المشهد البصريّ الميتافيزيقيّ في الرواية

حبيب عبدالرب سروري

(ورقة مقدّمة لملتقى الرواية العربية،

محور: الرواية العربية والخطاب البصري.

موسم أصيلة الثقافي الدولي ٤٤)

الكونُ (كما نراه) وهمٌ انطباعيٌّ بَصريٌّ غالبًا كما يعرف الجميع، أسيرُ لعبة المظاهر، ابن أخطاء رؤيةِ الحواس وتقديراتها؛ أعينُنا غائرةٌ في محاجرها، مجالُها المرئيّ قاصرٌ مشوّشٌ ومحدود، لا نرى أنفسَنا عندما نرى الآخر؛ يسيلُ الماضي بين أصابعِنا، وننساهُ غالبًا حال عبورِه. لذلك رؤيتُنا اليوميّة مغلوطة، ضيّقةٌ جدًّا غالبًا.

وحدهُ الفنّ، والروايةُ على وجهِ الخصوص، من يمتلكُ عدساتٍ في السقف والظهر والأرجل وداخل تلافيف الدماغ، من يرى اللامرئيّ، ويصغي للأحاسيس الدفينة، من يُسيطر على المشهدِ بكاملِه، يُخَلِّده.

لكلِّ ذلك يقول بروست: «الفنّ هو الحياة الحقيقيّة».

ولذلك نقول جميعًا أحيانًا، عندما نشاهدُ ما يعصف بنا، ويؤثِّر علينا في يوميات الحياة الواقعيّة، أو عندما نسمعُ سردًا مدهشًا، يُحكَى بلغةٍ آسرةٍ تتجاوز المألوف، وتنيرُ الأزقّة الغامضة في الروح البشريّة: «كأنّنا نشاهد فيلمًا، أو نقرأ رواية!».

للرواية، في الواقع، ملَكةٌ جوهريّة تجعلها من أهمّ النشاطات الإبداعية الإنسانية: التخييل.

«الخيال أهمّ من المعرفة»، يقول أينشتاين. وبفضل ماكينة التخييل الجبّارة لا تتّسع الرواية لكلِّ الحياة البشريّة الواقعيّة أو التخيلية الممكنةِ فقط، بل لأكثر منهما، وبما لا حدّ له.

وجليٌّ أن الحدث الروائي الذي تصنعه ماكينة التخييل يمكن سردُه في الرواية كوصفٍ، أو كمشهدٍ بصريّ.

لا يوجد نموذجٌ فقهيٌّ فيها للتفضيل بينهما في تقديري. لا ديكتاتوريّة سيادةِ المشهد على التأمّلِ والوصف (أو ما يُرمز له بِـ : Show, Don’t Tell)، ولا ديكتاتوريّة التفضيل المعاكس أيضًا.

الأهمّ دومًا: التفنّن في هندسة الحبك والسرد والجذب والإدهاش؛ روحُ الشِّعر التي تدبُّ في النصّ؛ التوازنُ بين التقنيات الروائيّة؛ حرّيةُ التخييل والتجريب والتجديد والابتكار والسخرية والمرح؛ نسماتُ التأمّل والأفكار والفلسفة التي تُغذّي النصّ، تسمو به، وتضُخُّه بفيتامينات الدروس والعِبر؛ فنُّ صياغة التفاصيل الصغيرة؛ الدمجُ العميق بين الأسلوب والمضمون، عكسُ الأسلوبِ وقِيَمِهِ الجماليّة (في اللغة والبلاغة والإيقاع) لأحاسيسِ المضمون ومواضيعه، لمدلولِ النصّ، لأنّالأسلوبَ «جلدُ الرواية، ينتمي بيولوجيًّا لها، مثله مثل أحشائها» كما قالت إيلزا تريولي.

المشهدُ البصريّ أشبهُ بفيلمٍ يتمّ تصويرُه بعدسةِ سينما متحرِّكة في أثناء السرد. يمكنُ تخيّلُهُ كما لو كان يُعرَض على شاشة، وإن باستطاعتِهِ أن يتجاوز مقدِرات العدسات، ويذهبَ أبعد وأعمق؛ وأن يفتح الأبواب المغلقة، ويكشفَ ما وراء المشهد.

