ذاكرة المغارات
حبيب سروري
(نُشِرَ جزء منه في الملحق الثقافي للعربي الجديد)
سألني الطبيب النفسي وأنا اضطجع على أريكته الشهيرة:
ـــ إغمض عينيك، وقل لي ماذا توحي لك كلمة « مغارة »!
ـــ «مغارة علي بابا»، وصيغة «افتح الباب يا سمسم» التي تسمحُ بالوصول إلى الكنز!…
تشبهنا كثيراً، نحن العرب، هذه الصيغة السمسمية الكسولة المباشرة، وهذه الأحلام الثمينة الساذجة جداً.
توحي لي المغارة بذكرى مهد البشرية ورحمها. بالمجهول والمخيف أيضاً.
لم أرتجف في الحقيقة طوال حياتي مثلما ارتجفتُ في طفولتي عندما كنت أشاهد مسلسلةً (تعرض في تلفاز عدن أيّام الإحتلال الإنجليزي، كل أربعاء) تدور في كهوف الإنسان الأوّل، في طوره البدائي.
بمجرّد اقتراب يوم الإربعاء كان يغشاني رعبٌ أزرق!
ثمّ ارتبطت المغارة في صبا لاوعيي الدفين بسيرة التأمل النبوي الشريف في غار حراء، وببرزخٍ من سبك الحديد يختفي خلفه قوم يأجوج ومأجوج!…
ـــ وماذا عن ذاكرة المغارات؟، سألني فرويدي الغالي.
ـــ تهجم عليّ بادئ ذي بدء ذاكرة سيّدة ممالك المغارات: البتراء.
قصور، معابد، هياكل، أضرحة، قرابين، دير، أروقة، أقواس، متاهات صخرية، حمامات، صهاريج، قاعات احتفال، أسواق، صفوف من مدرجات مزخرفة، بوابات، ردهات، شوارع… محفورة كلُّها في أحشاء الجبال!
صخورٌ ورديَّةٌ تتماوج عليها ألوانٌ متعدِّدة: حمراء، صفراء، زرقاء… البتراءُ مدينةٌ ورديَّةٌ تسبح في الظلال. يتسلَّلُ فيها هنا وهناك شعاعُ شمسٍ يخترق بعضَ الشقوق والصخور ليرسم فسيفساء، لُوَيْنَاتٍ متباينة، ظلالاً متماوجة…
البتراء خلاء سيريالي. ثمّة أماكن على هذه المعمورة يلزم أن تكون كعبةً يحجُّ لها سائر البشر: وادي الإنسان في سرينجيتي، وادي الملوك وأهرام الجيزة في مصر، البتراء…
البتراء واجهة الأردن الأولى، ذاكرة عرب شمال الجزيرة. صرحٌ سياحي عربي لا مثيل له.
تقودني ذكرياتها إلى صرحٍ مهملٍ لا سياحة فيه، طالما تمنيت الوصول إليه ولم أستطع، هو الامتداد الطبيعي للبتراء وحضارة الأنباط: « مدائن صالح » في محافظة العلا في السعودية…
كيف يمكن زيارة السعودية للسياحة؟ لا أعرف! وكيف يمكن الوصول إلى مدائن صالح (خارج تصفح صفحات ويكيبيدياء، ومشاهدة صورها البديعة على إنترنت)؟
هلوسات همس المنع الظلامي تصفع المرء كلّما حاول زيارتها: لا يجوز الذهاب هناك. عاش هناك قوم لوط الكفرة!…
تنتهي بي ذاكرة المغارات بِلُوس هايتي ساس في جمهورية الدومينيكان: محمية صخور ونباتات صعدت من البحر قبل ١٥ مليون سنة، إثر تغيرات مناخية زلزالية، فيها جزيرة بنت الريح، شدق الأخطبوط، جزيرة الطيور…
الكهوف فيها كاتدرائيات تحت أرضية. أهم ما فيها: النقوش القديمة على الجدران. هنا: ٤ نقوش لبونايايا، إله المطر (توسلا بانهماره؟ بالتخفيف منه؟). نقوش حيوانات وطيور. شامانات. وشيء ما يشبه الكاميرياء (مزيج تخييلي من حيوانات مختلفة في حيوان واحد، باهر مريع: المرحلة الأولى في بيوجرافيا نشوء فكرة الآلهة).
