شللٌ نصفيٌّ مباركٌ سعيد
حبيب سروري
كان العمل الدؤوب والجرأة ديدنَ حياتي. وشعاري عبارةُ بوذا التي قالها وهو على فراش الموت: “لِتكنْ ذواتُكم مصابيحكم. لا تعتمدوا إلا على أنوارها”.
وأختُها، إنجيلُ العصاميين، التي قرأتُها في مكانٍ ما، لم أعد أتذكّره: “لا تضيء طريقَكَ إلا نارُ الجرأة التي تشتعلُ بين جوانحك”.
وابنةُ عمّها النيتشاوية بامتياز: “هل أنت طاقةٌ جديدة، وحقٌّ جديد؟ حركةٌ أولى؟ دولابٌ يدفعُ نفسَه بنفسِه؟
سيكون بإمكانك حينها أن ترغمَ النجوم على الدوران حولك!”.
تعارُفُنا لأوّل مرّة في 1988، شُهد وأنا؟
كنتُ في مطعم شعبيٍّ للسمك، رخيصٍ ولذيذٍ جدا، في نابولي، في مستهل مايو لذلك العام الخالد. يختار فيه الزبون السمكَ والأصداف والقشريّات و”فواكه البحر” كما يحب، من صناديق معروضةٍ في شرفة المطعم، قبل أن يُملي على النادل برنامج الطباخة: مقلية أم بالجمر أم بالصوصة.
طابور الانتظار فيه طويل. المقعدُ الذي يواجهني في طاولتي الصغيرة شاغر، وفي الصف السادس من الطابور شابّة واقفة وحيدة، تقرأ كتاب جيب، وتراقب بين الحين والحين سرعة مغادرة الزبائن للمطعم، كما لو كانت ستُعطِّف رحالها إذا استمرّ التصاق الزبائن في مقاعدهم على هذه الوتيرة.
ولأني في طاولة صغيرة لاثنين، هرعتُ نحوها لاقترح لها المقعد الشاغر أمامي، لأن المنتظرِين قبلها مجاميع لا يهمهم مقعدٌ شاغرٌ وحيد.
وافقت الشابة شاكرة: ستوفّر عشرين دقيقة، على الأقل.
السؤال الذي كهربني، منذ أول لحظة وأنا أراها واستنشقها أمامي:
كيف يعقل أن تَجِد فتاة، بهذا الجمال وبهذه الطلعة البديعة المهذبة، نفسها وحيدة في طابور؟ كيف لها أن تسافر للسياحة، إن كانت هنا للسياحة، دون حبيبٍ أو رفيقٍ أو صديقة؟
يا لغباء الكون وبلادة الحياة!…
نواميس الكون لا تسمح بذلك: يستحيل أن ترى، في كل الدنيا، شابةً سائحةً كهذه، دون عاشقٍ مجذوبٍ ملتصقٍ بها، يدور حولها كسفينة فضائية:
الجمالُ، في فيزياء العشق، لا يعرف الفراغ (لا يطيقه ربما).
أو، بتعبير مماثل: فيزياء العشق لا تسمح بأن يتعايش الجمال والفراغ معا.
هذا إذا لم ترها حبلى بطفلٍ ينمو في بطنٍ متكوّرٍ جميل، يزيدها جمالا ويفجِّر البهجة والفخر على محيا العاشقَين، هي ومُحبِّلها الذي يتبخترُ قربها نشوةً وسعادة…
تمرّ الثواني الأولى مُحرِجةً لِكلينا، ثقيلةً مصطنعة: يحاول كل واحدٍ منا الاستغراق في عمل شيء ما: البحث عن نظارة شمسية، أو تفتيش حقيبة الظهر، أو النظر لعناوين صحيفة… وكأنه لا يراقب من يواجهُه، بشكل أو بآخر، لسبر أغوار مشاعره وانطباعاته ونواياه. غير مهتمٍّ كثيرا به، غير مكترثٍ بحضورهِ الطاغي إطلاقا.
ثمّ شكرتني لأني صببتُ لها كأس ماء. كلماتنا الأولى كانت بلسانٍ فرنسيٍّ متماوجٍ راقٍ مبين (هي سوريّة فرنسية). ثم دخلت العربية، بأحلى مفاجآتها ونغماتها ومغامراتها الحميمة، على الخط.
