حفيد سندباد
بهلول السروري وإنسان ما بعد الإنسان
آخر رواية قرأتها للروائي المقيم في عوالم السرد السحرية للبروفسور حبيب سرور كانت بعنوان “حفيد سندباد” .. تلك التسمية التي تتكشّف أبعادها للقارئ في الصفحات الأخيرة من الرواية، بوصفها تسمية مُجيرة على شخصية محورية في متن العمل وهو “نادر الغريب”، وهذا الإسم المركب من كلمتين يحتوي على وصفين بالغي الدلالة في الرواية.
هذا الزميل “النادر والغريب”، تتقاطع سيرته المنغومة بالحل والترحال، مع حالة السارد العليم، المُقيم في زمنه الخاص.. مرة لأن نادرة الغريب زميل الدراسات والإشتغال على علوم الكومبيوتر، ومرة اخرى لأنه يتماهى مع السارد في نصوصه المحايثة للشواهد والمشاهد ذات القيمة الرفيعة، كما الحال في وصف تاج محل، وعلى سبيل المقال لا الحصر.
***
منذ البدايات الأولى يعتمد الروائي نموذج السارد العليم المتداخل مع الحالة الذاتية لكاتب السطور، فيما يمكن وصفه بمناورة سردية إبداعية “سيرذاتية”، ومن أساسها وتضاعيفها نتجوَّل في مرابع الرؤى والأفكار والمجاورات الوصفية، وحتى أحكام القيمة الدلالية، حول سلسلة من الوقائع الحياتية المعاصرة .. لكن ذلك ليس نهاية المطاف، وليست التميمة الزمكانية الوحيدة التي يعتمدها السارد، فالأصل في متوالية النسق السرد الزمكاني الماثل في” حفيد سندباد”، يمتد من باريس إلى عدن ، فجيبوتي .. مع انتقالات رشيقة في ذاكرة نادر الغريب العجيبة المدوْزنة بمتاهة الجغرافيا الواسعة للكرة الأرضية، التي بدورانها اليومي تعيد إنتاج دائرية الوجود بالمعنى الشامل، فيما تضع البشريين المُسرْنَمين عند عتبات السأم المقرون بالدوران والدائرة، وكأن التاريخ يعيد إنتاج عواصفه وجنونه.
هنا ينبجس المركز المقدس للقيصرية الروسية، واستتباعها السوفيتي، فنرحل مع السارد في قلب الشتاء الروسي القارس.. موسكو والمدن الروسية الأكثر أهمية، وفي تلك الديار المتباعدة ، والتضاريس المتنوعة، نتوقف مع عوالم الأنا الرائية المُتشظِّية حد الإستغراق .
في الشتاء الروسي المُسيَّج بروائح الفوتكا والبحث عن الفردوس السديمي لرأسمالية الذاكرة السينمائية الغارقة في أحلام اليقضة.. في البرازخ البحرية الجزيرية لبحري القلزم والعرب.. الأحمر وخليج عدن، العامِرين بالمدهشات البصرية والبيولوجية .. وفي باريس المتموْضعة في مكانها المرسوم عند ذاكرة المستقبل المداهم الذي يستدعيه السارد من تضاعيف الغائب المُغيَّب، حد اليقين الإيماني بعاصفة قادمة لا مردَّ لها .. يوم أن يغرق العالم الموشَّى بأوراق سلوفان الحضارة ما بعد الصناعية، في وحشية الموت والدمار، وتختفي أسماك البحر وفراشات الأمازون، وتتحول الروبوتات الذكية إلى معادل موضوعي لذواتنا، بل الساهر الأول على ميزان شوكة الوجود المادي والروحي، كما يفعل الروبوت المكلوم” بهلول “.
يتأرجح بنا نص “حبيب سرور” في ثلاثة مستويات زمانية تستدعي نظيراتها المكانية.. الماضي العدني، والحاضر الباريسي، والمستقبل المحدد بعام النبوآت “النوستراداموسية” في ٢٠٢٧.
