فن الممكن، عشق الممكن!
حبيب سروري
لن يختلف معي أحد إن قلت إن مهرجان أفينيون بحنوب فرنسا، الذي يحتفل بعامه السبعين هذه السنة، أهم حدث ثقافي سنوي في العالم قاطبة.
ليس بسبب عرض أكثر من 1500 مسرحية فيه خلال ثلاث أسابيع فقط، ولا بسبب حضور أكبر المبدعين والمخرجين والممثلين والفرق الدولية المسرحية خلاله، ولكن أيضاً بسبب “معامل الفكر” المفتوحة طوال أسابيعه الثلاثة في شهر يوليو، للنقاش والمحاضرات والجدل حول أهم ما يمس الثقافة والفكر والإنسان والحياة.
تتحوّل حينها “مدينة البابوات”، أفينيون، إلى ساحة للتفكير والتأمل والنقد والأمل. إلى “أجورا” بحجم مدينة؛ مدينة طوباوية من لحم ودم!
المهرجان صورة مصغّرة حقيقة للعالم. ولأن لكل مهرجان سنوي محوره الخاص، المرتبط بقضايا الإنسان الكبرى المعاصرة، والتي تنقض عليه أهم الأعمال المسرحية والندوات في ذلك العام؛ فلقد اختار المهرجان له كمحور: المسرح والسياسة.
السبب: في عامنا الحالي، تقف السياسة مكتوفة الأيدي لا تفتح أفقا أو تحمل بصيص أمل، تضمحِّل الثورات وتتعثّر، يصمد الطغاة وتزداد شراستهم، يخيم الخوف واليأس في كل مكان، ينتشر العنف والهمجية، تتقوقع المجاميع البشرية في قطبي “نحن” و”هم”…
ليس هدف محور هذا العام الدعوة لإضراب بعض الممثلين عن الطعام تعاطفاً مع هذه القضية السياسية أو تلك، كما حدث في الماضي؛ وليس الهدف رثاء اليأس الكوني من القيادات السياسية وحالة الفوضى والانحطاط في العالم، أو الجدل النخبوي كذلك الذي حصل بين مؤسس المهرجان فيلار وسارتر حول “مسرح شعبي” أو “مسرح بروليتاري”؛ ولكن مواجهة السياسة والإمساك بكبدها بمخالب عدسات الإبداع والكشف، ومخاطبة الحاضر بانقضاض أعين الفن والثقافة عليه، والتعبير الفني عن الجدل والهموم الشعبية، ومقاومة كل ما يفرق بين الناس، وخلق أمل سياسي في حياة أخرى للبشرية.
أو بكلمتين: صناعة الممكن.
“فمستقبل السياسة سيكون ثقافيا، أو لن يكون”، كما تقول افتتاحية برنامج المهرجان لهذا العام الذي اختار عنوانا لمحوره هاتين الكلمتين: عشق الممكن.
فالمسرح بمستوى المهمة. لأنه نافذة الروح المركزية: أرض مشتركة للتأمل والتفكير والأمل والمقاومة، لحظة “صلاة جماعية” للناس يتبؤر فيها تركيزهم الكليّ حول نفس التساؤلات، ينظرون ويفكرون معا في الاتجاه نفسه.
المسرح علاقة مباشرة بين الناس، لا تتخللها خوارزميات تكنولوجية توجّه الرأي العام، كما هو الحال في ثقافة العصر الرقمي وشبكاته الاجتماعية…
من، في الحقيقة، أكثر من المسرح مقدرة على تحقيق مشروع “عشق الممكن” وصناعته في الوجدان والروح، قبل الواقع؟
بيد أن حضور الإنسان في المسرح ما زال نخبوياً بشكل عام، رغم محاولات نقله إلى الشارع والسجون، ورغم العديد من المسرحيات المتجوّلة التي تحاول رفع الوعي الفني والثقافي في الضواحي المملؤة بالمهاجرين، ورغم استيعاب المسؤلين الثقافيين وبعض البرامج الثقافية ضرورة أن يتغلغل المسرح أولا في المدرسة، وأن يدعى الأطفال إلى المسارح والأوبرات، لأن عشق المسرح يلزم إذكاؤه من فجر الطفولة.
“لماذا العرب الذين نتحدث عنهم ليسوا معنا في الندوة؟”، سأل أحد المجادلين في ندوة حول محور المهرجان، ملاحظاً، مثل غيره، غياب الطبقات الشعبية عن معامل الفكر وعن المسرح عموماً، وقلّة الممثلين العرب والسود، وضعف تنوع الحضور.
“نصوص جميلة تحت سماء مفتوحة، ولكن بين أناس لهم نفس الرؤية”، قال وهو يتحدث عن مسرحيات ويوميات المهرجان.
السؤال المطروح والملح إذن: كيف الخروج من مأزق سجن النخبة الثقافية التي ترتاد وحدها المسرح؟…
قطعاً، الإجابة على ذلك، وتحقيق مشروع أفينيون الثقافي الكبير، وصناعة الطوباويات عموماً، لا يتم بيوم وليلة، بل يحتاج لزمن بطيء وطويل: زمن الثقافة.
بانتظار ذلك، يكتفي الكثيرون بتهنئة الذات، على نحو لا يخلو من الحسرات: “لولا هذا المهرجان السنوي، لكانت مدينة أفينيون تابعة لليمين المتطرف!”…
حسناً، حسنا… لنتحدث قليلاً عن بعض أبرز الأعمال الكبرى والجديدة التي تقع في عمق محور مهرجان هذا العام.
