العربية.
لن أدخل هنا في تفاصيل خارطة الطريق لبلوغ ذلك. أكتفي الآن باستحضارِ أحلامٍ طالما راودتني، منها ألّا أرى في مدرستنا العربية برامجَ تعليميّةً وتربويّةً حديثةً فقط، بل أيضا نشاطات ثقافيّةً زاخرةً تُغذّي وتدعم هذه البرامج.
للأدب في ذلك دورٌ خاص، بفضل ارتباطِهِ الكليّ الحميم باللغةِ (أي بمادّة التفكير وإطاره)، وبتطوّراتِ جديدِ الواقع. لعلّهُ بامتياز أفضلَ الأدوات لِبثّ روح الحريّة والإنسانيّة والإبداع.
كم تمنيّتُ، صديقي، أن أرى يوما مسرحية بريخت: «حياة جاليلو» تُقدَّم للطالبِ العربي. وأن تكون ضمن مناهجهِ سيرةُ حياة ودروس كفاح غاندي ونيلسون مانديلا؛ تفاصيلُ رحلة داروين في سفينة بيجل؛ تراث «الأنوار» الكونيّ… وغير ذلك كثير.
انتقلُ الآن إلى المفتاح الثاني، بعد مقولة ديكارت بصيغتها التعاضدية التشاركيّة: مقولةٌ أخرى تُهمُّني بمقدارِ عبارة ديكارت، اعتبرها، هي أيضا، بوصلةً أخرى هامّة، معاكسةً لِاتجاهِ بوصلةِ ثقافتِنا السائدة التي تقودنا غالبا إلى «الأنَويّة» والدوران حول الذات وجهلِ الآخر:
مقولةٌ تنتصُّ في طليعة مقولات استراتيجيات «فن الحرب»، في الثقافة الصينية. ليس المقصود هنا الحربُ العسكريّة فقط، لكن كلُّ مشروع إنساني تفاعليّ، بوصفِهِ حربا أيضاً. يتضمّنُ ذلك: «جهادَ النفس»، العلاقةَ بالنصفِ الآخر: المعشوقة أو المعشوق، كتابةَ رواية…
تقول المقولة: «اعرفِ الآخرَ، تعرفُ نفسك!». أيْ كي تعرفَها، لا تُقضِّي وقتكَ تدورُ حولها كالخذروف، بل تغلْغلْ في استيعابِ حياة الآخر، اشتبكْ بعلاقةٍ عميقةٍ معه، ادرسْهُ، قارنْ نفسَك به، وستعرفُ ذاتَك حينها، وحينها فقط.
فالدوران حول الذات قاتلٌ ومدمِّر، يُطفئ روحَ التعلّم والاستكشاف، ويقود إلى الجهل الذي يقود إلى الهزيمة.
إذْ لا يمكن رؤيةُ الغابة كليّةً إلّا من خارجها، وليس في أثناء القبوعِ في أحد فروع شجراتها. فمن الذهابِ إلى شجرتهِ تستطيعُ رؤيةَ شجرتِك التي وُلدتَ وترعرعتَ عليها، وليس من التشرنقِ في أحدِ فروع هذه الشجرة. إذ كيف يمكن لِدُودِ الأرض أن تمتلكَ رؤيةً كاملةً دقيقةً لمربَعِها، لِكُرتِها الأرضية؟
كلُّ ما تراهُ في العوالم التي تتعرّفُ عليها بالقراءة أو السفر يجعلكَ، بلا وعي، تستحضرُ صورا شبيهةً أو معاكسةً عشتَها في بيئتِكَ الحاليّة أو بيئاتِكَ الأولى.
يمرُّ لذلك في دماغك تيّارٌ دائمٌ يتنقّلُ بين أقطابِ مناظر وأساليبِ حيوات مختلفة. تشتبك نظراتك المتعدّدة للحياة، تتوسّع مداركُك، ويتعمّق استيعابكَ للعالَم.
معرفة الآخر والانفتاح عليه وعلى دراسة حضاراته وتاريخه وفنونه وقوانينه المدنيّة في المدرسة، في غاية الضرورة، لا سيّما في عصر العولمة.
كم حلمتُ دوما لو كنتُ قد تعلّمتُ، في المدرسة في اليمن، اللغةَ العِبريّة أو الفارسيّة أو السواحليّة، نبذةً عن تاريخ الصين أو أفريقيا السوداء، وغير ذلك كثير…
يسمح ذلك بفتح جسورٍ باتجاهِ الآخر، بِتعزيز مشاريعٍ وتعليمٍ متناغمٍ معه، بِعناقِ آفاقٍ مشتركةٍ وإيّاه. فجهلُهُ أو تجاهلُه يعني إشعارَه بعدمِ قيمتِه، وربما معاداتِه.
اختتمُ حديثي عن أهميّة هذه المقولة الثانية باستحضار ذكرى سؤالٍ كنتُ أجهلُ الإجابةَ عنه، وجّهتُهُ يوماً، عندما كنتُ طالبا، لِجمعٍ كبيرٍ من المثقفين في لقاء جماعيّ: «هل يجوز في اليهوديّة زواجُ الرجل من أكثر من امرأة؟».
لم يستطع أحدٌ الإجابةَ على السؤال بِثقة، واضطررنا حينها الاتصالَ الهاتفيّ بِخبيرةٍ في الثقافة اليهودية لمعرفة الردّ!
أتساءلُ دوما: كيف يجهل المرء معارفَ أوليّة كهذه؟! كم نجهل الآخرَ فعلا!…
أما المثل الثاني الذي استحضرهُ الآن، حول هذه المقولة الصينية التي أودّ أن أضيفَ لها كلمتين: «اعرفِ الآخرَ (لا سيّما عدوّك)، تعرفُ نفسَك!»، فقد تذكّرتهُ يوم مقتلِ قيادة «حزب الله» في دورٍ تحت أرضيٍّ من عمارةٍ بأطرافِ بيروت، بُعَيد أيّامٍ قلائل من «يوم اللاسلكي» الذي قتلَ وجرحَ الآلاف من أعضاء الحزب، والذي حدثَ، هو أيضاً، بُعيد يومين أو ثلاثة من «يوم البيجر» الذي أطاح بالآلافِ أيضا!
كيف يمكن، لجنودٍ لهم صاعٌ وباعٌ مثل غيرِهم في «نظرية المؤامرة» عادةً، عدمَ التساؤلِ عند شراءِ جهازٍ يدويٍّ يوميِّ الاستعمالِ من قبلهم، إن لم يكن الجهازُ من صناعةِ العدوّ؟
لماذا لم يتمّ التخلّص سريعا من «اللاسلكي»، ورميهِ، في أبعدِ سلّة مهملات، بعد يوم «البيجر»؟
لماذا لا يقرأون الروايات، لا سيّما الروايات البوليسيّة وروايات الخيال العلمي؟
أمّا جهلُ معرفةِ إمكانيات عدوِّكَ، والتجمّعُ الجسديّ لِعقدِ اجتماعٍ للمكتب السياسي، بعد كلِّ ما حصل، فهو أقصى ما يمكن أن يفعلَه الدماغُ البشريِّ من تدميرٍ غبيٍّ مجانيٍّ للذات! سيَنقشُهُ التاريخ، كما يبدو، لأمدٍ طويل بالإبّرْ، على آماق البصرْ، ليظلَّ عبرةً لمن اعتبرْ!…
هوامش:
[1] https://habibabdulrab.com/wp-content/uploads/2024/09/محاورة-موليم-العروسي-وحبيب-سروري.pdf