للكهوف هنا ذكريات خاصة أليمة جدا:
هربت إليها آخر قبيلة للهنود الحمر الدومينيكان، تاينوس، من قراها الآمنة (حيث كان أهلها ينامون على سرير أرجوحة « الهاماك »، لا سلاح لهم غير الرماح)، عندما حط عليهم عتاولة الغزاة الأسبان بمدافعهم المتحركة، وأمراضهم المعدية…
مليون ونصف قتيل وأكثر في أبشع حرب إبادة جماعية عرفها التاريخ آنذاك.
مات كثير منهم أيضا في انتحارات جماعية أملا بالوصول السريع لِعالَم آخر، أكثر عدلا. كثرت حينها ممارسة الإجهاض عند الولادة حتى لا تنجب الأمهات عبيدا!…
ليس ثمّة أعمق وأهم من رسومات الإنسان الأوّل في جدران المغارات والكهوف. إذا ما سألتني، عزيزي فرويد: « متى بدأ الإنسان في رأيك، وأنت تعبر التاريخ الدارويني لسلالاته منذ مراحلها الحيوانية العتيقة؟ »، فسأقول:
ذات يوم قديمٍ جدّاً فضّلَ شابٌ كسولٌ أن يجلس في المغارة في حين خرج رفاقُهُ بِحِرابِهم للصيد. حاولَ النوم، لم يستطع!…
تراودُهُ فكرةٌ مثيرةٌ ورغبةٌ غريبةٌ في نفس الآن. يأخذ خضاباً أحمر، ينقش به على جدار المغارة، بانفعالٍ كبيرٍ، ردفاً دائريّاً يعلوهُ خصرٌ بمنحنياتٍ غير ضاوية، يعلوه نهدان ثريّان!… لم ينقشْ قبل ذلك اليوم إلا خطوطاً تقريبيّةً تشبهُ حيواناتٍ ضارية، حراباً وأدوات صيد، سباعاً كاميريائية تثير كلَّ إعجابِ وتقديسِ قبيلته!…
يعودُ رفاقُهُ بِغزال، يضرمون شعلةً لِشوائها قرب باب المغارة. يلمحُون مع ارتعاش وهجِ ألْسِنةِ النار ورقصِ ظلالِها على جدران المغارة شيئاً غريباً يتلألأ على أحد الجدران!
يلاحظون في الحقيقة نقشاً جديداً يُشبهُ: خاصرة؟ نهدين؟ ورَك؟…
صخبٌ، فرحٌ ومرح. فوضى بريئة…
في تلك اللحظة التي بدأ فيها الاحتفال الفنيّ بالمنحنيات الساحرة: بدأ الإنسان!…
إذا كانت ثمّة مغارة أحلم برؤية نقوشِ جدرانها وكتاباتها فهي مغارة هوك المذهلة، في جزيرة سوقطرة اليمنية، حيث اكتسف الأنثروبولوجيون مؤخرا نقوشاً على الجدران وألواح خشبيّة مخفيّة بكتابات متنوِّعة: آرامية تدمريّة، سبأيّة يمنيّة، حبشيّة، إغريقية…
كل الرحّالة مرّوا هنا كما لو كانت حانة لقاءاتهم خارج الزمن، ليتركوا لنا كنوزاً تبوح بيوميّاتهم، تُفكّك أسرار الماضي…
غير أن ذاكرة المغارات، عزيزي الغالي، تقودني للأعالي!…
ـــ ماذا؟، يسأل فرويدي بعينين مستغربتين.
ثمة رحلة لا أنساها، بدأت بالقمم، وانتهت بمغارات الكهوف تحت الأرضية!
في منتجع سياحي في قلب الغابة الإستوائية الماليزية، يبدأُ جسرٌ خشبيٌّ نحيف، يُشبِهُ سُلَّماً يرتفعُ في الفضاءِ بزاويةِ مَيْلٍ معتدلة، يقودُ رويداً رويداً إلى قمّةِ جَبَلٍ عالٍ في وسط الغابة. الجسرُ عبارةٌ عن حَبْلَيْنِ مَتِيْنَيْنِ مُتَوَازِيين بينهما مسافةُ متر، توسقهما سلسلة ألواحٍ سميكةٌ قويَّة، بمثابَةِ دَرَج. في طرفَي كلِّ درجة يرتكزُ عمودان خشبيّان يرتفعان حتّى الخاصرة، يمكنُ الاتكاءُ عليهما باليدين أثناء الصعود.
