لغز الجهاديّ الغربي

حبيب سروري

 

لم تستوعب أوربا بعد تماماً كيف نمت في أحشائها الفاشية والنازية كتجسيدٍ لأبشع الفظاعات البشرية، لِتجد نفسها تواجه اليوم نموذجا جديدا أكثر تعقيدا: الجهاديّ الغربي الشاب، ابن الحضارة الغربية الذي ترعرع في المدرسة الأوربية الحديثة!

 

لغز حالته عصيٌّ غرائبي: إذا توجّه للحرب في داعش فهو في الجبهات الأمامية “الأخطر، الأقل خوفاً، يحارب من أجل الموت. يؤمن بما يفعله، ولا يخشى شيئاً”، كما يقول رئيس شرطة كركوك!

وإذا بقي في أوربا أو عاد لها فلِيَقتل بكل برودة، في عمليات انتحارية، أكبر عددٍ من الأبرياء الذين لا يعرفهم. يهيء نفسه للموت كعريسِ حفلة زواج، ويظنّ أنّه مع ذلك ثائرٌ يناضل من أجل العدالة وسعادة البشرية!

 

مع هؤلاء، تجد نفسك أمام حالات تتجاوز الخيال الروائي. تشعر منذ البدء كما لو أنهم جاءوا من قلعة “شيخ الجبل”، حسن الصباح: قلعة ألَمَوت التي ألهبت خيال الروائيين، وأذهلت المؤرخين منذ حوالي 10 قرون.

 

لذلك صار السؤال الذي يستقطب جميع الباحثين والمحلّلين اليوم: ما هي مواصفات هذا الجهاديّ الغربي؟ أو، باستعارة كمبيوترية، ما هي بياناته الشخصية؟ ما دوافعه، وما الظروف التي تؤدي إلى انتمائه؟ ماذا يدور في رأسه تحديداً؟ ماذا يقول علماء الاجتماع والتاريخ والنفس عن هذا اللغز الجديد؟…

 

لتلخيص الردّ على هذه الأسئلة، من وحي الدراسات الميدانية لجهاديي الغرب، يلزم أوّلاً استبعاد الردود الخاطئة أو الفضفاضة.

أوّلها يأتى ممن يعلّلون، لسببٍ أو لآخر، الانضمام لخلايا الجهاد الغربية بكونه من تأثير القراءة الحرفية لبعض آيات القرآن والأحاديث النبوية التي تدعو للجهاد.

قد يكون ذلك حقّاً في حالة الجهاديّ الشرقي، شريطة أن تؤكده الدراسات الميدانية لِمواصفاته وبياناته الشخصية.

لكن في حالة الجهاديين الغربيين، فالأمر مختلف: في فرنسا مثلاً، 80٪ منهم يأتون من عائلات غير متديّنة! لم تقدهم نحو الجهاد تربيةٌ دينيةٌ تقليدية، بل اكتشفوا الدين بشكلٍ متأخر.

 

التفسير الثاني: نحن هنا أمام شباب “عدميّ”. تفسير ضبابي فضفاض. لأن جهادييّ الغرب، كما كشفت الدراسات والإحصائيات، عكس ذلك، وأخطر بكثير: لهم مشروع يؤطّر حياتهم: تغيير وإنقاذ العالَم، كما يظنّون!

 

لنعد إذن إلى إحصائيات الدراسات الميدانية للإجابة على الأسئلة التي تحدد هويّة الجهادي، إنطلاقاً من دراسةٍ خصبة للأنثربولوجي سكوت أتران، المتخصِّص بالإرهاب، في مجلةٍ أمريكية، ترجمتها كاملةً صحيفة اللوموند الفرنسية.

رُبع جهاديي الغرب، كما تقول الإحصائيات، آتٍ من بشرٍ يبحث عن هدفٍ واتجاهٍ لحياته، يتعرّف على خلايا جهادية بواسطة الإنترنت أو الأقرباء، ونادراً جدّاً عبر المسجد أو عبر ناسٍ لا يعرفهم.

معظمهم في حدود الخمسة وعشرين من العمر، يمرّون بمرحلة انتقالية من حياتهم: طلاب في نهاية الدراسة، مهاجرون، شغيلة بين مهنتين، عزّاب لم يجدوا توأمهم الروحي والجسدي… أغلبهم ترك بيت العائلة بحثاً عن حياة مشتركة مع أصدقاء، أو رحلات تعطي لحياته معنىً وهدف.

 

كلّ من قاموا بعمليات باريس القديمة، ومدريد في 2004، ومترو لندن في 2005، ومعظم من قاموا بعمليات باريس في يناير ونوفمبر 2015 لهم هذه الخصوصيات.

يشعر بعضهم بأنه منبوذٌ في بلده وفي بلدِ آبائه، بلا أفق؛ فيما عددٌ مهمٌّ منهم ليسوا بالضرورة هامشيين: بعضهم مثلاً طلبة جامعيون تُصرِّف عائلاتهم على دراساتهم.

ما يجمع كلّ هؤلاء: الانضمام لمشروع يظنّون أنه بطولي، من أجل الكرامة والمجد، يرفع من قدرهم، ويثير إعجاب الآخرين، ويجعلهم رمزاً للتضحية والنضال من أجل عالَمٍ آخر!

 

نحن هنا أمام “مناضلين أمميين من طرازٍ جديد”، حسب تعبير البروفيسور جيل بيكوت، المتخصص بالمتطوعين العسكريين في دول الأبيض المتوسط، وإن كان الفرق جذريّاً: المناضلون الأمميون السابقون لم يبحثوا عن الشهادة، أو تدمير بلدانهم الأصلية، أو الإرهاب والقتل الجماعي الوحشي الأعمى.

