عن الذكاء الاصطناعي وتوظيفه في المجال الإبداعي

حبيب سروري

(ندوة «الذكاء الاصطناعيّ والإبداع الأدبيّ»، معرض تونس للكتاب، 2025)

في صخب الحديث الإعلاميّ في عالمنا العربي عن الذكاء الاصطناعي، يلزمنا أوّلا استيعاب منطلق هذا العلم واتجاهاته وآليات عمله، بدلا من التخوّف منه أو إنكاره، أو الإصغاء لضوضاء من لا يعرف عنه شيئاً ولا يتوقّف عن إعطاء الأحكام عليه والتنبؤات القاطعة.

باختصارٍ شديد: وُلِد هذا العلم الجديد في 1956 بهدف محاكاةِ الكمبيوترِ للذكاء البشري وتجاوزِه قبل نهاية القرن العشرين، انطلاقا من أفكار مخترع الكمبيوتر ومؤسس علم الذكاء الاصطناعي معا: آلان تورنج.

مرّ الذكاء الاصطناعيّ بأكثر من شتاءٍ وربيع، قبل أن يقتحم حياتَنا فعلا بدءاً من عام 2012، إثر طفرةٍ في أبحاثهِ قادتْ إلى تقنيةٍ جوهريّة تُسمّى: «التعلّم العميق بشبكات العصبونات الاصطناعية».

تُحاكي هذه التقنية عملَ عصبونات المجرّةِ التي تنبع منها كلّ نشاطات الإنسان الروحية (حوالي 100 مليار عصبون، يتّصل كلّ واحدٍ منها بحوالي 1000 عصبون آخر): دماغ الإنسان. فالإنسان، كما يعرف الجميع، جسدٌ لا غير، روحهُ دماغه.

اكتسحَتْ هذه التقنية مسابقات التعرّف على الصور، بين مختبرات الأبحاث، في أحد المؤتمرات العلمية، في عام 2012، اكتساحاً جعلها سريعا بؤرةَ اهتمامات الباحثين. توالتْ متّكئةً عليها التطبيقات العلميّة الفذّة: أضحتْ تُشخِّصُ الأمراضَ انطلاقا من كشّافات الليزر أفضل من أي فريق كاملٍ من الأطباء، تقودُ سياراتٍ بدون سائق، تُترجمُ آليّاً من ألف لغة إلى ألف لغة…

يجدر الإشارة إلى أن اختراع هذه التقنية سبق عام 2012 ببضعة عقود، إلا أن جبروت الكمبيوترات، سرعةً وذاكرةً، لم يكن كافيا حينذاك لاستخدام التقنيةِ عمليّا.

ثمّ أطلّ في 2016 منعطفٌ آخر، شديد الرمزية، يستحقّ كل التأمّل: انتصار الذكاء الاصطناعي AlphaGOعلى بطل العالم جي سيدول في لعبة ألغو: أصعب الألعاب العقلية التي لم تكن هزيمةُ الإنسان متوقّعةً فيها قبل عقدٍ من الزمنِ على الأقل (لا علاقة لها بهزيمة الكمبيوتر لبطل العالم كازباروف في الشطرنج في 1997، التي لم ترتبط بالذكاء الاصطناعيّ والتعلّم الذاتي، بل بازدياد جبروت ذاكرة وسرعة الكمبيوترات فقط).

لعبَ AlphaGO ضدّ نفسهِ ملايين المرّات، واكتسب استراتيجيات لم تخطر ببال لاعبٍ بشريّ. ثمّة ذكاءٌ «آتٍ من خارج الكون»، عندما لعب AlphaGO النقلة 37، في مباراته الثانية مع جي سيدول!

ثمّ برز المنعطفُ الثالث الذي استقطب اهتمامَ الجميع، منذ نوفمبر 2022: «الذكاء الاصطناعي التوليديّ»، على غرار تشات جي بي تي ChatGPT، الذي يُجيب على كل أسئلتنا، ويخترع لنا الصور واللوحات الفنية وقصائد الشعر أيضا، ويتناقش معنا حول «المطر والطقس الجميل»، حسب التعبير الفرنسيّ!

ثمّة للتأمّلِ ملاحظاتٌ أربع، حول محاكاةِ الدماغ البشري: مربط فرسِ الذكاء الاصطناعي.

