لماذا لم ينحسر العنفُ العربي؟
حبيب سروري
الدارس لتاريخ العنف على المستوى الإنساني الدولي، منذ فجر التاريخ، يلاحظ أن ثمّة شيئا ما يُشبِه انتصارَ “الجانب الملائكي في الإنسان”، حسب عبارة إبراهام لنكولن. أو انتصار جانبه الإنساني والعادل، حسب تعبير كونفوشيوس.
إذ، رغم الحروب المحلية والتفجيرات الإرهابية وأنواع العنف المختلفة، لم يتوقف العنف البشري، بكلّ أنواعه وعلى صعيد البشرية جمعاء، عن الانحسار والاضمحلال، لا سيّما في العقود الأخيرة، كما تؤكد، بشكل مدهش ومثير، الدرسات الواسعة، والرسومات البيانية الدقيقة، التي تَحدَّثنا عنها في مقالنا السابق.
لا يعني ذلك أن مستقبل البشرية صار مفروشا بالورود، على نحو طرديٍّ مؤكد:
يكفي مثلا رؤية الواقع البيئي الجديد الذي وصل إليه كوكبنا، ولأول مرة، بسبب تدهوره الكارثيّ جرّاء إفراز النشاطات الإنسانية، من مواصلات وصناعة، لكميات هائلة من غازات الاحتباس الحراري تُدمِّر التوازن البيئي للأرض وتُنذر بأمّ الكوارث؛ قبل أن تقود، إن لم يتم كبح جماحها على نحو جذري دوليٍّ جاد، إلى عنفٍ وصراعات دولية من طرازٍ جديدٍ ماحق.
ثمّ لا يعني ذلك أن البشرية تعيشُ اليوم عصرا سعيدا، بكل ما تحمله السعادة من جودة:
لا ترتبط السعادة الإنسانية، على نحو آلي، باتجاهات الرسومات البيانية واستعراض الأرقام الصارخ: السعادة إحساس ذوقيّ نوعي، وليست كميّات رقمية فقط.
يكفي ملاحظة أن الجيل الغربي الحالي يعتبر نفسَه، ولأول مرة في تاريخ استفتاءات الرأي حول السعادة، أقلَّ سعادة وحظا من الجيل الذي سبقه، رغم أن نصيبَه في كل المجالات أفضل من نصيب جيله السابق.
في كلِّها دون استثناء: إلغاء الألم والقضاء على الأمراض، النظافة، طول العمر، رغد التكنولوجيا، سهولة الوصول إلى العلم والمعرفة، إمكانية التواصل مع الآخر والسفر…
فرغم تواتر الكتب التي تُبرهن عمليا بأن عبارةَ “الماضي أجمل!” مثيرةٌ للسخرية، مثل كتاب عضو الأكاديمية الفرنسية ميشيل سير (الذي يحمل ساخرا هذه العبارةَ نفسها كعنوان)، رغم كل ذلك، لا تبدو السعادة طافحةً على محيا جيل شباب اليوم.
السبب: ثمّة خوفٌ من الاتجاه الغامض لمستقبل العالَم الذي يوجِّه بوصلتَه ويرسم ملامحَه تحالفُ قوى المال والتكنولوجيا، ومصالحهما الخاصة.
وثمّة أيضا، وعلى نحو جليٍّ فاقع، احتضارٌ للحلم والأمل، وموتٌ للانزياح الطوباوي، في روح جيل اليوم، على عكس أجيال سلفِه.
يقود مجمل ذلك إلى قلق ميتافيزيقي من المستقبل، لم تعرفه الأجيال الماضية، كما يبدو.
إذ لا يكفي في رأيي أن تكون الوجبةُ التي تتناولُها عامرةً لذيذة، والنبيذُ الذي تشربه راقٍ جدا، إذا كان خاطرُك مكسورا، وقلقُك مسيطرا، ولا مزاج لك لتناول لقمة.
غير أن ما يهمني أكثر، في هذا المقال، هو الحديث عن العنف عربيا.
فقُبيل الربيع العربي، لم يزدد مستوى العنف عربيا، على نحو خاص. لكنه لم ينحسر أو يهبط إطلاقا، على غرار بقية العالم.