لم يكن سؤالي، قبل قليل، حول نواميس فيزياء العشق عبثيّا. ففتاةٌ بهذه الروعة والإشعاع، بهاتين العينين الواسعتين العسليّتين (ألذلك كان اسمها: شُهد؟)، بهذه الروائح السماوية (إلهي، كم أبدعتَ!)، بهذا الصوت الساحر والكلمات العذبة والاستشهادات المسكِرة، لا يمكنها أن تأتي للسياحة وحيدة إطلاقا.
الدليل: هي في نابولي لِمهمة عمل: رافقتْ، لزيارة مدينتَي بومبيي وايركولانوم، صفّاً دراسيا من مدرسة نخبوية تحضيرية لمسابقات الدخول في كليات نُخبةِ النّخبة الفرنسية!
لم أدرس الفلسفةَ في الجامعة كما كنتُ أحلم في طفولتي، لكن علم العلوم، وفلسفة الفلسفات، أمامي الآن في طاولة صغيرة في هذا المطعم الشعبي السعيد المكتظ.
ويعلم الله أني مستعدٌّ أن أقاتل، وأن أرمي بجثتي في الجحيم (أو أن أذهب لدراسة طب الأسنانْ في جمهورية أذربيجانْ، كأشنع عقابٍ ذاتي أستطيع عمله)، لو تركتُها تغادرني بعد هذا اللقاء القدَري (الذي انتظره منذ ما قبل ولادتي بألف سنة)، دون أن أحوِّله إلى لقاء العمر.
ليس في ذلك إعجاز: قانون الجاذبية الروحية والجمالية أشدّ حتميةً ومغناطيسيةً وشفطاً ووطأةً من قانون جاذبية جزيئات نيوتن.
ثمّ لا يحتاج تفسير عشقي العاتي إلى مرافعات: لِشُهد رائحةُ السماوات، الهواء الطلق.
صوتُها الذي تفترش فيه أجمل الكلمات، أحلى العبارات، أروع الأفكار، يجذبني على نحوٍ أصم.
ورؤية هذه الفتاة، في هذا المنعطف التاريخي في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، أعظم هديّة يقدمها القدَر لإنسان.
قبل مغادرة المطعم للمشي سوياً في الشوارع القديمة لنابولي، لاحظتُ شيئا غريبا جدا، لا يمرّ يوم واحد لا أستعيد تفاصيله لوحدي:
كنا في عمق الحوار، شُهدُ وأنا، غارقَين فيه، شغوفَين بتفاصيله بكلِّ تلافيف روحَينا، عندما أحسستُ أن قدمي الأيسر متجمِّدٌ تماما. ميّتٌ، لا أشعر به!
في هذا المطعم الشعبي المزدحم الذي يلزم أن يفاوض الزبون فيه مع الأرض ليموضع رجليه عليها، وضعَتْ شُهدُ قدمَها (بلا وعي، في لحظةٍ ما من تفاعلات حواراتنا المتشابكة) على قدمي أسفل الطاولة، دون أن تدركَ أن قدمها ليست على الأرض، ودون أن أشعر بذلك أنا نفسي قبل تجمُّدِ أطراف قدمي لاحتقان حركة الدم.
كنتُ سعيدا لتلامس جسدينا، وإن كنتُ متأكدا أنها غير واعية أن قدمها الأيمن ينتصّ على قدمي الأيسر، يعانقه.
لم أتجرأ هزّ قدمي لتنشيط حركته الدمويّة، حتى لا يصيب شُهد نوعٌ من الحرج، ورغبةٌ في الاعتذار. وقبل كل ذلك، وبطبيعة الحال، لم أودّ تحريك رجلي حتى لا ينفصل جسدانا.
كنتُ أشعر بسعادة عميقة بهذا الاندماج البيولوجي بين جسدينا، وكأنّ قدَمينا جذران متلاصقان لشجرتين متجاورتين في الغابة، يتبادلان بواسطة تلاصقهما الغذاء والرسائل البيولوجية، كما تفعل شبكة إنترنت أشجار الغابات.
استحضرتُ منظرَ شجرتين جميلتين غُرِستا أمام باب مقصورةِ الإمبراطور والإمبراطورة، في قلب “المدينة الممنوعة” ببِكين، في الصين.
