المسرح لمقاومة خراب العالم!
حبيب سروري
“من لم يحضر يوما مهرجانَ المسرح الدولي في أفينيون، لا يمكنه أن يتخيّله!”، قالت شيخةٌ مسنّة في إحدى ندوات “معامل الفكر” التي تستمرّ طوال أسابيع المهرجانِ الثلاثة، كلَّ صباح.
مهرجانُ أفينيون حدثٌ سنوي واحدٌ أحد. ليس فقط بفضل عددِ المسرحيات التي تُعرض فيه: أكثر من 1400 مسرحية في هذا العام (عندما بدأتُ الانتظام في حضوره السنوي، قبل 15 عاما، كانت 950 مسرحية)، وعدد مواز مدهش من ندوات “معامل الفكر” اليومية، ومن النشاطات الثقافية والفنية والفكرية عموما، في مدينةٍ تاريخية طوباوية أشبه بحلم؛
لكن، وعلى نحو خاص، بفضل نوعيته الفريدة الوحيدة، كصوتٍ سنويٍّ مهيبٍ يقاوم، بأدوات الفن والثقافة والفكر والتربية، خرابَ هذا العالَم الذي صار شعاره اليوم: “لا صوت يعلو فوق صوت قوى المال وديكتاتوريتها”.
من لم يلاحظ أن عالمَنا اليوم صار “سوبر ماركت” بحجم كوكبنا الأزرق. آلهتُه: البورصاتُ والأسواق المالية التي ابتلعت الأنظمةَ السياسية وحوّلتها إلى دمى تقودها كما تشاء.
ابتلعت كل شيء في الحقيقة، بما فيه الرياضة: حوّلتْ لاعبيها إلى سلعٍ اقتصادية وعبيدٍ (بأسعار خيالية) تبيعهم وتشتريهم كما تُقرِّر هي وحدها. ورفعت ثمن تذاكر بعض المباريات ليفوق ثمن تذاكر المسارح والأوبرا!…
قبل افتراس قوى المال لمختلف حقول نشاطات الإنسان، كانت قد رسّخت الإيمان الجمعي بأنه لا بديل لها، ولليبراليتها الاقتصادية التي أضحت دِين كل العالم، بسبب العولمة المالية والاقتصادية.
فهي، كما أرست في أذهان الجميع: نهايةُ التاريخ.
لا بديل لها إلا المزيد منها فقط. أي: لا بديل لها إلا الليبرالية المتوحشة لا غير!
“كلا، ثمّة بديل!” يردّ المهرجان: الثقافة والفن والمسرح الذي يُربّي الإنسان ويحوِّله. ويجعلهُ يرفض أنانية صُنّاع الأزمات الماليات، وقاهري الضعفاء والشعوب الفقيرة، والمهووسين بالعنف والطغيان، ومرضى الهويات القاتلة؛ والذي يفتح آفاقا واعدة لممكنٍ جديدٍ للأجيال القادمة.
المسرح الذي يسمو بالإنسان عاليا في فضاء الحرية والحلم الإنساني، ويعلِّمه فن العودة لِدراسة التاريخ بغية صناعة المستقبل، بروحٍ إنسانية تقدّمية…
مهرجان أفينيون، الذي أسّسه في البدء فنّانون كبار، يساريون وشيوعيون أساسا، ظلّ وفيا لهذه الروح المقاومةِ لاحتكار الثقافة من قبل الارستقراطية (كانت فكرته الأولى، قبل 72 سنة، تحويل المسرح من فنٍّ للنخبة الباريسية، إلى فنٍّ شعبيٍّ للجميع، ينطلق بعيدا عن العاصمة).
ثم تطوّرَ، دون توقف، ليصير: مكّةَ الثقافة والجدل والفلسفة والحوار اليومي، طوال حوالي شهر.
مهرجانٌ يفتح أحضانه لكل فنون المسرح ولأهم عروضه الدولية. يحافظ على نفس الروح الأصيلة الأولى التي تبحث عما سَمّاها كِتاب مهرجان هذا العام: “الطاقة الإيجابية” التي “تعْطف الخطّ البياني للزمن، وترفض توريث الشقاء للأجيال القادمة”.
تماما مثل طاقة مراكز “الثقوب السوداء” في الفيزياء: مصدر قوة مجهولة قادرة على إيقاف الزمن!
أو لأُضِفْ: يلعب دور “عين الإعصار”: مركزه الهادئ الذي تدور حوله الاضطرابات ولا يتأثر بحركتها.
أي: العين التي تراها من منظور كليّ هادئ مستقّل.
