عن المقاومة السرديّة لِلّيلِ التوليتاريّ الذي يجتاح الكوكب

حبيب سروري

(ندوة «الرواية والمقاومة»، معرض تونس للكتاب، 2025)

لأبدأَ برسم لوحةٍ سريعةٍ للوضع الدوليّ الراهن، عالميّاً وعربياً. لوحةٌ مظلمةٌ بالضرورة. ليس بغرض التنكيد ورفع منسوب الغمّ ومستوى السويداء، لكن بغية إذكاءِ إرادةِ ورغبةِ وعشقِ المقاومة.

١) تحكم عالمَنا اليوم الرأسماليةُ المالية التي تستخدم المالَ لِمزيدٍ من الأرباح (دون الحاجة غالبا للإنتاج الحقيقي، شأن الرأسمالية الصناعية). 

لا يتوقّف أبدا عن الصعود والتضاعف، رغم الأزمات المصرفية العالمية، ارتفاعُ أرباحِ أسواقها المالية وثرواتها الأسطورية عبر المضاربات والفقاعات والاستثمارات المالية، وعبر تنقّل رؤوس أموالها الافتراضية في كل العالم منذ العولمة المالية. يرافق ذلك تعاظمُ اللامساواة الفاقعة بين البشر، على إيقاع تضخّم الطمع والجشع الرأسمالي.

ها هي هذه الرأسمالية الماليّة تهيمن اليوم على التكنولوجيا الحديثة والأنظمة السياسية معا، وتحوِّل كلَّ شيءٍ في حياتنا إلى سلَعٍ ماليّة، من اللوحات الفنيّة إلى رياضة كرة القدم، مرورا بتمويل الأبحاث العلميّة في ضوءِ مردودها الماليّ السريع، على حساب مواضيع أبحاث «السماء الزرقاء» ذات الأهداف المعرفية الصرفة.

٢) مؤشرات الأزمة البيئية كارثيّةٌ وتداعياتُها ساحقة، بإمكانها أن تقود إلى انتحارٍ بشريٍّ جماعيٍّ وطوفانِ إبادةٍ للحياة على الأرض.

٣) نعيش اليوم فوضىً كونيّةً شاملة في عالَمٍ بلا بوصلة، ديمقراطياتهُ سطحيّة، غطرستهُ وحشية، يكتسحُ سلطاتِه السياسيةَ اليمينُ المتطرّفُ والفاشية. «حقوق الإنسان» تمارَسُ فيه بمعيارين: خانت مبادِئَها كثيرٌ من دول الغرب التي طالما أدّعتْ دفاعَها عنها.

٤) طمّ اليوم طوفانُ الاستعراض حياتَنا وحلَّ محلَها: أضحتْ كرتُنا الأرضية ساحةً سينمائيةً استعراضيةً تدور حولها، كالجراد، مليارات الصور و«السيلفي» والفيديوهات… يتنافس الجميع على ضخِّها بجنونٍ وبائيٍّ، لِتصلَ سريعا إلى شاشاتٍ يُحملقُ بها ليلَ نهار معظمُ سكّان الكوكب.

سيولُ المعلومات المزيّفة والتضليل الرقمي اليوميّ («الفيك نيوز» و«الحقيقة البديلة») تُلوِّثُ الأذهان وتسيطرُ على أرواح البشر (لا ننسى: من يُمرِّر أطروحاته، يسيطر على إرادة الناس وسلوكهم. و«الشعب المحروم من الحقيقة يسقط في براثن الشمولية»، كما قالت حنّة أردنت).

لِنتذكّرْ: ثمّة خوارزميات خاصّة، غير شفافة، لترتيب وصول المعلومات إلى القارئ، يمتلكها أرباب الشبكات الاجتماعية. سلاحها التمويه والتلفيق والتنويم المغناطيسي للقارئ.