ولأن ثمّة ارتباطاً وثيقاً بين مستوى العنف في هذه الدولة أو تلك، والحقوق السياسية لمواطنيها؛ ولأن الحقوق السياسية للمواطن العربي لم تتحرّر من دائرة انتهاك أنظمة الاستبداد والقمع، ولم تتأثر بحركة الأفكار الدولية وتتفاعل مع اتجاهاتها الإنسانية؛ ظلّ مستوى العنف عربيا في نقطة داكنة ثابتة؛ في حين لم يتوقف عن الانحسار دوليا.
ثم ارتفعت درجات العنف بشكل ملحوظ، بعد الربيع العربي. ليس لِخطأٍ فيه، بطبيعة الحال. إذ انطلق ربيعا سلميا يتوق للحرية والكرامة، ولمجتمعات جديدة تلحق بركب العالم.
ولكن إلى تداخل موجات عنف القمع واستبداد الأنظمة السياسية التوريثية الديكتاتورية التي قاومت تيّار ثورات الربيع، مع عنف الحركات الإرهابية كداعش، التي تنامت على ضواحيه، وجرّت اتجاه الربيع إلى طريق مظلمٍ معاكس. ناهيك عن أنّها أمستْ هوَس العالم وبعبعه.
ما الذي قاد إلى هذا العنف الإرهابي الجديد؟
لا أتفق مع المفكرين الذين يفسرون سببه من وجهة نظر ثقافوية (وإن كان للتأخر الثقافي العربي في قرون “عصر الانحطاط”، سببا جليا، سأعود إليه بعد قليل، في تأخر العرب باللحاق ب “الثورة الإنسانية” والتموسق مع عصر الأنوار):
هذا العنف الإرهابي، بالنسبة لهؤلاء المفكرين، نابع من إرهاب النصوص الدينية في الإسلام!
الانكفاء على التفسير الثقافوي لِظاهرة الإرهاب يقود إلى مفهومِ “صراع الحضارات” الذي يثير سخرية معظم المفكرين. (ويتناسى ربما أن النصوص العنيفة في التوراة أكثر بكثير من القرآن).
يغمض أصحاب هذا التفسير أعينهم عن كون “كراهية” معظم العرب لأمريكا مثلا، ليس سببُه نظامَها الديمقراطي أو نمطَ حياتها (الذي يثير، في الجوهر، إعجاب الأغلبية الساحقة من العرب)، لكن دعمَها للأنظمة الديكتاتورية العربية، وانحيازها الأعمى لإسرائيل ولسياستها العنصرية في فلسطين.
ثمّ لم يفسر هؤلاء المفكرون بروز الحركات الإرهابية الغربية أو الشرق آسيوية، في سبعينات القرن الماضي، من وجهة نظر ثقافوية، ولكن من وجهة نظر الواقع السياسي الذي أنجبها.
وهكذا حال العرب بالطبع: تفجُّرُ الإرهاب وعنفه في حياتهم آتٍ من أسباب سياسية في الأساس.
يرى بعض المفكرين والباحثين في ظاهرة الإرهاب الداعشي الدوليّ أن سببها: “أسلمة الإرهاب”.
أي: لجوء بعض قوى الإرهاب، لا سيّما في الغرب، إلى استخدام بعض النصوص الإسلامية كوسيلةٍ تكتيكية لممارسة صراعها السياسي المعادي لأنظمتها، وإن لم تكن ثقافتها وأسلوب حياتها إسلاميٌّ في الجوهر.
وثمّة من يذهب مزيدا نحو العمق في البحث عن السبب، مثل فرانسوا بورجا، وهو يرى أن السبب يعود إلى مجمل الواقع الجيوسياسي المغلق الذي قاد إليه الاستعمار الغربي، وما تلاه من أنظمة ديكتاتورية عربية ورثت الحكم منه.
كما يعود أيضاً إلى السياسة غير العادلة للأنظمة الغربية، داخليا مع أقلياتها، وخارجيا مع دولها المستعمرَة السابقة.
غير أن الباحث في سبب تأخر العرب في اللحاق بعصر التنوير وثورته الإنسانية، واستمرارية قبوعهم في زمنٍ عتيقٍ سقفُ العنفِ فيه عالٍ، لا يمكنه إغفال دور الركود الثقافي العربي، إذا أراد النظر في جذور وسِفر تكوين هذا التأخر.