 

تثير آلية حياة الجهاديين الغربيين اليوم جل اهتمام الدارسين، لا سيّما مراحل استقطابهم لخلايا الجهاد، وما يليها من ورقة طريق تقود إلى التدمير الكليّ.

في جهاز داعش ثمّة فريقان: الأول فريق الموجِّهين والمنظِّمين: مجموعة من العساكر السابقين والسياسيين المهنيين ينتقم بعضهم بطريقته مما حصل للعراق بسبب حرب بوش، تقود الجهاز، وتستخدم الفريق الثاني كأسهمِ نشّاب.

الثاني يضمّ هؤلاء الشباب الجهادِيين الذين ما إن يرتبطون بعلاقةٍ بِمستقطِبِهم عبر الإنترنت، أو بقريبٍ مباشر، حتّى يبدأون حياتهم “كالسائر في النوم”، حسب تعبير الفيلسوف نيكولا جريمالدي.

 

يبدأ انضواؤهم بضمانِ “ولائهم الروحي”؛ كلّ المحفزات مثل “ضرورة السفر لانقاذ أطفال سوريا الذين أهملهم العالَم” تُستخدم لإشعال أولى “شرارات روح البطولة والتضحية”.

 

وكما قال جورج أوريل، صاحب رواية “1984” الشهيرة، الذي درس كتاب “كفاحي” لهتلر أيضاً: “الإشتراكية والرأسمالية وعدت الناس بالزمن الجميل، وهتلر وعدهم بالكفاح والتضحية”. جرّ بذلك شعباً كاملا لمطبّاته؛ لأن “الإنسان لا يبحث عن الخبز والرفاهية فقط، لكن، بين حينٍ وآخر، عن الصراع والتضحية!”.

 

ثمّ تبدأ بعد ذلك عملية دمج الجهاديّ بمجموعةٍ صغيرة، في علاقة مقدّسة تلعب دوراً حاسماً في إشعال روح “شرف المجموعة وبطولاتها، والتضحية لأجلها”. يرافقه تأهيلٌ عسكري ودمجٌ أيديولوجي انطلاقاً من “دعوة” دينية مضلّلة. يُغسَل دماغه كليّاً بمبادئها التدميرية، وتؤجّجُ فيه روح الكراهية العنيفة لكل من لا يعتنقها.

 

يتأسس حينها ميثاقُ علاقة صميمية عمياء بمجموعته ومنظَّمته، أسماها الفيلسوف العربي ابن خلدون، الذي صار يُدرَّسُ اليوم في المدارس العسكريّة الغربية: “العصبيّة”.

لم يعد يمكن اليوم فهمُ غزوات داعش، وسهولة اجتياحها للموصل مثلاً، بدون نظرية ابن خلدون:

إعطني كميّةً معيّنة من العصبية، مضروبةً بدرجةٍ معيّنة من الانضمام العقائدي لدعوة، أعطيك غزوةً ناجحة!

حسب هذه المعادلة، يمكن لكمّية العصبية أن تُعوِّض نقص عدد المجاهدين. وهذا وحده ما يفسّر مثلاً سقوط مدن بأيدي داعش، تحرسها جيوشٌ حديثة من عشرات الآلاف، أمام عددٍ ضئيلٍ من المجاهدين، مما حدا بمفكِّرٍ لأن يستنتج:

“شيخوخة نظامٍ قمعيٍّ مفترس لا يتردّد في تعذيب وقتل سكّانه لضمان بقائه، بدون مرشّحٍ سياسيٍّ بديل، يضمن انتصار مجاميع صغيرة، مؤدلجة ب “دعوة” راديكالية وعصبيّة عالية، تمارس العنف على نحوٍ متطرّف”.

 

نماذج المجاهدين الغربيين التي تقدّمها المجلات بلا عد: ت. مثلاً، كما قدّمته أمّه وأخته: شابّ ذكيّ اندمج باليمين المتطرف، عنصري يكره العرب، ومعادٍ للأمريكان، ينتقل فجأة في بحثه عن اتجاهٍ لحياته للقتال في الخطوط الأمامية لداعش، ويبعث لأمّه هذه الرسالة: “ألا تشعرين بالخجل من أوربا القذرة؟ يدا الحكومة الفرنسية ملطّختان بالدماء!”

 

كذلك حال الناطقَين الرسمِييَن باسم داعش، اللذَين ألقيا بيان مجازر 13 نوفمبر، الأخوين كلان: فابيان وجون ميشيل، الذي صار اسماهما: عمر وعبد الواحد: كانا كاثوليكيين متدينين جداً، ومُغنِيي موسيقى “الراب”، قبل تحوّلهما إلى صفوف داعش…

 

إشكالية المجاهدين الغربيين تكشف أنه لا يمكن بناء أسوار صينية عازلة بين الغرب والشرق. حلّها الجذري في الغرب، بتغيير الشروط التي خلقتها والتي أجلاها كتاب آلان باديو: “ألمُنا آتٍ من بُعدٍ قصيّ”، حلٌّ لبعض مشاكل الشرق أيضاً.

وحلّ أهل الشرق لمشاكلهم، لا سيّما إسقاط طغاتهم وظلامييهم، حلٌّ لمشاكل الغرب في الوقت نفسه.

ثمّ ماذا يعني أصلاً شرقٌ وغرب، في كوكبٍ كرويّ الشكل؟