لهما ساقان مائلان، يلتقيان في رأسهما، يتعانقان. من نقطة التقائهما تتفرّع جذوعٌ وأغصانٌ مشتركة لِشجرةٍ واحدة.
تحتهما عبارة بديعة (تتحدّثُ بلسان حال الإمبراطورة والإمبراطور)، لا يمرّ يوم منذ تعارفي مع شُهد دون أن تخطر ببالي:
“لِنكنْ مثلهما شجرتين بالأغصان نفسها. لِنكنْ طائرين بالجناحين نفسهما!”
جاءني الحلاج نفسه، إلى طاولتنا في هذا المطعم الشعبيّ (ومنظر توحُّدِ الشجرَتين يراودني، يغويني ويأسرني)، ليهمسَ في أذني دون أن تلاحظ شُهدُ ذلك:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حلَلنا بدَنا
فإذا أبصرتَني أبصرتَهُ،
وإذا أبصرتَهُ كان أنا
روحهُ روحي، وروحي روحهُ
من رأى روحين حلّا بدنا؟
سعادةٌ لذيذة، وإن كان احتباس حركة الدم في الرِّجل خانقاً مؤلماً. تغيّرَ لون وجهي بالتأكيد، أضحى أكثر احمرارا، كما أتصوّر. أو ازرقاقا، ربما. هل لاحظتْ شُهدُ ذلك؟
لا أتوقع، كلانا مسطولان غارقان في سحر جمال اللحظة.
للنظراتِ التي نتبادلها، وللابتسامات وللكلمات في هذه الهنيهات بالذات، قيمةٌ تاريخية وعاطفية لا مثيل لها: هي وحدها ما يستحضرهُ المرء في ذاكرته قبيل الموت بثوانٍ.
زاد انقباضي بعد أن فقدتُ الإحساس بقدمي الأيسر كليّة. لم تلاحظ شُهد ذلك، كما يبدو من بريق عينيها وهي تنغمر معي في شلالات أحاديثٍ تجذبُنا، رغم تجلّطي واحمراري وازرقاقي أكثر فأكثر، وتحوّلي إلى قوس قزحٍ ناطق.
أتحمَّل ألَمي وحدي، بصمتٍ، بصبرٍ، بشلَلٍ نصفيٍّ، وبكل سعادة.
استحضرتُ أبوبكر الصدّيق، في غار حراء والرسول ينام على فخذه. لدْغةُ عقرب في قدم الصديق. لم يتحرك لكي لا يوقظ الرسول، صمد، تمالك أعصابه مثلي تماما، حتى سقطت دموعه من شدّة الألم…
لم تسقط دموعي أمام شُهد، لكني أدركتُ أخيرا حجم آلام أبي بكر، ومدى سعادتِهِ أيضا، في هذه الأسطورة الجميلة.
لم تنفصل قدمانا إلا قبيل مغادرة المطعم، دون أن تشعر شُهد لحظةً واحدة أن قدمي كان يعانق قدمها بشغف، بِوَله، بغرام، ودون توقف.
الأدهى: بعد حوالي 30 عاما من الارتباط الكليّ والعشق المتصاعد (وإن لا نحيا، حسب رغبتها، تحت سقفٍ واحد طوال العام، مثل كل ثنائيٍّ تقليديٍّ يبدِّد حياته بالارتباطات الروتينية الزوجية اليوميّة)، لم أتجرأ، حتى اليوم، استفسارها:
هل كانت مُدرِكةً، في ذلك اليوم القدَري المبارك، بأن قدمها ظل فوق قدمي، ملتصقا به، أكثر من نصف ساعة؟
إذا كان الجواب بالنفي، فمجرّد البوح بذلك السرّ سيحرمني من متعة استعادته في ذاكرتي كل يوم، ومن سعادة التماوج الزجزاجي المضطرب اللذيذ بين الرغبة اليومية في البوح به، وعدم البوح به، في الاستفسار أو عدم الاستفسار.
وإن كان الجواب بالإيجاب، فكل حلاوة معاناتي ستنهار سريعا، وستتلاشى مع انكشاف هشاشة تلك السعادةِ الصامتةِ الساحقة التي شعرتُ بها.
……………
(*) نص من رواية “وحي” لحبيب سروري، (تحت الطبع، دار الساقي).