يستطيع أيضًا أن يتحوّلَ إلى مشْهدٍ ميتافيزيقيٍّ، إذا جاز القول: لا يكتفي بالتقاط الحدث، لكن بتقديمِه بطريقةٍ فنّيّةٍ مبدعة تكشفُ ما وراءه من أسباب خفيّة، على نحوٍ قادرٍ على التأثير فيالمُشاهِد، وتغييرِ سلوكِه أو قلبِهِ كلّيّة.

للمشهد البصريّ الميتافيزيقيّ وسائلُه الكاشفة الذكيّة الخاصّة التي تجعلُ البصرَ يقود البصيرة، عندما يُجيد التقاطَ اللامرئيّ، التأمّلَ في التفاصيل الصغيرة وتجسيمَ ما يختفي في دهاليزها الخفيّة، والتغلغلَ في عصبونات الدماغ والتأثيرَ فيها…

لِسردِ الوصف أو المشهد الميتافيزيقيّ معا وسائلُ ومهارات متنوِّعة، فنّيّةٌ دقيقةٌ غالبًا: تَعَدُّدُ الرؤيات بعدساتٍ مختلفة؛ تبئير الصورة حول إنسان؛ التماهي مع الآخر المختلِف في أيّ مكان في العالم، عند الوصف، والتوحّد الوجداني وإيّاه؛ جودة اختيار وعرض التفاصيل الصغيرة (هي مربط الإيحاءِ غالبًا) في الوصفِ أو عند صناعةِ المشهد؛ البحثُ المثابر والصعب عن الكلمات الأنسب عند سرد الوصف أو المشهد، لإخراج الخفيّ في اللغز الإنساني الذي لا نستطيع التعبير عنه.

الحوار جزءٌ لا يتجزّأ من المشهدِ عمومًا، أو شذراتُ استشهاداتٍ تتخلّلُ الوصف. صياغتُه، عند الضرورة، مفيدة ومهمّةٌ جدًّا لمصداقية السرد، ولإجلاء المشهد، وحميميّة الحدث.

أمّا الحوار لأجل الحوار، أو الحوار الذي يدور في فراغ، فمُمِلٌّ جدًّا.

انتقل الآن إلى شهادتين من أعمالي الروائيّة لإجلاء بعض المشاهد البصريّة الميتافيزيقيّة فيها.

١) ثقب المحراب

كمثلٍ على مشهدَين بصريّين ميتافيزيقيّين، مقطع من روايتي «وحي» (دار الساقي، ٢٠١٨)،يكشف ما وراء الحدث، ويُغيّر رؤيا الراوي وشخصيّته.

الراوي، في هذا المقطع، ما زال يعيش في قرية ولادته «طور الرعد» التي يقع في مركزها جامعٌ يأتي لزيارتهِ أحيانًا الشيخ الصوفيّ الكبير نورالدين الذي «يتحدّث بالسيريانيّة مع الملائكة»، كما يقول عنه أهل القرية.

طفولةُ الراوي مهووسةٌ بهذه المسلّمة التي يُردِّدُها سكّانُ القرية الذين يعيشون بانتظار مجيء الشيخ نور الدين لزيارة قريتهم، ويتكدّسون في المسجد عندما يصلهم من ثنيّات الجبال البعيدة.

المقطع المختار يسرد مشهدين بصريّين سيغيّران حياة الرواي كليّةً.

المشهد الأوّل:

[ثمّ تذكّرتُ أنّ للمحراب بابًا خشبيًّا صغيرًا جدًّا، يؤدّي إلى خارج الجامع، مغلقاً بقفل صدئ لم ينفتح منذ عرفتُ نفسي. وبقرب القفل ثقبٌ صغير، حفَرَه بمسمار صلب، ذات يوم، صديقٌ مشاكسٌ لم يعد يعيش في قريتنا، يسمحُ الثقبُ، من خارج الجامع، برؤية ما تيسّر من المحراب.

حفَرَهُ لـِ «مراقبة أشياء خطيرة تحْدثُ في كواليس المحراب»، كما قال صديقنا المشاكس يومًا.