الأولى: المقدرةُ على التعلّم والمحاكاة هي عصب حرب الذكاء. منها ينطلق الذكاء الإنسانيّ دوما، عندما يفحص المعارفَ ويضمّها ويُجرِّب تطبيقاتها ويستخلص دروسها لتطويرها أو لاكتشاف معارف أخرى…

مثلهُ يفعلُ الذكاء الاصطناعي أيضا. ثمّ إن محاكاةَ الذكاءِ الاصطناعي للإنسان ليست تقليدا أعمى: عندما تطلُبُ مثلا من تشات جي بي تي أن يرسم لك جبلا – طاؤوسا، فإنه يبدع في ثوانٍ لوحةً مبتكرةً جديدة، انطلاقا من استيعابه الدقيق لكلمتي: جبل وطاؤوس.

إذ لكلِّ كلمة في القاموس، مثل «جبل» وغيرها، متّجَهٌ رياضيّ vecteur، يضمّ عددا هائلا من المعلومات حول الكلمة في كلِّ سياقاتها وعلاقاتها، ويسمح بإجراء عملياتٍ رياضيّةٍ على الكلمات، على غرار:

«ملك» – «ذكر» + «أنثى» = «ملكة». أي أن فضاء المعنى في اللغة يتحوّل إلى فضاء هندسيٍّ بآلاف الأبعاد على الكمبيوتر، تتمّ فيه عملياتٌ رياضيّةٌ ذكيّةٌ خاصّة.

الثانية: يتعلّمُ الذكاء الاصطناعي لِوحدهِ يوميا، ويُطوِّرُ مقدراته لوحدِه دون توقّف، مع استمرار تعلّمه من كلِّ جديدٍ يصله عبر الإنترنت (انظر كمثل رمزيٍّ بسيط تطوّرات ترجمةِ جملة «قال جوزي» في مقالي عن العربية في عصر الذكاء الاصطناعيّ). وهذا الجديدُ بحرٌ لا أطراف له ولا قاع، اسمه: البيانات العملاقة Big Data.

السؤال الكبير هنا: إلى أي واقعٍ سيقود هذا التعلّم اليوميّ الكمّي الذي لا يتوقّف، ذي النتائج الكيفية التي لا يمكننا تصوّرها أحيانا؟

ألا يبدو أن لا نهاية لهذا التطوّر ولا حدود لهُ غير ما تفرضه حدود الفيزياء والميكانيكا الكونتية؟

الثالثة: لا تتوقّفُ الأبحاث في مختبرات علوم الذكاء الاصطناعي عن فتح آفاقٍ جديدة، قريبة أو بعيدة المدى، لتمكينِ الذكاء الاصطناعي من تغيير حياتنا، واختراع آلياتٍ جديدة لِتأهيلهِ اقتحامَ مجالات جوهريّة واعدة كانت ضمن اقطاعيّة التخييل العلميّ فقط: اكتشاف النظريات الرياضية وتصحيح أو ابتكار براهينها آليّاً، دراسة لغات التفكير وآلياته، محاكاة المشاعر الإنسانية، التخييل الاصطناعي…

الرابعة: يتفوقُ الكمبيوترُ على الإنسان اليوم في مجالات عدّة، ويتفوّقُ الإنسان على الكمبيوتر في مجالات أخرى ستظلُّ صعبةَ المنال على الكمبيوتر إلى حين.

مجالات تفوّقِ الكمبيوتر مرتبطةٌ بتلك التي لها أهدافٌ واضحةٌ محدّدة، والتي تستطيع تقنيةُ التعلّم العميق التدرّبَ عليها عددا هائلا من المرّات.

فيما المجالات الأخرى ذات الصلة ببعض الغرائز والمشاعر الإنسانية كالإبداع الفنيّ والأدبيّ، أو بالمقدرات الفيزيائية المرنة للجسد الإنساني، أو تلك التي تفتح أبواباً ومآلات غير متوقّعة، ويجتاحها اللايقين، فما يزال الطريق طويلاً أحيانا لتعلّمِ الذكاءِ الاصطناعيِّ اقتحامَها والتفوّقَ فيها.

