سلفي في منتهى الخشوع!
حبيب سروري
قبل 3 أيام كنت أقرأُ لِمهندسٍ معروف، يسكن في مدينةٍ غارقةٍ بالحرب، هذا المنشور الذي هزّني: “أشعر بالطفش ووجعِ القلب من كلِّ هذه الدنيا. لا أدري ما العمل؟ أخذت لنفسي 453 صورة (سِلْفي)، وما زلت طافشاً. أيعرف أحدكم ما الحل؟”.
لم يستطع صاحبنا تقيوء طفشه كما قال، لكنه باعتراف كل التعليقات على منشوره: قلّل بعضاً من طفشِ قُرّائه.
لم يتغيّر شيء: “الطفشُ” الوجوديّ الذي لم يعرف له الإنسان حلّاً من أزل الآزلين أقوى من هذا السلاح الجديد: الصور السِّلفية. أما السرد والبوح والدهشة فتظلُّ أنجح نسبيّاً، كما يبدو.
كلمة “سِلفي” تعني: صورة يأخذها الإنسان لِنفسِه بهاتفه المحمول، ويضعها في الشبكات الاجتماعية. لعلها أهم كلمة في عام 2013، حسب إحصاء جامعة أكسفورد. ويتصاعد حضورها في حياتنا مذّاك أكثر فأكثر.
عدّة مليارات من الصور السِّلفية تمّ أخذُها طوال عام 2015، ومليارات في أسابيع الأعياد ورأس السنة لوحدِها فقط. فإذا كنّا فعلاً نعيش في “عصر الصورة الرقمية”، فلعلّ “عصر الصورة السِّلفية” هذا أرقى مراحلها، مثلما “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” على حدِّ تعبيرٍ شهير.
إليكم أوّلاً، للتأمل، نماذج عناوين صورٍ سِلفيّة رأيتها على الإنترنت: “سِلفي وأنا في منتهى الخشوع في المسجد النبويّ”!؛ “سِلفي وأنا أبكي”، لِسياسيٍّ يمني يغيّر معطفه كل يوم!…
وهاكم منشوران فيسبوكيان حقيقيان أيضاً: “ماتَ للأسف قبل أن نأخذ سِلفي مشترك!”؛ “أصدقائي، أرجوكم لا تموتوا قبل أن نأخذ صورة سِلفي معاً!”…
للصور السِّلفية “شهيد”: داني باومان شاب إنجليزي أدمن أخذ السِّلفي منذ الثالثة عشرة. طُرِد من المدرسة في السادسة عشرة لأنه يغادر الصف 3 مرات يوميا على الأقل لأخذ سِلفي!
ساعده الطرد على التفرغ لإدمانه المفضل: العزلة في البيت لأخذ حوالي 200 سلفي في اليوم، بحثاً عن السلفي النموذجي الأوسم.
داني، الذي”يشبه يوسف بجماله” في مقاييسنا العربية، كان مصاباً بمرض “الخوف من القبح” الذي يُفسِّر بحثَه المجنون عن السِّلفي كامل الأوصاف الجمالية!
لم يجد داني ضالته المنشودة طوال 3 سنين من البحث. وفي التاسعة عشرة، فقد 12 كيلوجراما بسبب ذلك، وارتكب محاولة الانتحار بشرب عدد كبير من المهدئات! انقذته أمُّه في اللحظة الأخيرة…
يروى (والله أعلم!) أن السِّلفي الأخير قبل محاولته الانتحارية أخذه وهو يعمل بسبّابة ووسطى يده اليمنى إشارة النصر: V.
الباحث عن تفسيرٍ فلسفيٍّ أو نفسيٍّ لِظاهرة الصور السِّلفية سيستغرب من تناقض وتلاطم الأطروحات:
للبعض: أخذُ سِلفي يدلّ على النرجسية وجذور البسيكوباتية! برهانهم: معدّل ميلِ النرجسيين والجهاديين الدينيين إلى أخذ الصور السِلفية ونشرها يتجاوز المتوسط بكثير.
للبعض الآخر: الصورة السِّلفيّة بصمةٌ نضالية بتوقيعٍ فردي، لِتوثيق اللحظة، اليوميِّ، الذاكرة الجمعيّة… عداءُ أخذ السِّلفي يأتي غالباً من انتماءات ارستقراطية ترفض أن يكون المواطن البسيط في الموقعِ المركزي المحجوز للنجوم لا غير.
دليلهم: الممثلة الفرنسية كاترين دونَف وأمير بريطانيا لا يستمرئان صور السِّلفي الشعبية، بينما البابا فرانسوا (بابا الكادحين!) يميل كثيراً لأخذها.
ثمّة اليوم مَعارض فنيّة دولية لِصور سِلفي متخصّصة: “سلفي الأقدام على الشبكات الإجتماعية”، معرض “إجابةُ الأصبعِ الوسطى!” في نيويورك…
وثمّة مواد دراسية في بعض الماجستيرات الفنيّة والاجتماعية عن الصور السِّلفية كنوعٍ فنيٍّ جديد يطمّ طوفانُه العالَمَ الرقمي، وإن ما زالت البشرية اليوم في عصرِهِ الحجري.