لعلّي لم أصوِّب نظري من ذلك الثقب، نحو مركز المحراب، منذ سنين، ولا أظنّ أنّ أحدًا رأى ذلك الثقب، أو خطر بباله التلصّص عبره على محراب جامعنا المتواضع، عدا صديقنا المغوار الذي لم يعد في طور الرعد.

بعد أن فقدتُ الأمل بالاقتراب من الشيخ نور الدين، وتفحُّصِ قسماته، والتبرّك بالنظر إليه، واستنشاقه والإصغاء إليه وهو يتحدّث بلغة الملائكة، أو حتّى رؤيته عن بعد، تركتُ مدخل الجامع.

درتُ خارجه نحو الباب الخلفيّ الملتصق بالمحراب، لأقرفص أمامه، لأضع عيني على الثقب، وأرى ما أستطيع إليه سبيلًا.

حدثَ شيءٌ فظيع وأنا أشاهد بأمّ عينيّ ما يدور أمامي، سيكون له أثر حاسمٌ فيّ، حتى لا أقول: سيغيّر اتجاه بوصلة حياتي.

الرجل المضطجع على أرض المحراب لم يُثِر في ناظري أدنى انطباعِ تعظيمٍ أو إعجاب، اللهمّ إلّا قليلًا من الشفقة والتعاطف، بعد ثوانٍ قليلة من التمعّن فيه.

 لم أره كاملًا في الحقيقة، جزءٌ جانبيٌّ من وجهه لا غير. بدا الشيخ منه بسيطًا جدًّا، نحيفًا، رثّ الثياب، أشيب اللحية، شبهَ مريض، لا يتمتم بين حينٍ وحين إلّا بسلسلة من أحرف العلّة (أهذه لغة الملائكة؟) بين نفسه ونفسه.

عيناه زائغتان، لا يبدو غير بياض إحداهما، وهو يتماوج على نحو مقلق.

رثيتُه، لا أكثر ولا أقلّ.

ما أثارني فعلًا هو ما يفعله إمام الجامع وسفينته الفضائية عبد القهّار: يقترب الإمام ومعه ابنه، من وجه الشيخ، يهمس له بتمتمات لا أظنّ أنّ لها دلالة ما، ثمّ يتظاهر بالإصغاء لما يقوله الشيخ (لا يقول هذا شيئًا، وأنا أراقب ذلك المشهد المسرحيّ من خلف الثقب، على بعد متر ونيف فقط).

ثمّ يتوجّه الإمام نحو الحشد وهو ينقل لهم بصوت خاشع ما قاله حضرتُه (أو ما لم يقله قطّ على الأحرى): أدعيةٌ تقليديّة، أبياتُ شعر مكسّرة ركيكة، ذات خللٍ إيقاعي خطير، من تأليف إمام المسجد نفسه، الذي لم يستوعب بعدُ قوانين أوزانِ الشعر ونظام تركيب القوافي!

يبكي الإمام خشوعًا وهو يردّد أبياته التي ينسبها إلى الشيخ الصامت، وتبكي الجموع من عظمة هذه اللحظات وقدسيتها، والتي تربط قريتنا الضائعة بين جبال الحواشب بالملائكة وعلّيّين وحَسُنَ أولئك رفيقًا! ويبكي الخليل الفراهيدي وسيبويه لانتهاك بحور الشِّعر وقواعد النحو على يد إمامنا الجليل، بكلِّ هذه البساطة!

كلّ هذه المسرحيّة تدور أمام عينيّ على نحوٍ يصعب تصديقه، أتابع تفاصيلها منذ أكثر من ربع ساعة، الشيخ مدوِّخٌ في عالَمه، مريضٌ ربما أو نصف مجنون، أشهدُ أنّه لا يقول شيئًا ذا معنى، عدا تمتمات بين حين وحين كلّها أحرُف عِلّة، إن لم يكن صامتًا كلّ الوقت.