لعل فنار الإنتاجات الجديدة التي خُص بها المهرجان هذا العام يكثِّف محور المهرجان أفضل تكثيف: “الملاعين”، من إخراج إيفوفان هوف، المدير الفني لفريق مسرحي هولندي يُعتبر أحد أكثر الفرق الدولية الهامة تجديدا وإبداعا اليوم؛ وبأداء تمثيل الفرقة الرسمية الدائمة للكوميديا الفرنسية، ذات المبنى الباريسي الشهير الذي يفاجئ الزائرَ في مدخله “مقعدُ موليير” الذي توفّى عليه أثناء عرض مسرحيته “المريض التخييلي”، قبل ثلاثة قرون ونصف!
هكذا، بعد غياب دام 23 سنة، عادت الكوميديا الفرنسية إلى المهرجان بهذا العمل الجدير بمقامها.
استلهم إيفوفان هوف مسرحيته الجديدة من نص سيناريو الفيلم الشهير لفيسكونتي: “الملاعين”، وليس من الفيلم ذاته.
تتمحور المسرحية حول علاقة الرأسمالية وقوى المال بالنازية، من خلال يوميات عائلة ملاك كبار مصانع المعادن، إيسينبيك، وهي تواكب صعود النازية وتتحالف معها للحفاظ على ممتلكاتها.
تبدأ المسرحية باغتيال العائلة لبطريركها، جوأكيم، في يوم عيد ميلاده. كان هذا الجد المؤسس يبغض هذا التحالف مع النازية الصاعدة، لكنه موافق عليه بسبب المصلحة.
تتوالى الدسائس والخيانات والمؤامرات الماكبيثية بين رؤوس العائلة من أجل الوصول إلى رئاسة مجلس إدارة ممتلكاتها، عبر التأقلم والتناغم مع السياق السياسي والجهاز الأمني للنازية.
كل إشكاليات بروز منابع الشر في الطبيعة الإنسانية، ونمو التطرف السياسي والتجذر الراديكالي الأيديولوجي، والتحالف الإنتهازي المصلحي مع قوة السلطة السياسة، والضعف الإنساني المسلوب الجبان الذي يطأطؤ الرأس ويغلق الأعين وهو يدرك ويرى علامات الخراب القادم… تتجلّى جميعها في هذه المسرحية التي لا يخرج مشاهدها معافً تماماً من فرط الاحتفال فيها بالشر المطلق.
الإخراج الفني للمسرحية يوظِّف أحدث التكنولوجيات بعبقريةٍ اشتهر بها ايفوفان هوف.
تنتصب داخل المسرحية كاميرات متحركة، تنقل إلى شاشة ضخمة في خلفية المسرح جوانب مجسمة فاضحة مما يدور داخل المسرحية، وفي أطرافها وفي كواليسها؛ كما تنقل إلى الشاشة أيضا صور مُشاهدي المسرحية في استلابهم وصمتهم هم أيضاً وهم يرون تعاقب الجرائم أمام أعينهم!
يندمج كل ذلك في الشاشة مع صور سينمائية قديمة، مع صور من الواقع المعاصر، ومن سياق المسرح…
يعيش المشاهد خلال سيل هذه التداخلات الحافلة، في عدة أبعاد في الوقت نفسه، وهو ينظر ماكروسكوبيا إلى المسرحية، وميكروسكوبيا إلى الشاشة الضخمة التي تغطي خلفيتها.
مثال آخر بين أمثلة عديدة: جوسانس، (أحد عشاق الروائي ميشيل هولبيك، الذي أخرج مؤخرا فيلما من روايته “الجسيمات الأولية”، مثّل فيه الروائي الشهير نفسه) يُمسرِح، في عرض مثير يدوم عشر ساعات، رواية روبيرتو بولانو: “2666” الضخمة التي تحكي، في أكثر من ألف صفحة، يوميات قارة أوربا العجوز وأمريكا الفاسدة خلال القرن العشرين.
عنوانها الذي يحمل “رقم الشيطان: 66” ينذر بألفية ثالثة تسقط فيها الحضارة الإنسانية بالضربة القاضية!
مثال آخر: “التائهون لا يضلون” مسرحية من إخراج الشابة مائل بويسي. تنطلق من فرضية صادمة: 80٪ من السكان يدلون في الانتخابات بورقة تصويت بيضاء. أي: يذهبون للانتخاب، لكن لا يختارون مرشحا واحداً.
هكذا، يعبِّر الشعب عن استحالة التعبير، وهو يختار عدم الاختيار! مأزق. رعب. الحكومة في قلق مريع: مؤامرة؟ ماذا يعني التصويت الأبيض؟ ما العمل؟…
التواجد العربي مرموق في مهرجان هذا العام. فإذا كان معيار الديكتاتورية السياسية في هذا البلد أو ذاك: حقوق المرأة فيه وحريتها بإدارة جسدها، فالعرض اللبناني “فاطمة”، لعلي شحرور، يقع أيضا في قلب محور المهرجان.
فبين شجرتي جميز (Platane) ضخمتين رائعتين في وسط دير سيلستين، ترقص شابتان لبنانيتان باللباس الأسود الذي تتحوّل هيئاته من لباس جنائزي يواكب رقص الموت وما يشبه الزار واللطم الشيعي على الجسد، إلى لبس غرامي أخّاذٍ مثير، إلى نقاب مغلق مخيف… لترسمان هكذا، بالرقص على مقتطفات من أغنيات أم كلثوم وخرير أمواج وموسيقى شعبية عربية، كل حالات وتحولات الجسد الأنثوي العربي، بين القهر والحرمان والأشواق المرتجفة على أصداء “وحنيني لك يضوي أضلعي، والثواني جمرات في دمي”.