مع ذلك، ثمّة فتوحاتٌ ذات آفاقٍ مستقبليّةٍ قريبة مذهلة قام بها الذكاء الاصطناعي في مجال الإبداع الفنيّ والأدبيّ الاصطناعيّ، تضمن له من الآن أبواب الريادة.

لعلّ أوّلها إبداع الصورِ الاصطناعية انطلاقا من نصوصٍ وإرشاداتٍ وتعليماتٍ تُعطى له. صورٌ مذهلةٌ غالبا، في منتهى الجمال أحيانا، في طريقها اليوم لتغيير معايير الإنسان في هذا المجال، وتقليده لمعايير الذكاء الاصطناعي. ثمّة من صار يلجأ إليه عند التقديم الرسمي لصورتِهِ الشخصية في سيرته الذاتية، أو عند إخراج الصورِ المهنيّة التي يلتقطها عموما.

صناعة النصوص هي أيضا مجالٌ جديدٌ باهر يبدعُ فيه الذكاء الاصطناعيّ أيّما إبداع، مستقبلُهُ واعِدٌ متعدِّدٌ غزير. يقتضي منّا، مثلهُ مثلُ هندسةِ الصور الاصطناعية، صياغةَ طلباتنا عبر جملٍ توجيهيّةٍ وتعاليم دقيقةٍ متتالية، تساعدُ الذكاءَ الاصطناعيّ على ابتكار ما نصبو له من نصوصٍ بأفضل ما يمكن.

كنت أقرأ قبل أيّام افتتاحيةً دقيقةً وجميلةَ الصياغة، أدهشتني فعلا، لِعددٍ خاص من مجلة ثقافية فرنسية ثريّة، لاكتشفَ في الصفحة التي تلت الافتتاحية أنها كُتِبتْ بقلم الذكاء الاصطناعي، بأقلِّ من دقيقة، بعد أن أعطيتْ له نصوص مقالات العدد كي يعمل لها تقديما يُبلوِرُ أفكارَها بتبسيطٍ وتسلسل!

مثالٌ آخر من تجربتي الشخصية: أردتُ كتابةَ ملحق تبسيطيٍّ لِكتابٍ عربيّ، لغير المتخصصين، عن تقنية التعلّم العميق بشبكات العصبونات الاصطناعية، مع رسوماتٍ توضيحيّةٍ وأمثلة.

طلبتُ ذلك بالفرنسية أولا، عبر مراحل ثلاث، وأنا انتظر فنجان قهوة أمام محطة قطارات سان لازار: ١) كتابةُ نصٍّ عن عصبونات الدماغ وطريقة عملها، مع رسمٍ توضيحيٍّ لها، ٢) إعطاء تعريفٍ لِشبكة العصبونات الاصطناعية والتعلّم العميق بها، مع رسومات توضيحية، ٣) تقديم مثالٍ تبسيطيٍّ تفصيليّ على طريقة تعرّف هذه الشبكات على حرف E، مع رسمٍ توضيحيٍّ لشبكةِ عصبونات كاملةٍ حقيقية، بمختلف طبقاتها العميقة ومراحلِ تعرّفِها.

بعد أن ردّ تشات جي بي تي كما يلزم، طلبتُ منه دمجَ كلِّ ذلك وترجمتَهُ إلى العربية.

اكتمل إعداد الملحق بدقائق، قبل أن يصلني فنجان القهوة من نادل المقهى.

غير أن أرهب مثالٍ للإبداع الاصطناعيّ، في تقديري، هو إعداد كتاب «Rimbaud est vivant»، لِـ Luc Loiseaux، عن دار غاليمار، كونه نموذجاً من رعيلٍ جديدٍ من الكتب المستقبليّة التي يتعانق فيها النص بالصورة بالصوت والفيديو.

انطلق المؤلفُ من صورٍ تُعدّ بأصابع اليد لآرثور رامبو في طفولته، غير واضحةٍ جدّاً كونها ابنة بدايات عصر التصوير، ومن صورتين باهتتين لهُ في عدَن. طلب من الذكاء الاصطناعي ابتكارَ صورةٍ للشاعر انطلاقاً منها، وهو في سنوات إبداعِهِ الأدبيّ، مُراهقاً بين الخامسة عشر والعشرين من العمر.