ومن يدري، قد يأتي اليوم الذي يقام فيه معرضٌ يستمر 6 أشهر في “القصر الكبير” في قلب باريس للصور السِّلفية بعد الصحو من النوم مباشرة، بعنوان: “سِلفي على الريق”!
الصور السِّلفية تكتسح اليوم الأفراح والمآتم معاً. إليكم بعض مشاهدها:
طقوس حفلة “دفن العزوبية” تسبق حفلة الزفاف بيوم أو يومين. يتم فيها أخذ سلسلة صور للعروسة والعريس في موقعٍ جغرافيٍّ متميّز، بفستانِ الزفاف الأبيض وطاقم المعطف وربطة العنق الخاصة بحفلة الزفاف.
يقرِّر روسيّان (من طبقة اجتماعية مافياوية يسمّيها الروس احتقارا: “الروس الجدد”) أن تكون طقوسهم هذه بعد الشروق مباشرة، على بعد آلاف الكيلومترات، في مدينة ميونيه الفيتنامية الساحلية، ثمّة حيث يلتقي في نفس المكان: البحرُ بالغابات بالصحراء بالجبال و”النهر الأحمر”.
يصعدان ببطء وصعوبة نحو علياء أعلى كثيبٍ متاخمٍ لساحل المدينة، يرافقهما أقرب الأصدقاء، ومصوِّرٌ فوتوغرافي محترف شرح لهما أنه لم تعد آخر صرخات الموضة اليوم أن تأخذ سِلفي بهاتفٍ واحد، بل باثنين: سِلفي بالهاتف الثاني لك وأنت تأخذ سِلفي بالأوّل. أي: سِلفي مُربَّع.
من وحي ذلك، يأخذ العريس هاتفه المحمول الثاني كما لو يأخذ سِلفي لِعروسته وهي تأخذ سِلفي معه وهو يأخذ السِلفي بالهاتف الأوّل لهما.
ثمّ تُخرِج العروسة هاتفها الثاني للسلسلة الجديدة من الصوّر الأكثر فأكثر بهلوانيةً و”سِلفيّة”…
اكتسحتْ الصور السِّلفية طقوس التأبين وعوالم الموتى أيضاً.
حتّى نهايات القرن الماضي (يعني: عصر الديناصور!)، كنّا لا نستطيع تَحمُّل رؤية من نحب ميّتاً على السرير، ونعتذر عن مشاهدته في تلك الوضعيّة: لا نريد أن يقبع جثّةً هامدة في صورتِه الأخيرةِ المنتصّةِ في واجهة الذاكرة.
تغيّر كل شيءٍ الآن في هذا العصر الجديد الذي انقطع فيه عرق تأنيب الضمير على القتل في جبين الإنسان.
الإنسانُ الذي أمسى يضع بكلِّ برودة سِلفي للقاتل بجانب المقتول، على الفيسبوك.
الفيسبوكُ الذي لم يعد يمكن فتحه دون أن ترتطم على أعيننا مناظر موتٍ كابوسية تدمِّر أليافنا العصبية…
أحدُهم وضع صورةً لوالدتهِ وهي جثّة هامدة على فراش الموت، قبل نقلها إلى التابوت مباشرة. لعله أوّل من عرّى هذه اللحظة الحميمةِ الواحدةِ الإحدى، دون استئذانِ أحد، لاسيّما والدته المغدورة.
نال أكثر من 7000 لايك (هو الذي لم يحصد يوماً أكثر من 7 لايكات) في هذا العالَم الجديد الذي تتناسب فيه طردياً قيمتُك الاجتماعية مع عدد اللايكات التي تنالها منشوراتك!
ظلّ هذا الرقم قياسيّاً حتّى خطر ببال صديقٍ له تجاوزُه: وضع سِلفي له مع جثمان والدته في نفس الوقت: “سِلفي مع أمّي في سرير الموت”!
النتيجة: أكثر من 17000 لايك!
غير أن الصور السِّلفية رفيقةُ الطفش في الغالب.
كنتُ مؤخراً في أحد مطاعم مدينةٍ شرق آسيوية ناهضةٍ جداً. أمامي أكثر من عشرين شابّاً يعملون في بنك، يتناولون “عشاء الفريق”: وجبة ترفيهية تفاعلية لتوثيق العلاقة الوديّة الحميمة بين أعضاء الفريق خارج العمل، وتمتين تواطدهم.
أراقب ما يدور بِعينٍ ميكروسكوبية: الجميع يأكل دون أن يهمس للآخر ببنت شفة. بين لقمةٍ ولقمة، يستغرقُ كلّ واحدٍ بقراءة شاشة هاتفه المحمول، لا غير!
أكاد لا أصدِّق: لا كلمة فعلاً طوال العشاء! وعندما لا يجد هذا أو ذاك ما يقرأه في شاشةِ هاتفهِ المحمول، يرفعه قليلاً لأخد سِلفي له وحده، قبل أن يعود للخوض في المائدة ويفاوض أحد صحونها!
كدتُ أصرخ ملء المطعم: “سِلفي جماعي على الأقل، اتّقوا الله!”.