كيف نقاوم وباء التضليل الماحق؟
حبيب سروري
تناولنا، في مقالنا السابق، إحدى مصائب عصرنا التكنولوجي الجديد: “ما بعد الحقيقة”، وشكليها الرئيسين: “الأخبار الوهمية”، و”الحقيقة البديلة”.
الأمثلة المذكورة في المقال لعبت فعلا دورا هاما في تغيير نتائج الانتخابات الأمريكية و”البريكسيت” الإنجليزي.
لذلك، قد يبدو للبعض أننا أمام تلفيقات نادرة، وإن كانت مراوغة خطيرة بالتأكيد.
كلّا! أضحت صناعة “الأخبار الوهمية” مهنة يومية تُدرّ على من يجيدها مبالغ ضخمة في وقت سريع، أو تحقق مكاسب سياسية حاسمة، للدولة التي توجِّه صناعتها.
لعلنا نتذكر الشاب المقدوني “بوريس” (يرفض إعطاء اسمه كاملا للمقابلات الصحفية): كسب 16 ألف يورو من أخبار وهمية نشرها في معمعان الانتخابات الأمريكية الأخيرة.
وهناك أيضا، كمثال آخر، صحفي من جنوب أفريقيا يُقسِّم وقت عمله بين النشر الصحفي المحترم الذي يكسب به راتبه الشهري المتواضع، وبين نشر “الأخبار الوهمية” التي تدر عليه 5000 دولار شهريا!
دون الحديث عن نشر “الأخبار الوهمية” من بؤرة تديرها هذه الدولة أو تلك، كروسيا التي أتهمتها بريطانيا وأسبانيا رسميا مؤخرا في التدخل في مجرى انتخاباتهما الداخلية، والتأثير على نتائجها، عبر بث تسونامي أخبار وهمية جاءت من كواليس مرتبطة بالكرملين؛ بجانب اتهام روسيا (“الدولة المافوية الافتراضية”، كما تمّ نعتُها) بخلق اضطرابات اجتماعية في غرب أوربا أيضا.
لا يوجد يوم، في الحقيقة، لا تغزو فيه الشبكاتِ الاجتماعية، أو الصحفَ الورقية، أسرابٌ من هذه الأخبار الوهمية، بأشكالِ مختلفة:
بعضها يتمّ تأليفها بذكاء “شيطاني” من الألف إلى الياء، كذلك الخبر الذي فذلكهُ على تويتر شابٌّ روسي، باسم تنكرّي، ووضع فيه صورة أمرأة مسلمة محجبة تمرّ أمام ضحية حادثٍ إرهابي في لندن، وتنظر لجثته دون اكتراث!
وصل المنشور إلى مئات الملايين من القراء، وأثّر عليهم، قبل أن يرفقه الشاب الروسي بمنشور آخر يتحدث فيه عن “الغزو الإسلامي لبريطانيا”!
هناك أيضا تلك الأخبار والمنشورات التحريضية الكاذبة التي أرسلتها، في فترة مبرمجة، عشرات آلاف الحسابات الروسية على تويتر، في عزّ انتخابات البريكسيت، أو الانتخابات الكاتلونية الأخيرة، لخلق البلبلة ودفع الناس باتجاه اختيار الخروج من أوربا، والانفصال من أسبانيا.
ليس سهلا قنص الأخبار الوهمية: بعضها يتم تسريبه أحيانا بين ثنايا أخبار حقيقية، أو في أعطاف مقالاتِ سِبقٍ صحفي: “سكوب”.
كثير منها ليست سياسية بالضرورة. بعضها، مثلا، يُحوّل الحقيقة العلمية إلى خبر وهمي، أو يقدّم خبرا وهميا كأنه حقيقة علمية.
في كل الأحوال، تُصاغ جميعها بمهنية صحفية وفنية وتكنولوجية عالية، بمراجع كاذبة، بصور مختلَقة، وبأقوال وأسماء وهمية يطلَق عليها أحيانا: مستشار علمي لرئيس دولة، أو أستاذ جامعي، أو مدير مختبر…
ثمّة مثلا مقالٌ تزييفي انتشر عربيا على شكل واسع يعتبر وصول الإنسان إلى القمر كذبة علمية تنتمي لعصر الحرب الباردة!
وآخر يتحدث عن عملية جراحية سيتم فيها استبدال رأس إنسان مريض، برأس إنسان آخر غادر لتوه الحياة (سيظل رأسه لمدة ساعة مفصولا عن الجسد، حسب إضافة لا تقل إثارة)!
دون الحديث عن الأخبار عن كائنات فضائية تتسلل نحو كوكبنا رصدتها وكالات فضائية، أو عن غزو التماسيح التي حملتها العواصف والفيضانات البحرية الأخيرة…
مثل هذا النوع من الأخبار التي تفبرك الحقائق العلمية ينتشر عربيا ويُصدَّق على نحو واسع، لضعف الروح النقدية لدى القارئ العربي، وغياب العقلية العلمية، ولغيبوبة العقل، وثقافة التلقين، والتعوّد على الإيمان المطلق بدون الحاجة إلى براهين ملموسة وتمحيص ورفض.
بسبب الجذور الواهية لتعليمنا، وبسبب ثقافتنا العربية التي انهزم فيها منذ قرون مشروع “لا أمام سوى العقل”، وانتصر بدلا عنه، وحتى اليوم، مشروع الإمام الغزالي الذي حوَّل العقل العربي إلى مواطن من الدرجة الثانية، في مجتمعات مواطنُ درجتها الأولى، ومنبعُ كل حقائقها عن التاريخ والكون والحياة: النقل والوحي والغَيب والحقيقة الدينية.