النتيجة: صورةٌ باهرةٌ شاركها الملايين على الشبكات الاجتماعية، حرّضتِ الكاتبَ على تطوير تجربتِه، وتأليف كتابٍ من 270 صفحة فخمةٍ كبيرة، عن حياة رامبو خلال سنوات إبداعه الأدبي فقط، يتضمّن قصصَها ومغامراتها منعطفاً منعطفا. يسردُ فيه كلّ تنقلّاتِ الشاعرِ وسفراته وانزياحاته وعلاقتهِ بالوسط الأدبي، لا سيّما بالشاعر فرلين…

أثرى المؤلفُ كلَّ صفحةٍ في الكتاب بصورةٍ أبتكرَها الذكاءُ الاصطناعي، تعكسُ أحداثَ نصِّ الصفحة، تدور في نفس مناخاتِ بيوت وفنادق وشوارع وحانات ومحطات قطارات ذلك الزمن، على نحوٍ فنيٍّ عبقريٍّ جديدٍ، بدقّة وجمالٍ لا يخطران ببال!

المذهلُ أيضا أن نصَّ الكتاب وشفافيةَ تسلسلِ أحداثِه وطريقةَ سردِها، وروعةَ الاقتباسات من رسائل رامبو وقصائده، المواكبةِ لكلِّ مرحلة، يبدو نقيّاً آخّاذاً، كما لو كان من صياغة الذكاء الاصطناعي أيضا!

النتيجة: كتابٌ آسِرٌ من طرازٍ جديد، التهمتهُ التهاماً. ستجتاحُ المستقبلَ القريب حتماً مثلُ هذه الكتب متعدِدة الوسائط، المرتكزة أساسا على الذكاء الاصطناعيّ، وستغيّر من علاقات الإنسان بالقراءة والكتابة والإبداع.

قد يقول أحدنا الآن: «ولكن الذكاء الاصطناعي لم يكتب بعدُ روايةً مذهلة!».

فعلا، لم يكتسب بعدُ كلَّ مهارات هذه المهنة المعقّدة، ويتدرّبَ عليها، كما يكفي. مثلُها مثلُ اختراعِ النظريات الرياضية وبرهنتِها آليّا: ما زال الذكاء الاصطناعي يحبو في أشواطها الأولى.

لا ننسى: لم يتجاوز الذكاء الاصطناعي الذي يُحاكي الدماغ بعدُ الثالثة عشرة من العمر. وبعض المجالات الإبداعيّة التجريبية المرتبطةِ بالمشاعر والغرائز، ذات «العُقَدِ» المفتوحةِ على شجرةِ أحداثٍ وعُقدٍ مجهولة، أصعب من مجالاتٍ أخرى ذات أهدافٍ محدّدة، تدرّبَ عليها الذكاء الاصطناعي ملايين المرّات كلعبة ألغو، كما قلنا أعلاه.

غير أن تقنية التعلّم العميق والمحاكاة الذكيّة عبر شبكة العصبونات الاصطناعية أشبه بـ «صندوق باندورا»، الذي ستصعب السيطرة عليه أو تحجيم إمكانيّاته.

لا يعني ذلك أن كتابةَ الروايات من قبل الإنسان ستنقرضُ يوما، بعد تطوّرِ الإبداع الاصطناعي في مجال كتابتها. بالعكس!

لم تنقرض ممارسة البشر لِلعب الشطرنج أو ألغو بعد انتصارات الذكاء الاصطناعي على الإنسان. لذلك سوف يحاول الروائيون مستقبلا دراسةَ الاستراتيجيات الجديدة التي سيبدعها الكمبيوتر في كتابة الروايات، واستلهامَها لتطوير ملكاتِهم ومعاييرهم، لا سيّما وأن الإنسان، هو نفسَه، مخترعُ الذكاء الاصطناعي ومُلهِمُه.

في تصورّي: سيكون هناك أدبان مستقبلا: أدبٌ اصطناعيٌّ وأدبٌ إنسانيّ، في تفاعلٍ ديالكتيكيٍّ مُلهِم، ضمن منظومةٍ بيئيّةٍ إنسانيةٍ – اصطناعية متناغمةٍ متكاملةٍ واحدة.