غيرُ شفّافةٍ أيضا المُدَوّنات Corpus العملاقةُ لِـ «الذكاء الاصطناعي التوليديّ»، وماكناتُ «تعلّمِهِ العميقِ بشبكات العصبونات الاصطناعية» للردود على الأسئلة. لا تخلو هذه الردود من ضمانِ إعادة صناعة الثقافات السائدة وتكريسِ تخلّفِها أحيانا…

بكلمتين: أضحى البشرُ اليومَ مُبرمَجين، مُسرْنَمين، ضحايا ما أسماه بازوليني: «الإبادة الأنثروبولوجية» لليبرالية الاقتصادية في عالَمٍ استعراضيٍّ فتّاكٍ متغطرس، يقودُه تحالفُ البنوك والتكنولوجيا، رمزاه الوحشيّان: ترامب وأيلون ماسك.

أما نحن العرب، المكسورون الضائعون الهاربون إلى الماضي، فوضعُنا تراجيديٌّ ميؤوسٌ منه. نعيش شللاً جذريّاً كشعوبٍ مقهورة، أسيرةٍ للديكتاتوريات والإسلام السياسي، فاتها قطار الحضارة. مهيّئةٍ لِتظلَّ تبعيّةً إلى الأبد للعالَم المتطوِّر.

انظمتُنا الديكتاتورية العربية لا تغذّينا بالخبز، لكن بالقمع والهزائم والنكبات.

«الجماهيرُ الشعبيّةُ» ذليلةٌ خامدةٌ هامدة، تحتضن الهزائمَ باعتبارِها قضاءً وقدَر. شعوبُنا العربية لا تقرأ، إن لم تكن أميّةً في الأساس.

الإسلام السياسي في أوطاننا العربية خرّب حياتنا بمغامراته وفشله وإرهابه.

تُباد غزّةُ أمامنا تحت سماءٍ مفتوحة، وشعبُها معرّضٌ للتهجير القسريّ، كما كان حالُ مهزوميّ الحروب البائدة.

أيّ كارثةٍ أكبر من هذه، منذ فجر الألفية الثالثة؟!

«ثمّة شيءٌ نتنٌ في بلدان العرب»، على غرار ما قاله عن مملكة الدنمارك هاملت، رافع شعار المقاومين الوجوديّ: «أن تكون أو لا تكون!».

واجهَ به ما أسماه: «خرائب القدَر وبحر الآلام»، هو الذي تساءل: «هل تعني الحياة أن تأكلَ وتنامَ فقط؟ أن تتخثّر؟»

الردّ الضمنيّ لسؤاله: «لا، ليس هناك من حلٍّ غير المقاومة والأمل!».

«للأملِ ابنتان جميلتان: الغضب والشجاعة»؛ كما يقول القديس الجزائري أوغسطينوس. «الغضبُ تجاه ما نعيشه، والشجاعةُ لِتغيير ذلك»؛ كما يضيف.

كيف نقاوم اليوم إذن؟

لِنبدأ بالمقاومة الذاتية، قبل الحديث عن المقاومة بالأدب لتغيير الواقع.

المقاومة الذاتية في عصر «المعلومات المزيّفة» المهيمنة تقتضي التسلّحَ الذاتي بما يمنع السقوط في فخاخها: امتلاك الروح النقدية وإرادة البحث عن البرهان. «فمن يجعلك تصدِّقُ المحال، يستطيع جعلكَ ترتكب البشاعات»، كما قال فولتير.

كمثال: ليكن في بالنا، عندما تصلنا في الشبكات الاجتماعية سيول الصور الإعلامية التي ترافقها أسطرُ تحمل خبراً أو تعليقاً، ليكن في بالنا أنّ أغلبيتها الساحقة معلومات تلويثية، يمكن فبركتها ببرمجيات الكمبيوتر بسهولة، ممن يريد. تصنعُها غالباً دوائر «اقتصاد الاستحواذ» لترسيخ مسلّماتٍ خاطئة، لتأجيجِ الكراهية لأعدائها، لإشعالِ الخوف الذي يمنع من التمرّد والمقاومة، ولِتخديرِ مشاعرنا وأهوائنا، كي نظلّ متابعين مرتبطين بها…

لنعتبرها كاذبةً مسبقاً، قبل التحرّي والتقييم والبرهنة. أما مشاركتُها في الشبكات الاجتماعية، كما يفعل الكثيرون، فهو اعتداءٌ على سلامةِ بصرِ «الأصدقاء» الرقميّين وأدمغتهم، وممارسةٌ للعبودية الطوعيّة لوسائل الإعلام السامّة.