والإمام في ذهاب وإياب، بينه وبين الجموع التي تُسبِّح وتدعو وتبكي وهي تصغي إلى ما يقوله الشيخ عبر رسولِهِ الذي يعرف كيف يشعلُ أحاسيسها الدينية بعبارات تقليدية من خطب جمعاته، وبتضرّعات يتقطّع لها نياط قلوب الحاضرين، وبأبيات شعر صوفي لا يفهم منه الحاضرون شيئًا، ولا يلاحظون أنّه مركّب بالخطأ، غير موزون بدقّة.

كلّ هذه المسرحيّة تدور خلف الباب أمامي.

تركتُ الثقب، ذهبتُ نحو الحقل الصغير المجاور، قرفصتُ تحت شجرة الدوم[1]، أضحك أو أبكي، لا أدري.

انكسر شيءٌ ما في أعماقي يومها، انكسر إلى الأبد.]

المشهد الثاني:

[بعد خمس دقائق تقريبًا، تذكّرتُ أنّ هناك ثقبًا آخر صغيرًا موجودًا في أعلى قبّة المسجد! دهمتني رغبةٌ في تسلّق القبّة لرؤية الشيخ كاملًا من الأعلى، وليس جانبيًّا كما كنت أراه.

همّي ليس مشاهدة مسرحيّة إمام المسجد وابنه الأثير التي بدأت تثير غيظي وأعصابي قليلًا، لأنّها فعلًا كذبة وقحة بحجم السماء، لكن لأنّ في نظرات هذا الشيخ المريض ما يثير تعاطفي وشفقتي وحبّ استطلاعاتي.

صعدتُ فوق ضريح الجامع، وتسلّقتُ الماسورة المجاورة لباب المحراب المثقوب ذي القفل الأغبر باتجاه قمّة القُبّة.

لم يرني أحد، لأنّ كلّ الناس متكدِّسون في الجهة الأخرى من الجامع، داخله أو محتشدون قرب بابه الرئيسي.

التصقتُ بعلياء القبّة، واضعًا عيني في الثقب، لأحملقَ عموديًّا باتجاه الشيخ المسكين، المنبطح وسط المحراب، أسفلي تمامًا، ولأستكمل رؤيتي الجانبيّة له، من ثقب باب المحراب قبل قليل.

أرى كإلهٍ ما لا يراه الآخرون، رؤيةٌ حيّةٌ مباشرةٌ كلّيّة، جانبيّةٌ وعموديّة، «ستغيِّر اتجاه بوصلة حياتي كليّة» فعلًا.

أغمسُ بفضلها يديّ في أمعاء الحقيقة دون وسيط، أتغلغلُ في مساماتها، في تلافيفها، في شُعيراتها الدمويّة، في نخاعها الشوكيّ…

كلّ ما عدا ما أراه الآن، من هذا الثقب، محض تضليلٍ مزيّفٍ كاذب، مثل كلِّ ما نعتقد أنّها حقائق مطْلَقة، في حين أنّها «لا أشياء صغيرة»، وفق تعبير شكسبير.

كنت أرى الشيخ الجليل كاملًا هذه المرّة، لم يعد يُهمّني إطلاقًا منظرُ ذهاب إمام الجامع وإيابه، برفقة كتكوتهِ عبد القهّار، ولعبهِ دور جسر الوساطة بين الشيخ الأعظم وبين مريديهِ وعشّاقه، ولا منظرُ سياج فريق الحواريين الحرّاس المسطولين الذين يحيطون بالشيخ، ويعيشون فقط من هبات أهالي القرى الذين ينتظرون وصولَه، هنا وهناك في كلِّ أرجاء اليمن، كي يسردوا في حضرتهِ وابلًا من الدعوات الدينيّة بالرزق والفرج والعافية، ليُعمِّدها ببركاتِه، ويكرمها بهطول مددِه وأمطارِه، ويضمن استجابة الله لها!

ما كان يجذبني بشدّة هو التحديقُ بالشيخ لا غير. شَفَطَني نحوه شيء ما وأنا أراه غارقًا في نشوةٍ حقيقيّة، مثلَ مُخدّرٍ أو محلِّقٍ في عالَمٍ بعيد.

لم يكن ينظر نحو الإمام الذي يروح ويجيء إليه، بل لم يعره أدنى اهتمام. كان الشيخ كمَن يسافر، ويهيم في فراغٍ ما، مفعمٍ بعوالم خياليّة لا نراها، من يدري!