يرتفعُ هذا الجسرُ البدائي مُحاذياً جذوعَ أشجارِ الغابةِ الباسقة، ثمّ يتوغَّلُ في الغلافِ الجوِّي باتجاهِ قمَّةِ الجبلِ المواجهِ حيثُ ينغرسُ الطرفُ الآخرُ لِلجسرِ في فجوةٍ عميقة.
بدأتُ الصعودَ متكئاً بِقبضتَي يَدَيَّ على الأعمدةِ القريبةِ من خاصرتي، ومصوِّبَاً قَدمَيَّ على ألواح الدرج التي كانت تتأرجحُ في الفضاء مع كلِّ خطوة.
لم أشعرْ في حياتي بانقباضٍ أكثر من الانقباضِ الذي شعرتُ بهِ بعد أوَّلِ خطواتي على هذا الجسر المترنِّحِ في الفضاء. زاد هلعي بشكلٍ لا يطاق وأنا أشعرُ أن الجسر يهتزُّ تحت رجلي مع كلِّ خطوة.
فكَّرْتُ بالتوقُّفِ والعودةِ إلى الخلف. يستحيلُ ذلك! لا أستطيعُ مجرَّدَ الاستدارة. يلزمُ مواصلةُ السيرِ بانتظامٍ وهدوء، والحفاظ على مسافة بضعة خطوات مع الآخر.
ثم بدأتُ أتحرَّرُ قليلاً من الخوفِ والشعورِ بالدوار. بدأنا السيرَ بعد ذلك على جسرٍ آخر باتجاه الهبوط هذه المرة نحو كهف قاع جبلٍ آخر يواجهنا.
كان الكهفُ في البدءِ عبارةً عن دهاليز وأغوار واسعة. ثمّ تحوَّلَ إلى فجواتٍ مُشَعْبَكَة تتخلَّلُها ممراتٌ ضيّقةٌ يلزمُ لِدخولها في الغالب الانحناءُ وعَطْوَرَةُ الجسدِ أو حَشْرُهُ فيها بالكاد. يلزم في كلِّ حركةٍ التفاوضُ بين الجسدِ والحُفَرِ الصخريَّة، بين المصباحِ اليدويِّ والفكّ، بين الفكِّ والمعدة… يلزمُ ترويضُ المفاصل بين النتوءات الصخريَّةِ وتداخلاتها، بين الأجرافِ والمياهِ الجوفيّة. يلزم أن يصير الإنسان مطاطيّاً، هوائياً، شنجميّاً بِجَسَدٍ غضروفيٍّ لَيِّن…
الكهفُ مملكةُ خفافيش وكائنات ظلاميّة مجهولة متنوِّعَة تقبعُ في الجُحُور والأوكار، تلتصقُ بِجُدْران الأقبيةِ الغائرة، تحومُ ببطء في تلابيب أمعاء الكرة الأرضية… أغربُ ما رأيتُ: فصائلَ مسالمةً من ثعابين وحيّاتٍ بيضاء، لعلَّها مصابةٌ بمرضِ المهق (البهق)، لم أرَ مثيلَها في حياتي من قبل.
بفضلِ رحلة الصعودِ إلى الجَبلِ شعرتُ أنني أتلاين عند الهبوط والالتواء في تضاريس الكهف. فقدتُ انقباضي بفضلِ هاتين الرحلتين المتكاملتين معاً. أكتشفتُ أن للكهوفِ جمالاً آخر لا يقلُّ عن جمالِ القمم. رحلة الأعماق مُكَمِّلٌ ضروريٌّ عبقريٌّ لِرحلةِ الأعالي. تسمحُ للمرءِ أن يُحلِّقَ عالياً، أن ينظر للحياةِ بِسُمُوٍّ وشمولية، في حين تجرُّهُ رحلةُ المرتفعات للغوصِ في أعماق الذات واكتشاف أغوارِها القصيّة.
ما إن وصلنا نهايةَ الكهف حتى شعرتُ أنَّ كلَّ خلايا جسدي تخلَّصتْ من أغلالِها، وأنني أصبَحتُ حُرَّاً طليقاً.
أكادُ لا أُصَدِّق: هاأنذا بدون سلاسلِ الخوف والخضوع، أسيرُ وأفّكِّرُ بلا قضبان!
صدق من قال: « كلما نصعدُ الأعالي، كلما نكتشفُ عمق الذات ».