ما السعادة؟
حبيب سروري
“ما السعادة، من وجهة نظرِكَ؟”؛ سألتْني. تلعثمتُ، لأن أبسطَ الأسئلة صياغةً أصعبُها إجابةً. لو سألتْني ابن عم السؤال: “ما الحقيقة؟”، لتلعثمتُ أيضاً، وبلا شك.
ناهيك عن أن الواقع الراهن لحياتنا المعاصرة التي تتقاذفها أطياف الموت والآلام الجمعية المتلاطمة، من حروب ومجاعات وغرقِ مهاجرين ومنبوذين… تجعل سؤال السعادة غريب المزاج، خارج السياق، في غير محله وزمنه.
كأس قهوة، وبضعة دقائق من الانفراد اقترحَتها محاورتي، كي ألملم أجابتي على سؤالها المباغت الذي لم يخطر ببالي يوما تناوله!
كان من السهل البدء باستبعاد ورفض الردود التقليدية التي أختلف معها، حول السعادة.
فالسعادة ليست ابنة الثراء، في تقديري. لذلك اعتبرُ، في منتهى التفاهة والبلاهة، عبارةَ صاحب مكتب الدعايات الفرنسي، سيجيلا، وهو يدافع عن مَيل ساركوزي، عندما كان رئيساً لفرنسا، لإظهار ساعته الرولكس (هل اقتدى به البغدادي بعد ذلك؟): “عندما لا تكون لك ساعة رولكس، وقد تجاوزتَ الخمسين، فحياتك فاشلة!”
فعلاً، “المال لا يصنع السعادة”، كما يقول تعبير شعبي فرنسي، لكنه يتناسب طرداً معها، حسب دراسات، حتى درجةٍ محددة تضمن للمرء تحقيق حاجاته الضرورية لصحته وازدهار حياته وأهله وذويه: علاج صحي، مطعم بين الحين والحين، رحلات سفر، شراء كتب دون حساب الميزانية العائلية… وما إلى ذلك من ضرورات حياتية يشعر المرء بالشقاء إن صعب تحقيقها لظروف مالية.
لكن لا علاقة مباشرة بين المال والسعادة، خارج هذا الحد الأدنى، كما تبرهن الدراسات؛ إن لم يتحوّل المال أحيانا إلى منبع شقاء.
لم أعرف كيف أتقدّم في الرد على محاورتي، قبل أن تفك هي نفسها عقدة لساني بسؤال عملي فطين: “من هم نماذجك في السعادة؟”.
هنا أنطلقتُ!
من كل النماذج الفلسفية والدينية والروحانية للسعادة، ثمّة واحد يستقطبني وأحاول أن أتناغم معه: سيزيف، أحد أبطال الميثولوجيا الإغريقية، مؤسس مدينة كورنث، والذي يعتبره البعض الأب الحقيقي لبطل الأوديسة وعبقري الإلياذة: عولس.
استطاع سيزيس تقييد إلهة الموت ثاناتوس، كي لا تقود أحدا إلى جهنم. وكشفَ بعض أسرار الآلهة.
لعقوبته، حكم عليه كبير آلهة الإغريق زوس برفع صخرة حتى قمة جبل تارتار، تسقط الصخرة بعدها إلى القاع، ليعاود رفعها نحو القمة من جديد، وهلمّ صعودا وهبوطا، دون توقف.
رأى كامو أن سيزيف سعيد لأنه ثار على الآلهة، وصاغ مصيره بنفسه. واجه قيود الواقع بعناد وبسالة. اعتبر كامو خطوات سيزيف بين دحرجتين للصخرة، وعزيمته على رفعها من جديد: لحظات سعادة ذاتية خالصة.
قال كامو: “يلزمنا رؤية سيزيف سعيدا”!
يكفي اعتبار الصخرة، بالنسبة لي، استعارةً عن مشروع شخصي: بحث علمي، كتابة رواية، سفر، تحقيق مجموعة أهداف ومشاريع عائلية، إنسانية…
تُعيد لنا أيضا هذه الرحلات السيزيسية الدائرية، مع الصخرة نحو القمّة، حكمةً يمنية عميقة، افتتح بها علي زيد روايته “زهرة البن”: “من مشنقةٍ إلى مشنقةٍ فرَج!”.
من منظور هذه الحكمة، تبدو لحظة السعادة والفرج كما لو كانت: المساحةَ بين مشنقتين، الحرية بين سجنين، النجاح بين مهمتين أو قيدين من مهمات وقيود الحياة.
كل السعادة تكمن هكذا في ديمومة المقاومة، في عدم الهروب من آلام الحياة بالانتحار أو بالخضوع أو بالاستسلام، بل بالمجابهة والاندماج بالمصير وعشقه. أي عبر ال Amor Fati، حسب مصطلح نيتشه.
“كل ما لا يقتلنا، يزيدنا قوة”، يقول نيتشه في كتابه “غروب الآلهة”. ولذلك، في هذه المجابهة الحية، المعجونة بهموم الحاضر والمتفاعلة مع معاناته، تتجسد “إرادة القوة”، حسب مفهوم نيتشه أيضا، ويتبلور مشروع “العودة الأبدية”، حسب مفهومه أيضا.
لعل هذا الأخير مفهوم صعب الإدراك، كعادة كثير من المفاهيم النيتشاويه، وإن تُلخِّصه أفضل تلخيص عبارة شهيرة: “عش حياتك بالطريقة التي تسمح لك بأن تتمنى عيشها مراراً وتكرارا إلى الأبد”.