غير أن اللعبة السردية تنكشف عن حقيقة موضوعية تتعلق بتغيير آلة الزمن البيولوجي للبشر، فهذه السنوات الطويلة الممتدة حتى2027، تنكمش واقعياً من خلال سحر الكومبيوتر، واختزاله الخوارزمي المنطقي لكامل المدى الفيزيائي لساعتنا البيولوجية النابعة من كروية الأرض ودورانها، لتنْكَتِب الرواية بشلال دفقٍ كتابيٍ لا يتجاوز ساعات الليل والنهار، فيبدو الزمن الافتراضي للكتابة، مُحايثاً للزمن الواقعي الذي انكمش، ليؤكد لنا فداحات المآل، فنحن في زمن ينطوي” كطي السجل للسحب”، ونحن عند تخوم أزمنة إبداعية وانتاجية متسارعة حد الإنخلاع من الإيقاع الناعم الذي ألفته البشرية طوال أحقابها الجيولوجية.
***
في الماضي نتابع إيقاع السرد مع “علوان الجيلاني”، إبن ضاحية “الشيخ عثمان” بمدينة عدن، كما نتوقَّف مع حالة التقاطع المكاني في ذروة الإزدهار السبعيني بفرنسا، حيث ينبري زميل الدراسة المغربي “نادر الغريب”، والذي بقدر غموضه المقرون بالتوحُّد في الذات أثناء الدراسة، نُتابع نبض رحلاته المكوكية السندبادية، عبر ذاكرة الكومبيوتر الذي يناله علوان الجيلاني، هدية واصلة من مكب النفايات في شارع من شوارع مدينة الليل والمرايا، وعند ذات العتبة الباريسية ينبري الروبوت الذكي “بهلول” بوصفه المُعادل السحري لضرورات، بل إكراهات المستقبل .
***
في غلاف الرواية المرسومة بتصميم “سومر كوكبي” تتماوج الصفحة المرسومة بالأبيض والأسود مع السارد المُبرْنط بقبعة رأس ارستقراطية أوروبية بامتياز، فيما تتمايل الطيوف وأبراج الكهرباء، لتنكشف أنوار العمود الكهربائي المشع، عن انزياحات داكنة حد الدرب المحاط بالسواد، وتبدوا الحقائق البصرية المنظورية مائلة كميل منزل “شارلي شابلن” السينمائي، الذي انْبَنى على رأس نتوء صخري.. ثابتاً على الأرض إلى منتصفه.. معلقاً في النصف الثاني منه في الهواء!!.
تلك هي محنة الانسان منذ أن كان، وقد قال المعري الحكيم تعبيراً عن ذلك:
من راعه زمن أو هاله عجب * فلي ثمانون حولاً لا أرى عجبا
اليوم كالأمس والأفلاك دائرة * والناس كالناس والدنيا لمن غلبا
وقال آخر:
كنت كذي رجلين رجلٌ سليمةُ * وأُخرى رَمَى فيها الزمان فشُلَّتِ
ذلك هو الثابت القلق التي تقدمه الرأسمالية العالمية المنتصرة بقوة الوحشية النيتشوية، والرافضة لما دون الهرمجدونية التوراتية القادمة، والمُصرة على تعويم الخلق والخالق في متاهات الوجود المخطوف من نواميس وموازين الفطرة السليمة.. وسنرى إن مثل هذه الأبعاد الدلالية تظهر في غلاف الرواية أيضاً، حيث الإستعارة لتلك الجملة المباشرة المنقولة من جريدة الحياة والقائلة توصيفاً بلسان البيان: لغة نقدية ثائرة.
***
نحن إذاً بازاء نص سردي لا يتردد في إطلاق أحكام قيمة فكرية وسياسية موصولة بالمقاربات الذهنية والقناعات الذاتية للكاتب، وفي نوع من إزالة الحاجز الإجرائي النمطي الفاصل والواصل بين السارد والمسرود، كما ألفناه في النصوص الروائية الذي تتوارى فيها الرؤى لصالح عوالم الحكي والدراما الحياتية المرصودة تجسيماً وتجريداً.
الإستشهادات الثلاثة لكل من “بودلير” و”امين معلوف” و”القديس اوغسطين” المكتوبة في مدخل الرواية عبارة عن استعادات وامضة لنصوص شكلت حروزاً وتمائم لما اعتمده السارد في متن العمل، وهي في المحصلة إشارات مرور لمن يريد البحث عن تلك المفاهيم في دروب النص.
في الفرضية “السيرذاتية” للعمل ثلاثية نسوية متوازية مع الثلاثية الزمكانية للعمل .. الأولى فريال العدنية التي تُمثل المحطة الأكثر صفاء في الحب الرومانتيكي .. قرين الفتوة الأُولى والأحلام الألفية الصافية في سبعينيات القرن المنصرم، وفي فضاءات عدن ما قبل العواصف والويلات.