ليكنْ شِعارُنا: «فكِّرْ لوحدك! لا تقعْ في فخِّ معلومةٍ لا تعرفُ مصدرَها وصحّتَها. أبحثْ عن الخبر الصحيح في مقالات مفنّدةٍ جادّةٍ مرْفقةٍ بالمصادر…»

المقاومةُ عبر الثقافةِ، والأدبِ خاصّة، أمضى سلاحٍ نمتلكه، بفضل ارتباطِهِ الكليّ الحميم باللغةِ (أي بمادّة التفكير وإطاره)، وتفاعلاته المؤثرة على تطوّراتِ وجديدِ الواقع. لعلّهُ بامتياز أفضلُ الأدوات لإذكاءِ المشاعر، لرفض الاستسلام، ولِبثِّ روح الحريّة والإنسانيّة والإبداع، ولِرسم معالمِ عالَمٍ عادلٍ أفضل: عالَم الجَمال والحبّ والعدالة.

إذ ليس هناك أجدى من تشرُّبِ الناس للأفكار، بفضل إشعاعِ المثقَّفين العضويين، كما قال جرامشي (الذي يستخدم منهجَه هذا قادةُ اليمين أيضا!)، وذلك عبر كلِّ وسائل الإعلام، منابر الأديان، الجمعيات والشبكات الثقافية، الإنترنت والشبكات الاجتماعية…

الحديث عن دور المدارس في تحبيب قراءة الرواية وعشق الأدب عموما يتجاوز حيز هذا المقال. ليس هنا محلّ الخوضِ في تجارب المدارس الفرنسية مثلا في تدريس بعض روايات التنوير والمقاومة لفولتير وزولا وهوجو، أو مشاهدةِ مسرحيات تضئُ فكر الطالب كَ «حياة غاليلو» لبريخت… ولا على ضرورة أن تكون ضمن مناهجِها سيراتُ حيواتِ ودروسِ كفاح غاندي ونيلسون مانديلا؛ تفاصيلُ رحلة داروين في سفينة بيجل؛ تراثُ «الأنوار» الكونيّ… وغير ذلك كثير.

ليس أمامنا، كشعوبٍ عربيّةٍ مقهورة، (بجانب الاتكاء أوّلا على العِلم لِتفسير الكونِ والحياة، وعلى العلمانية كنظامٍ سياسيّ يضمن لنا حياةً مدنيّةً حديثة)، ليس أمامنا غير إبداعِ أدبٍ مقاوِم، ماكينتهُ التخييلُ الأدبيّ تحت سماءٍ مفتوحة.

أدبٌ يرتفع إلى مستوى تعقيدات العالَم المعاصر وتغيّراته المفاجئة اللامتوقّعة، لا يتوقّفُ فقط عند هموم الــ «هنا، الآن» الضرورية لمقاومة الظلم والاستغلال والحروب والسجون والتعذيب… بل يتجاوز المضيقَ الذاتيّ المحليّ والدوائرَ المناطقيّة، لِيتفاعلَ مع الآخر ويحتضنَ العالم.

أدبٌ يقاوم نسيان التاريخ ويهتمّ بإعادة كتابة ماضينا (المتمرِّغ بالأكاذيب والتلفيقات التي كتبها المنتصرون، وأخفى فيها المهزومون، أي نحنُ، أسبابَ عجزِهم، بل احتفلوا بعبوديتهم أيضا!)؛ إعادةِ كتابتهِ ونقدهِ وتجاوز مسلّماتهِ الخاطئة البائدة.