أثمة حياة إنسانية حقيقية سعيدة، تتماهى مع هذا النموذج النيتشاوي، بصيغته السيزيفية، كما رمز لها كامو؟
لم أكن قادرا على الإجابة على هذا السؤال، قبل مدد الإضاءة المفاجئة، من وحي حياة ماركس، كما برهن فرانسيس وين في كتابه “ماركس، سيرة مفاجئة”: “كثيفة السعادة”!
من يُصدِّق ذلك؟
كارل ماركس الذي كان فقيرا مريضا مطاردا ومحاصرا ومنبوذا في كل دولة، عيون كل مخابرات وبوليس العالم تحاصر حركاته وتراقب سكناته كأخطر إنسانٍ في العالَم، والذي لم يمتلك غالبا ثمن أجرة الشقق الرثة التي عاش بها مع عائلته، كان سعيدا أيضا!؟
مات طفلان من أبنائه بسبب المرض والظروف الصحية الصعبة لحياتهم العائلية المحاصرة الفقيرة. كان يكتب معظم كتبه وهو مستقيم، بسبب أوجاع مرض جلدي مستأصل فيه يمنعه من الجلوس، لكنه كان سعيدا جدا فعلا!
سعيد فعلا لأنه، مثل سيزيس، ثار ضد الآلهة: كشف دور المال في حياة البشر، والخطيئة الجذرية للرأسمالية، رغم أن مجلدات كتابه “رأس المال” لم تكن تُطبع خلال حياته إلا من مئات نسخ فقط. وترفض دور النشر غالبا مقالاته وأعماله، وتعتبرها في منتهى الخطورة.
لكنه صار اليوم من أهم عمالقة العصر ومستشرفيه، تُدرَّس أفكاره في الثانويات والجامعات الغربية، وتعتبره أحزاب “الاشتراكية الديمقراطية” التي تقود بعض دول شمال أوربا، ومعظم اليساريين والتقدميين في العالم: بوصلتهم الدائمة؛ رغم خطأ بعض استشرافاته وتوقعاته كالثورة البروليتارية، وديكتاتورية البروليتاريا.
“لا أظن أن أحدا كتب عن رأس المال بهذه السعة، وهو محروم منه بهذه الدرجة”، قال ساخرا من نفسه. أو كما قالت له زوجته جيني، ورفيقة عمره: “مجلداتك عن رأس المال لم تضمن لك رأس مال شراء سجائرك!”.
عجيبٌ جدّاً هذا الثنائي المكافح الذي تشرّد كثيراً وتبادل العشق الحقيقي الكثيف خلال نصف قرن، لكنه لم يتبادل الرسائل الحميمة إلا قليلاً، وكأنَّ كميّة الثرثرة في العشق تتناسب عكسيّاً مع طاقته الثرموديناميكية!
ظهرت هذه الرسائل مؤخرا في كتاب: «رسائل عشق ونضال»، يعكس علاقة عشق مدهش حميمي حقيقي بديع بين هاذين الإنسانين النادرين. لعله أحد أهم أبعاد سعادة كارل ماركس.
المثير أيضاً أن كارل كان يوقِّع رسائله الغرامية لجيني بتوقيع «العربي»: كلمة السر بينهما! ربما بسبب لونه الذي يميل قليلاً إلى اللون الأسمر، ورغبته في التماهي لذلك مع أوتيلو، أحد أبطال شكسبير (“شكسبير أحد شغف قراءات ماركس المتكررة، ووسيلته لاستيعاب تعقيد العالم”، كما قال صاحب “ماركس، سيرة مفاجئة”).
عندما سُحب من ماركس جواز مقاطعته الألمانية (بروسيا) وهو في السابعة والعشرين من العمر، شكر حكومته لأنها منحته حريّته!
سخرية أنيقة تترجم “إرادة القوّة” التي يتمتع بها هذا “الإنسان الأعلى”، بالمعنى النيتشاوي.
تكمن أعلى درجات سعادة ماركس في كونه شاهِد عصره، الذي علِّق وتفاعل مع كل شؤون العالَم ويوميات حاضره، بغزارة وقوّة وأفكار نقدية متجددة حرّة، كما لو كان العالَم كله بيته الصغير.
انطلق ماركس من مصيره كمهاجر منبوذ، لتشييد أمميةٍ ثورية تتجاوز الحدود الجغرافية: كلّ ما لم يسحقه زاده قوّة فعلا، حسب تعبير نيتشه!
كان ماركس يعيد صياغة أفكاره ويجدد مقترحاته ويمارس شكّ الباحث الذي يرفض إعطاءها قالبا أيديولوجيا جاهزا متجمدا. وكان شعلة تساؤلات وفرضيات وتجديد لا تتوقف.
مثل نيتشه الذي ثار وهدّم الأصنام في الجانب الثقافي، كانت ثورة ماركس، في الجانب السياسي والاقتصادي، مشروعا مؤسسا أيضاً على الإرادة والثورة والتغيير والمقاومة والرفض والأمل.
منبعَ كفاح وعذاب وصراعات لا تخلو من الهزائم والأخطاء.
في العناق الديالكتيكي بين كل هذه الروافد والفلزّات، يكمن إلكسير السعادة الحقيقية.