لأتوقفَ عند لحظة جوهرية جدا في نظري:
قبل اختراع مطبعة جوتنبرج في القرن 15، كانت الحضارة الغربية، والحضارة العربية في إطار الإمبراطورية العثمانية، في مستويين حضاريين متكافيين بشكل عام، كما يرى المتخصصون في تاريخ الحضارات. إن لم تكن الحضارة العربية تاريخيا أكثر إنسانية أحيانا، لا سيما في مجال قبول الآخر:
لم تمارس الطرد الجماعي للآخر، كما فعلت الحضارة الغربية مثلا مع معتنقي اليهودية والإسلام أحيانا، أو كما فعلت لاحقا الدولة اليهودية العنصرية في 1948 مع حوالي 900 ألف فلسطيني طُردوا من ديارهم.
لعب انتشارُ المطبعة في مدن الغرب دوراً مفصلياً في تنميتها الاقتصادية والثقافية، وفي تطوير حضارتها واكتشافاتها العلمية، وفي الخروج من سجن الخطاب الديني لعقلية المواطن الغربي، وفي طبع ونشر وتوزيع المعارف العلمية على العامة من الناس، والأعمال الأدبية ولا سيّما الرواية، وفي نشر وترجمة الإبداعات الإنسانية عموما، وفي ذوبانها جميعا في ثقافة كوسمبوليتية عقلانية قادت إلى مزيدٍ من الحس الإنساني التعاطفي النبيل، ومقاومة الرجعية والظلامية وهزيمتهما التاريخية.
يكفي رؤية الهوَس بالنشر الثقافي في القرن الثامن عشر، وثراء النقد والنقاش والجدل المحموم حول كل كتاب جديد، والعدد الخيالي للمراسلات الفكرية بين الكتاب والمفكرين والعلماء آنذاك.
تمخّض عن كل ذلك ما يسمّى بجدارة: قرن التنوير، بفكره الإنساني العظيم الذي قاد إلى رؤية الإنسان من بُعْدٍ كلّيّ Universel، وإلى فلسفة بيان “حقوق الإنسان” في صيغته التي تلت الثورة الفرنسية.
وُلِد، من صلب وترائب هذا الفكر، روحُ الإنسان الحديث الحر، وعقليته الرافضة للديكتاتوريات والاستبداد والعبودية والعنف والتعذيب والإعدام، قبل الوصول إلى عصر الديمقراطية والعلمانية، وبناء قاعدة شبكة علاقات دولية جديدة توحد الدول (كحال أوربا) وتوسِّع من علاقاتها العولمية المشتركة، لِتقضي بذلك على آخر أسباب الحروب والعنف.
كلّ ذلك قبل هذا القرن ال 21 الجديد الذي يبدو أنه سيكون قرن حرية المرأة ومساواتها بالرجل.
شرقيا وعربيا، رفضَ كهنة الإمبراطورية العثمانية وحكامها “بِدعة” المطبعة خلال قرون (لم تدخل عربيا إلا في القرن 18!)، وأبقوا حضارتنا في نقطة زمنية ثابتة يندمج فيها السياسي بالديني، لم تتناغم خلالها مع حركة الأفكار الدولية وتفاعلاتها، ولم تنفتح على ثقافات الأمم، ولم تترجم مسرحياتها وأدبها عموما، وفلسفة أنوارها…
لعلّ أبرز تعبيرٍ عن ذلك التأخر العربي، الثقافي والإنساني (الذي يضمّ ظاهرة عدم انحسار العنف العربي)، هو أن آخر دولتين في العالَم ألغتا العبودية هما: السعودية وموريتانيا، وذلك في النصف الثاني من القرن العشرين، لا غير!
هكذا، كان للتجمّد الثقافي العربي دوراً جذريا في تأخرنا عن ركب قطار الثورة الإنسانية والتنوير، وتقوقعنا الطويل في عقلية عصور العنف السحيقة.
ثم لعبت الظروف الجيوسياسية، ما بعد الاستعمارية، دورا كبيرا في تكريس واقعٍ سياسيٍّ عربي مسدود، قاد إلى مزيدٍ من العنف والإرهاب.