هكذا، لِتعوُّدِه على الإيمان بكلِّ شيء، يتلقفُ القارئ العربي غالبا وبكل سهولة معظم أنواع الأكذوبات والخزعبلات والأخبار الوهمية.
يعشقها أحيانا، ويحتاجها كما يحتاج المدمن لمخدراته.
كنتُ مثلاً، قبيل أيام، أتابع بصمت تعليقات قراء على خبر العملية الجراحية لاستبدال رأسَي الشخصين المذكورين أعلاه، عندما صدِمتُ وأنا أقرأ تعليق أستاذ جامعي عربي يتساءل: “ماذا لو كان المريض شاعراً، والثاني لا؟ أسيظل شاعرا بعد العملية الجراحية؟”
ذلك يعني أنه صدّق الخبر المستحيل من ناحية، وأنه يجهل أن كل ملكات الإنسان الروحية، كل ذاكرته، لغته، كل وعيه ولا وعيه، مركزهم جميعا ماكينة الإنسان وهيئة أركانه: الدماغ وشبكة عصبوناته التي تصل لمائة مليار.
وما الجسد (بما فيه القلب الذي يمكن استبداله اليوم بقلب بلاستيكي صناعي كامل) إلا الإطار الخارجي لهذه الماكنة.
كيف نقاوم هذا الوباء الجديد؟
ثمّة أساليب مختلفة لمقاومة مدّ “ما بعد الحقيقة”، واجتياحه الفاحش لحياتنا اليوم.
أحدها اللجوء إلى مواقع “تحرّي الوقائع”: Fact checking، التي انتشرت في عدد من الصحف والمواقع الجادة، بعد الانتخابات الأمريكية، لمواجهة هذه الموجة المخيفة من الهجمات الفيروسية على دماغ الإنسان، عبر التلفيق والكذب.
ما زالت هذه الآلية في مرحلة البدء، وهي تفحص فقط عنوان الموقع الذي انطلق منه من الخبر الزائف، أو تحلِّل آليا، عبر الكمبيوتر، مدلول نص الخبر.
ولأن استيعاب مدلول النص، من قبل الكمبيوتر، ما زال جنينيا، والاحتيال عليه سهلا جدا، فالركون على هذه المواقع التمحيصية لا يكفي:
ليس ثمّة حاليا أفضل من الاعتماد على عقل القارئ، روحه النقدية، وشكّه الدائم، وتدقيقه في محتوى المراجع، وبحثه عن البرهان الدقيق: هم معا سلاح الدفاع الأمضى لمواجهة هذا الوباء الكاسح.
فغالبا ما يُصدِّق القارئ العربي الأخبار “العلمية” الوهمية دون تمحيص.
يكفيه عادة أن يقرأ أن كاتب الموضوع “العلمي” الوهمي دكتور، حتى وإن كان تخصصه علمٌ لا وجود له أحيانا، دون أن يجيد حتى التأكد من حقيقة شهادته عبر البحث عنها في قواعد بيانات الجامعات العلمية لأسماء حاملي الشهادات، أو معرفة نواياه الأيديولوجية أو التجارية بغض النظر عن شهادته… دون الحديث عن دراسة الخبر أولاً، وتمحيص حقيقته بالعقل والبحث عن الدلائل!
لنتذكر دوما: إذا كان الخبر علميا، فالحقيقة العلمية مرجعها المؤتمرات العلمية الدولية الكبرى، والمجلات المحكّمة الشهيرة، التي يديرها باحثو كبار مختبرات الأرض.
لا يُنشر المقال العلمي فيها دون باحثين دوليين مقرِّرين كبار، يدرسونه طويلا، ويقدِّمون عنه تقارير علمية.
لغياب الاعتماد على هذه المرجعية العلميّة، يقع القارئ العربي بسهولة في حبائل الأخبار “الوهمية” العلمية، كحالهِ غالبا أمام أطروحات منظمات “الخُلقيين” الأمريكية، المعادية لنظرية داروين، التي يدعمها الظلاميون واليمين المتطرف، وذات الرواج الكبير في بلداننا العربية والإسلامية.
كذلك حال التأكد من صحة الخبر السياسي المثير: يلزم، قبل الإيمان به وتصديقه، وقبل “مشاركته” في وسائل التواصل الاجتماعي بالطبع، تعلّم البحث عن مصادر تؤكِّدهُ في صحفٍ ومجلات دولية محترمة، وقراءة وتحليل المقالات والدراسات التي تبرهن صحته من مراجع متعددة مختلفة.
لنتذكّر أيضاً: لا تنتصب الحقيقة هكذا من مجرد قراءة خبرٍ ما، والانضواء له مثل “هنديٍّ أحمر” يهرع خلف قائده.
لا تتبلور الحقيقة إلا بعد سماع الرأي والرأي الآخر، ودراسة المرافعات الفكرية التي تساندهما، والاصغاء إلى الجدل الضروري بينهما.
ثمّ ليس هناك أحيانا أفضل من إغلاق الآذان بالشمع، كما فعل عولس، بطل الأوديسة، وهو يغلق آذان بحارة سفينته، خوفا من تنويمهم المغناطيسي من قبل “حوريات البحر” أثناء عودته نحو موطنه: أثيكا؛ فيما ربط نفسه بالحبال في صارية السفينة، لئلا ينساق هو نفسه وراء سحر الحوريات ذات الجمال الخارق، وليصغي لهن ـ ما أدهاه! ـ في الوقت نفسه.