كان مندمجًا في عالمِه التخييليّ، يتأمّل في أبعاد فضائيّة خفيّة، كما يبدو من حركة عينيه الزائغتين وقسماته المُمغنَطة.

أبهرني، وأسَرَني ذلك التأمّل بشيءٍ مجهولٍ حدّ الالتصاق كلّيًّا به، بل حدّ الاندماج العضوي الذي يوحِّد بين الحسِّ والمادّة (كما يقول النحّاتون وهم يتفاوضون مع طرفي هذه المعادلة)، بين الفكرة والكلمات، بين المتأمِّل والمتأمَّل، و «الذي يجعل كلَّ الأنهار مقدَّسةً مثل نهر الغانج، ويُحوِّل كلَّ عبارةٍ آيةً إلهيّة» كما يقول حكيمٌ هنديّ.

غرقتُ في نظرات الشيخ التي تبدو كما لو تخترق كرةً كريستاليةً ما، أصغيتُ إلى الأصوات التي تضجّ في سراديب صمته، أبحرتُ بعيدًا على إيقاع وحركاتِ عينيهِ وأصابعه. شعرتُ رويدًا رويدًا أنّ هناك ثقبًا لا مرئيًّا يمكن النظر منه إلى قارّة لا نهايةَ لفضائها: قارة الخيال واللاوعي والخروج عن النصّ.

تساءلتُ بعد ذلك اليوم وبعد سنين من هذا الحادث: في أيّ عالَمٍ كان الشيخ يطوف، ويتسكّع خلال تأمّله العجيب؟

أهذا هو الجنون الخالص، أم «عِلْم الباطن» الذي يسمح بالقبض على تلافيف كبد الآلهة؟

إلى مَن كان يوجِّه تلك الابتسامات العميقة الراقصة على محيّاه، بين حين وحين؟

لم أجد جوابًا، لكنّني هندستُ جوابي كما أشتهي، بعد سنين طويلة من حادث الجامع، وبعد أن تعلّمتُ فنّ صناعة عوالمي التخييليّة، أنا وحدي:

كان الشيخ شابًّا يسبح في لجّ بحيرة ناصعة الزرقة، تحت سماء بسبع شموس. الفجر مشتعل الألق، ضياءٌ ربيعيٌّ يبرعم في السماء، في طرف البحيرة أفقٌ أرجوانيّ، ومليون عصفورٍ ذهبيٍّ قادم نحو طرفها الآخر، حيث تفترش غابة من الأشجار ذات الألوان التي لا تشبه ألوان أشجار الأرض: بيضاء، حمراء، فضّيّة، بنفسجيّة، زرقاء، ياقوتيّة، زيتونيّة، زمرديّة، برتقاليّة، نحاسيّة، عسليّة، رماديّة…

ورودٌ مرجانيّة، حمراء، كحليّة، ذهبيّة، بيضاء، فيروزيّة، صفراء، زرقاء، ليمونيّة، خردليّة، قرمزيّة…

تسبح بجوار الشابّ معشوقتهُ التي أسميتها: ابنة الماء والنار، جمالُها جذوةُ ذلك الفضاء الساحر، وهجُه، موسيقاه.

حول الغابةِ جبالٌ بألف لون، يتخلّلها ألف شلّال، تقترب منها أسراب ملايين العصافير الملوّنة الساحرة القادمة من الأفق.

سيمفونيّة لدنيّةٌ تملأ الفضاء.

أطلقتُ على ذلك العالَم اسم «مايا»، أي «الوهم»، بالسنسكريتيّة، أو بمدلولٍ سنسكريتيٍّ مرادفٍ آخر «قوة الخلق السحريّة».

لعلّي لذلك لم أكفّ عن محاولة تخيّل هذا العالم العجيب، وعن تشييده يومًا بعد يوم منذ ذلك الزمن.

صرتُ مثل إشفارا، وهو يقول: «خلقتُ الكونَ من القوة السحريّة للوهم».