أدبٌ ينظر نحو المستقبل دوما، يحاول استشرافَه ورسمَه وتجاوزَ مغبّاته بعينٍ فاحصة، لأنّ بوصلةَ المستقبلَ مفتاحُ توجيهِ دفّةِ الحاضر.

كم تنقصُ أدبَنا العربي اليوم رواياتُ سرديّات المستقبل، كما لو كانت تُعتبرُ ضربا من قراءة الفنجان، أو أنّ «المستقبل بيد الله، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال»! لعلّنا نحتاجُها أكثر من أيِّ أدبٍ عالميٍّ آخر لرسم سيناريوهاتٍ تنويريّةٍ تحذيريّةٍ كاشفةٍ لمستقبلِنا، والتنقّلِ بين «عُقدِ» مآلاته وأحداثه القادمة، ومقاومة الآفاق المظلمة التي تنتظرنا إن لم نتجاوز عثرات واقعنا الراهنِ المؤلِم.

نريد من هذا الأدب أن يكون منارَ الدماغ/الروح لكلٍّ منا؛ أن يفجِّر فينا الأسئلة التي تحثّنا على البحث والاكتشاف، على نقد واقعنا وتحريره من ثقافة الديكتاتورية والإسلام السياسي، وأن يضيءَ لنا الهاوية التي نهرول فيها بسرعة السقوط الحرّ…

نريدهُ أن يكون «أيديولوجية» العِلم (بالمعنى الأصيل لكلمة أيديولوجية: أي كمُدخِلٍ لمفاهيم العِلم وأفكارِهِ في اللغة، لغتِنا العربية، مثلما كان الأدبُ عموما في القرون العتيقة أيديولوجية الدين).

[للتذكير: عندما دخلت كلمة «أيديولوجية» إلى اللغة، في القرن ١٨، كانت، حسب اشتقاقَيها من كلمتين إغريقيتين، تعني حرفيا: أفكار الخطاب. والأيديولوجية: علم تشرّب اللغة بالأفكار وتشكّلها في الروح؛ قبل أن يسودَ اليومُ معنىً سياسيٌّ آخرُ لهذه الكلمة.]

نريده أن يحتضنَ ثقافةَ العِلم الحديث وهي تشرحُ لنا أصلَ الإنسان والكون؛ وأن يغرسَ في واقعنا العربيّ روحَ الحفاظ على البيئة من الاعتداء الإنسانيّ عليها؛ ويدعمَ ثقافةَ الذكاء الاصطناعي المحكومِ اليوم بالتطوّر السريع الدائم، كرفيقٍ رئيسٍ للذكاء الإنساني يلتحمُ معه في بيئةٍ إنسانيةٍ – اصطناعيةٍ واحدة.

نريدهُ، بكلمتين، أن يكون جوادَنا نحو ثقافة الحريّة والانفتاح الفعّال الخلّاق على عالمنا المعاصر؛ أن ينتزعَ فضاءاتٍ جديدةً للرواية العربية الحرّة؛ أن يشدّ انتباهَ أوسع عددٍ من قرّاء العربية وشغفَهم، ضمن منظومةٍ بيئيّةٍ: كتّاب – نقّادٌ – قرّاء واسعةٍ فاعلة؛ وأن يُمارس تجريب كلِّ أنماطِ الرواية المعاصرة من تخييلٍ علميّ، روايات تأمليّةٍ أو فلسفيّةٍ أو بوليسيةٍ أو بسيكولوجية، طوباويةٍ أو ديستوبيّة، Uchronie أوNonchrnisme …

فوحدُهُ وهجُ الوعي والإبداع والجمال الذي يشعّ من فنٍّ وأدبٍ متحرِّرَين من كلِّ القيود، من يستطيعُ هزيمةَ الليل التوليتاريّ البهيم الذي يجتاح الكوكب.