كذلك كان مهرجان عام 2018: لا توجد قضية صغيرة أو كبيرة من قضايا عصرنا لم تقف أمامها مسرحية من مسارح المهرجان بروح نقدية حرّة، وبثقب نظرِ عين الإعصار، وبطاقةٍ إيجابية تبثّ في المشاهد أسئلة وجدلا ورغبات وإرادة.
العدد طويلٌ يحتاج لعشرات المقالات. ثمّة مسرحيات وأعمال فنيّة بديعة تناولت الأزمات البيئية، الرقابة التجسسية على الإنسان، قهر الأقليات في الشرق الأوسط، الثورات المغدورة، الطبيعة الإنسانية، مفهوم العائلة ومستقبله…
اللافت: بعض المسرحيات أدّاها سجناء تمّ تأهيلهم خلال سنوات، وأثاروا إعجاب المهرجان بشدّة. مثل مسرحية “أحمد يعود” التي كتبها الفيلسوف الماركسي آلان باديو (أحد نجوم المهرجان. يداوم على حضوره سنويا. وكان ضيف إحدى ندوات “معامل الفكر”).
أو تراجيدية “أنتيجون” لسوفوكل (القرن الخامس قبل الميلاد) التي تدور حول موضوعِ ضرورة عدم الانصياع للقانون غير الإنساني.
كما يعرف الجميع: ترفض انتيجون قرار الملك بعدم دفن جسد أخيها. “ليظلّ الإنسان إنسانا، مهما كانت فعائله”.
من أفضلُ من السجناء للدفاع عن هذه الفكرة؟!
الغوص في التاريخ ظلّ وسيظلّ مرتعا خصبا للمسرح: مسرحية “ميدوز” (“قنديل البحر”: اسم سفينةٍ غرقت قرب السنغال، في القرن التاسع عشر) تناولت التاريخ الاستعماري.
غرقُ السفينة تحوّل إلى قصيدةٍ شعر بديعة مؤثرة، في قلب المسرحية، تتناول غرق العالم.
كذلك مسرحية “البعضُ لم ير البحر إطلاقا” تناولت، على نحوٍّ آسر حزين، هجرة اليابانيات إلى أمريكا في عشرينات القرن المنصرم، وما آلت إليه، داخل مسرح “كنيسة الكرملية” التي تحوّلت مثل كثير من كنائس أفينيون إلى مسارح.
لعلّ أكثر المسرحيات تناغما مع محور مهرجان هذا العام: ثلاثية “حاضرٌ نقي” لمدير المهرجان، الكاتب المسرحي أوليفيي بي.
مثل الثلاثيات المسرحية الإغريقية (التي كانت تعرض ثلاث مسرحيات متتالية تتحاور مع بعض وتتعاضد في الإجابة على مجموع تساؤلاتها) لأسخيلوس (صاحب مسرحية “المستجيرات” التي تناولناها في مقالنا السابق: “موسم عدم الهجرة إلى الشمال”، والذي اشتغل أوليفيي بي على مجموع أعماله المسرحية وأعاد كتابتها)، كتب أوليفيي بي ثلاثيته: “السجن”، “المال”، “القناع”، بروحٍ اسخيلوسية، تنسجم مع عصرنا الراهن: البورصة والأسواق المالية تحلّ محل آلهة الإغريق!
حافظ بي في ثلاثيته على الروح النضالية لأسخيلوس، كداعية للديمقراطية الإغريقية، وككاتب ذي طاقة إيجابية وتفاؤل مبدع، يسعى للتناغم بين الممكن والحلم.
موضوع ثلاثية بي: كيف تحيا في عالم إلههُ المال؟
كانت روح “الطاقة الإيجابية” حاضرة في كل معامل الفكر لهذا العام. لا سيّما في آخرها التي استضافت البروفيسور الفيلسوف ميشيل سير، عضو الأكاديمية الفرنسية، المتخصص بتاريخ العلوم، لِنقاش كتابِه (الذي كان موضوع مقال سابق لي في “ضفّة ثالثة”): “هل الحياة كانت سابقا أفضل من الآن؟”.
بالطبع، لم يقل الفيلسوف إننا نحيا في عالمٍ جيّد، ولم ينفِ مخاطر القادم لا سيّما البيئية، لكنه برهن في ندوته أن البشرية في كل المجالات: الطب، انخفاض العنف، النضال ضد الطغيان… تعيش زمنا أفضل بكثير من كل ما عاشته في كل تاريخها.
وليس لِمهرجان أفينيون، جذوة الطاقات الإيجابية، من هدف غير مواصلة المسيرة.