فريال الأُولى تعود بعد سنين طوال وقد تحولت إلى مجرد زوجة ل”بوليغامي” اعتيادي.. متعدد الزوجات.. مهاجر يماني من العوام.. يغرق في شقاء المال وتوزيع العيال.
تتكرر ذات المرارات الوجودية في عوالم السارد العليم مع زوجته الفرنسية السابقة التي تهجره ليراها بعد سنين طوال وقد ازدادت تباعداً عنه وعن ذكريات أيامهم الخوالي، حتى أنها كسابقتها فريال، بدتا براغماتيتين عامِّيتين إعتياديتين، تتعاركان مع الحياة من منظورات مادية “أريتميتيكة” جبْرية، وتبقى الروسية الذكية “مايا” التي تسفر عن حبيبة عاشقة، وزوجة مرافقة لزميل دراسته وحيراته الرقمية “نادر الغريب”، وبهذا تكتمل متوالية الخيبات والآلام النفسية لتكشف وجه الثلاثية التراجيدية في حياة “علوان الجيلاني”.
***
رموز العمل وابطاله لا يمكن استجلاء أبعادهم في واحدية مباشرة لتمظهراتهم النمطية في المتن، فكل واحد منهم مزدوج درامياً، ومتعدد حياتياً.. علوان الجيلاني هو ذاته السارد العليم، وحالما يتحدث عنه السارد بالضمير الثالث المُخاطب، سرعان ما يتخلَّى تاركا إياه في مفازات الذاكرة، ومستعيضاً عنه بضمير الأنا الرائي غير المنكشف اسماً ورسماً، وبالمقابل تنْجلي إزدواجية نادر الغريب ومايا الروسية، من خلال محنتهما الوجودية التي بَدتْ كما لو أنها الجامع المشترك الأعلى بينهما، فالأول مجهول الأب كما نستشف من الصفحات الأخيرة في الرواية، فوالده الحقيقي المليونير لا يريد الاعتراف بابنه، رغماً عن علاقة العشق التي ظلت تجمعه بوالدته حتى وفاتها! ، والثانية منكورة الأبوة من قبل والدها الروسي دميتري لمجرد انه غادر الاتحاد السوفيتي في ذروة الإستالينية السياسية، ولعله ظل متيقناً بأن نكرانه لزوجته السابقة وابنته مايا هو حبل النجاة الوحيد من بطش السلطات الأمنية السوفيتية.. لكن هذه الحالة تحولت إلى سيكوباتزم حقيقي، حالما استمرت رغماً عن المتغيرات الجذرية التي حدثت في عموم الاتحاد السوفيتي السابق.
واتصالاً بالثنائيات المفتوحة على التعدد، سنرى أن زوجة السارد، الفرنسية “ايزابيل”.. تغادره عندما تتيقَّن من انتفاء التتمة المنطقية لعلاقتها به، وهي لازمة براغماتية تكشف درجة الأنانية الكاسحة في عقول النسوة المتزوجات، فكل واحدة منهن ترى في زوجها مجرد جسر عبور لتحقيق مآرب مستغورة في الأنا الباحثة عن نوستالجيا الرغبة الذاتية في شيء بذاته، فحلم ايزابيلا الأساس هو مجاورة الجزر والبيئات البحرية الساحرة عند أقدام خليج عدن والبحر الأحمر، وبانتفاء هذه اللازمة لا معنى للحياة الزوجية!
***
قبل حين من الزمن وقف الفنان الشامل برتولد بريشت أمام عوالم النفس البشرية من خلال رائعته المسرحية بعنوان “بوتنيلا وتابعه ماتي“، مكاشفاً المعنى العميق لازدواجية الشخصية البشرية، بوصفها التعبير الأقصى عن نوعه المُخاتل، ولم يكتفِ “بريشت” بتعرية الإقطاعي “بونتيلا” في ثنائية سلوكه المقرون بالليل والنهار، ففي النهار هو الاقطاعي الجلف المبرمج وفق حسابات العدِّ والنقد، وفي المساء يستروح عبر ملاطفة أتباعه الفلاحين، فيبدو انساناً مرحاً لطيفاً ومتواضعاً. لكن هذه الحالة الليلية المقرونة بالخمر وموائد المنِّ والسلوى، سرعان ما تنقلب رأساً على عقب، إذا ما حاول أحد أتباعه نيل مكسب مادي منه.. هنالك يصحو بونتيلا النائم مع سلطان سكره وعربدته، ليكون أشد فجاجة ووحشية من بونتيلا الإقطاعي النهاري.. الذي يحسب كل شيء عدَّاً ونقداً.