أيْ نَعم، عزيزي وحي:

لا يمكنك أن تتصوّر وتدرك كم غيّر حياتي يومُ حادث جامع العيدروس، غمستُ يديّ خلاله في كبد الحقيقة بفضل الثقبين العظيمين.

وتعلّمتُ بفضله كيف أخلق الكون كإله، من القوّة السحريّة للوهم!]

2)   هديّة عيد الميلاد

أضرب مثالًا هنا لِمشهدٍ بصريٍّ ومشهدٍ ميتافيزيقيٍّ مرتبطٍ به، من روايتي الجديدة «نُزوح» (دار الساقي، يناير ٢٠٢٤).

المشهد البصريّ متعلِّقٌ هنا بوصول فيديو صغير من رائد الفضاء جلال لِرفيقتهِ خولة، كهديةِ عيد ميلاد، فيه أجملُ صورِها طوال الأشهر الستّة الأولى من حياة مركبتهم الفضائيّة التي ستدوم رحلتها سنتين.

لكنّه يحتوي على «لُغمين» صغيرين: مقطعان سرّبهما جلال في الفيديو، من يوميّات حياة المركبة التي التقطها، كفيلان بفتح عينيها على ما حاولت إنكاره طوال الستة الأشهر!

الراوي، المشرف الأرضيّ على رحلة المركبة، يتابع كلّ ذلك من شاشته:

[ثمّ بعد أكثر من تسع دقائق من ذلك، وصلَها من جارِها إيميل بعنوان: «ذي بيست أوف The best of خولة» يحمل فيديو مُدّتُهُ دقائق ثلاث، وكلمتَي تهنئةٍ مرتبِكةٍ حميمة.

لم تتأخّر خولةُ عن فتح الفيديو لمشاهدتِه مرّة، مرّتين، ثلاث… جُهدٌ في الإخراجِ والانتقاء مثابرٌ طويل.

أسعدَها كثيرًا هذا التصميمُ المهنيُّ العاشق، هذه الاختيارات التي لا يمكن أن يدمجَها بأصابعِ روحه إلّا فنانٌ ماهر. تبدو في كلِّ ذلك إلهيّةً بكلِّ ما في الكلمة من معنى.

ثمّ ركّزتْ على اللُّغمَين المدسوسَين قرب نهاية الفيديو، بين لحظات حواراتٍ وجدَلٍ بينها ومجموع رفاقها. أعادتْ رؤيتَهما عدّة مرات، بأعين ثاقبةٍ بدأتْ تغشاها، رويدًا رويدًا، بعضُ دموع.

ألاحظُ أنّ الدموع تُحرقُ العينين، بعيدًا عن الجاذبيّة الأرضية، لأنّها لا تسيلُ منهما. يُمنعُ مبدئيًّا البكاءُ في المركبات الفضائيّة، إلّا إذا غادرتِ الدموعُ العينين بكمّيات كبيرة، ويمكن دفعُها بأطراف الأصابع، لتتعلّقَ مثل كراتٍ في الهواء أمام الوجه.

شعرَتْ أنّها ستنفجرُ بكاءً قد يزعجُ جارَيْها، جلال ومانيارا، وهما في غرفتَيهِما نائمَان، أو على وشك النوم. تريد أن تصرخَ…

انسحبتْ بهدوءٍ تحملُ كمبيوترها، فتحتْ بوّابةَ غرفتها، اندلقتْ منها، وطارت باتجاه مختبراتِ الدور الثالث.

لعلّ جلال شعرَ بمغادرَتِها الغرفة. ها هو يعضّ شفتَهُ السفلى في غرفتِه، يرتجف، يخشى حدثًا تراجيديًّا يدمِّر يوم الفرح بِعِيد الميلاد.

أعادت خولة، في المختبر، النظرَ في اللحظتين المدسوستين فقط، لتُدركَ فعلًا أنّها كانت تعيش أشهرًا من الإنكار والوَهم.

انفجرتْ بكاءً. أراقبُ، من مكتبي وجهَها على الشاشة الخاصّة، المرتبطةِ بما يدور في مختبرات المركبة. وجهُها يملأ معظم الشاشة. تعيدُ رؤيةَ مقطَعي اللحظتين وحدَهما فقط عدّة مرات.

تُوقِّفُ الفيديو عند صورةٍ لرفيقَيها، في طرف اللحظةِ الأولى، وتوقِّفهُ مرةً أخرى في صورةٍ أخرى لهما وسط مقطعِ اللحظة الثانية.

تنسخُ الصورتين في ملفّين منفصِلَينِ عن الفيديو، تتمعّنُ بالصورتين جليًّا وقتًا طويلًا، تستعيدهما مرّات ومرّات.

تحاولُ بصعوبة ألّا يسمع نشيجَ بكائها أحدٌ. عيناها جاحظتان حزينتان، غارقتان بدموعٍ تحاول تجفيفَها على الدوام، ولعقَها سريعًا، خوفًا من أن تظلّ مُعلَّقةً في هواءِ المركبةِ المعقّم، أو أن تفسدَهُ بأيّ مكروباتٍ أو جسيماتٍ بيولوجيّةٍ ميكروسكوبيّة.

جلال في غرفتِهِ يقرأ آيات الكرسي.]

حبل سرّةٍ لا مرئيّ

ماذا يحوي هذا الفيديو، وماذا يوجد في المقطعين؟ مَشاهدُ منتقاةٌ من يوميّات حياة المركبة، تفاصيل صغيرةٌ منتقاةٌ بعبقريّة، تُغيّر الرؤيا كلّيّة، تكشف الخفيّ، وتقلبُ مجرى الأحداث القادمة.

الراوي الذي يُراقب كلّ ذلك من مكتبهِ الأرضيّ، يصف هذه اللحظات المفصليّة:

[ألاحظُ وأنا أراقب هذه اللحظات التراجيديّة الانقلابيّة الكاشفة: الحقائق والأسرار الكبرى تختفي غالبًا في التفاصيل!

لو رأى المرء، في المرايا، الأقنعةَ التي تحجبُ عنه بعض تفاصيل أيّامهِ الخفيّة، ولو شاهد نفسَه ومَن حوله فيها، وأدركَ ما وراء المشهد، لسقطَ عنه الوهم مبكّرًا، ولما أضاع حياتَه عبثًا…

أمّا إذا شاهد كلَّ ذلك في فيلمٍ صغيرٍ مكثّف (لا يبحث مخرجُهُ عن تقديم الحقيقةِ فظّةً جليّةً فقط، لكن عن شدِّ مشاعرِ المُشاهِد وربطِ بصرهِ ببصيرتِه، وتحريكِ تفكيرِه وتأمّلاتهِ لإدراكِ الظاهرِ والباطن وما وراءهما، كما فعل جلال)، فالتصويرُ يرقى لمستوى الفنِّ الميتافيزيقيّ الأعلى.

ثمّة، في الحقيقة، فنٌّ ميتافيزيقيٌّ في فيديو جلال، في تصويبِ عدستِهِ التي تجيد اختيار أدقِّ التفاصيل، وفي التقاطهِ وجهَي سباسكي وفيشر، مع التركيز على عينَيهِما، بريقِهما، شفراتِ علاقتهما… ومع وضعِهما معًا، في بؤرةِ العدسة، ملءَ الشاشة، ذات لحظةٍ ما، وهما مندمِجَان روحيًّا في أوجِ السعادة.

يبدو منهما وكأنّ هناك حبلَ سرّةٍ لا مرئيّ، يربطُ، بيولوجيًّا، طرفَ أنفِ سباسكي بطرفِ أنفِ فيشر، ويوحِّدُ اتجاهَ نظراتِهما وحركاتِهما وسكناتِهما.

هي تبكي، وأنا أبكي في مكتبي في الأرخبيل. ثمّة شيءٌ غيرُ طبيعيٍّ في حياتَينا، نقصٌ جوهريّ، خطأٌ جذريّ، لا تفهمُ ما يدور في حياتها، ولا أفهم ما يدور في حياتي.

وثالثُنا، في متاهاتِ هذا المشهد، جارُ خولة الذي تتسارعُ خفقاتُ قلبهِ وهو يُحاول النوم، مُستعيدًا ترتيلَ آيات الكرسي مرّةً وراء مرة.]


[1] الكرز.