تنعكس هذه الخاصية العجائبية في أبطال الرواية الماثلة، وتبدوا كما لو أنها أكثر فولكلورية وثباتاً في عوالم النسوة اللائي يحببن ولكن… يعشقن ولكن… يتزوجن ولكن…!
***
إذا ما وقفنا أمام “حفيد سندباد” من خلال ثلاثية الزمن الذي أشرنا إليه “ماضٍ، وحاضرٍ ومستقبلْ”، سنجد أن التشبيك الزمكاني هو الأكثر ووضوحاً وظهوراً، ولكن هذا التشبيك بدا لصالح الماضي بامتياز، وفي أُفق ما للحاضر، فيما توارى المستقبل شيئاً ما، بالرغم من الأهمية النبوئية للزمن الروائي المنبثق من أول صفحة في النص، حيث يقرر علوان الجيلاني وصديقه الإنتحار بعد انهاء اختبار الثانوية العامة، ويستفيق علوان من منامات كوابيسه الإنتحارية ليجد نفسه في عام ٢٠٢٧، ودون أن يعرف “كيف يعيش المرء بعد الساعات الأولى التي تلي الانتحار”
عند تلك العتبة الأولى من النص نكتشف “مفتاح صول” المفاهيمي المُدوْزِن للنص، والذي سيقودنا إلى دروب السارد العليم المتواري خلف سديم الضمائر والشخوص والأحداث، وساختصر تلك المنطلقات المفاهيمية فيما يلي:
منامات علوان الإنتحارية تختصر الزمن البيولوجي بصفة واقعية، فعلوان يمكنه مشاهدة عقود من الزمن في رؤية منامية تستمر ساعة واحدة.
إذا كان المنام قرين الغياب الإجرائي عن الصحو المألوف، فإن كل صحو ينطوي على منامه الخاص، فنحن مسرنمون حتى وإن بدونا في قمة الصحو، وفي هذه الإشارة لطيفة كبرى من لطائف الوجود، فالبشر يعتقدون بأن تفاعلهم مع الوجود قرين الزمان والمكان فحسب، وينسون الدهر، بوصفه ثباتاً فيزيائياً، وتحولاً سياقياً، وترحالاً للأبدية، وأن الجامع المشترك الأعلى بين هذه المستويات يتجلَّى في برازخ الإنفصال والإتصال بين الواقع والخيال، والنص السردي بطبيعته يستقيم على هذه الدربة المركبة العصية على المحاصرة.
الروبوت “بهلول” يستدعي ضمناً عالم البهللة والتبهلُل بحسب المفهوم الصوفي، فبهاليل الصوفية يرون ما لا نراه ، ويسمعون ما لا نستطيع سماعه، وبهلول العصر الرقمي هو البديل الطبيعي لإنسان ما بعد الإنسان .
يتشظَّى علوان الجيلاني بتشظيات المحيطين به، ويرى بعين اليقين إشارات الدمار العظيم، من خلال رصده لسلسلة من بورصات التنافي العدمي ” الإرهاب/ المال / التقنية / ألخ”.
كل أبطال العمل يقعون في عجز مشترك، وهو عجز يطال إنسان العصر، ويتلخَّص في عدم القدرة على تنظيم القلق الوجودي الذي يحاصر الجميع، فالكل يدفع ضريبة الجبر الاختياري .. علوان، ودمتري، ومايا، ايزابيلا، ونادر.. لكن بهلول الروبوتي، هو الوحيد المتصالح مع نفسه فتأمل !
كعادته يُحاصر المؤلف لغته برشاقة أُسلوبية لا تخفى، ويسبك سرديته ضمن دراما حكائية تُماهي المونولوج بالديالوج، وترفرف بأجنحة البيان والبديع، في سماوات الوصف والالتقاطات اللماحة، وقدر كبير من الإحالات المفتوحة على التخييل والتأويل معاً.
لا يخفي المؤلف موقفه الخاص من سلسلة من الشواهد والمشاهد على طريقة ” التغريب ” الفني، لكنه أيضاً، وبنفس القدر يحافظ على المسافة النبيلة بين المؤلف والسرد، فيحقق بذلك شرطاً جوهرياً من شروط السرد الحميد.
د. عمر عبدالعزيز