اللغة وطنٌ بلا حدود
حبيب سروري
ثمّة من يُعرِّف مفهومَ الوطن بأنه: أرض الأجداد، أو دولة الولادة، أو دولة الجواز، أو الدولة التي تختارُها لتحيا فيها سعيدا، وإن لا يربطها بالتعريفات الثلاثة السابقة رابط.
يتلخّص تعريف الوطن هنا بِمساحةٍ جغرافية، وحدودٍ جيوسياسية باركها عنوان كتاب ريجيس دوبريه: “في مديح الحدود” (ترجمَتهُ إلى العربية الأستاذة ديمة الشكر) وأثار جدلاً واسعاً:
يعتبرُ البعضُ تمجيدَ الحدود ارتماءً في أحضان الفكر اليميني المنغلق، وخيانةً للمبادئ الإنسانية الكونية المتمثلِّةِ بِكوكبٍ أزرق تتلاشى فيه الحدود بين الإنسان والإنسان. ويعتبره البعض الآخر أفضل حلٍّ للقضاء على الجدران الأسمنتية العازلة بين الدول، وتمكين الشعوب المقموعة من امتلاك أرضها وحقوقها المنهوبة.
بالنسبة لي، أرى أنّ كل تلك التعريفات لا تصلح لكلمة “وطن”، وإنما لكلمة “بلد”. أما كلمة “وطن” فهي بالنسبة لي: لا ماديّة، روحيّة خالصة، هوائية ساحرة، أُفَضِّلُ تعريفَها من وحي مقولة كامو “وطني اللغة الفرنسية”: “وطن المرء لغتُه”. فاللغة وعاء التفكير والثقافة والتاريخ والمشاعر. هي وطن الإنسان بامتياز…
تعريفٌ كهذا يتجاوز مفهوم الحدود، لأن كلَّ اللغات أخواتٌ في الرضاعة: لهنّ في خريطة عصبونات دماغ الإنسان، منذ ولادته، المناطقُ المخيّة نفسها التي يعشعش فيزيولوجيّاً فيها ما اسماه شومسكي “النحو التوليدي”: قواعد نحوية تنبثق منها كل اللغات الإنسانية. يفسِّر ذلك لماذا تتشكّلُ جميعها من العناصر نفسها: أفعال، أسماء، صفات…
بفضل هذا النحو التوليدي يتكيّف دماغ الطفل بعد الولادة، وخلال السنين الأولى من العمر، مع البناء اللغوي لِلّغة التي يسمعها في بيئته. وبفضله يستطيع أن يتعلم لغةَ أي شعبٍ كان، وإن لم تكن لغة أهلِهِ وذويه، بالطريقة نفسها التي يتعلّم بها لغة أمِّه.
لغاتُ البشر هكذا ألوانٌ لِقوس قزحٍ من أكثر من 5000 لغة، لها جميعاً بنية مشتركة. انسلّتْ جميعاً من مداميك نواة اللغة التي نشأت أثناء التطور البشري خلال ملايين السنين، كما شرحناه في مقالات سابقة، وتجذّرت أسلاكها في عصبونات الدماغ البشري.
لا تفصل هذه اللغات حدودٌ أو حواجز: بإمكان الإنسان أن ينتمي لأكثر من وطنٍ لغويٍّ في الوقت نفسه!
وطن اللغة ليس بمعزلٍ بالطبع عن تأثيرات أقطاب الاقتصاد والجغرافيا والسياسة والدين. تتجاذبه جميعها حسب مصالحها الحيويه.
لعلّ لذلك يرى المواطن الإنجليزي (الذي لا يميّز بين فيلمٍ بريطانيٍّ أو أمريكي عندما يضع فيلم الفيديو على كمبيوتره بعد العودة من العمل) أنه يميل لأمريكا، ذات الاقتصاد القوي، والذي يعيش معها في حضنٍ لغويٍّ مشترك؛ أكثر من ميله لأوربا، حضنه الجغرافي رغم ذلك.
ولذلك أيضاً تميل أستراليا لنموذج أمريكا أكثر من ميلها لنموذج بريطانيا، بلد أجدادها الإنجليز.
ولذلك أيضاً يعكس العداء الجيوسياسي بين الهند وباكستان نفسه على اللغتين الهندية والأوردية اللتين كانتا لغة واحدة تقريباً ـ قبل فصل الهند وباكستان ـ ذات أصولٍ سانسكريتية وفارسية مشتركة. يعكس نفسه اليوم بمزيدٍ من “سنكرةِ” اللغة الهندية التي تُستخدم في الهند، ومن “فورسة” اللغة الأوردية التي تستخدم في باكستان.
ولذلك أيضاً يلاحظ من يعرفُ مدينة ميتز الفرنسية (التي كانت في القرن الماضي سويسرية، ثم ألمانية، ثمّ فرنسية) أن شبابها اليوم لا يختلف عن شباب فرنسا بشيء: وطنهم اللغة الفرنسية، وإن يسمعون بعض أجدادهم أحيانا يتحدّثون بلغاتٍ أجنبية لا يفهمون منها كلمة.
وأخيراً، لذلك أيضاً لا تخلو البلدان ذات اللغات المحلية المتنوعة، لاسيّما عندما لا تعرقلُ السياسة تعايشَها وتطويرهَا المتناغم، من نزعات لحقوق تقرير المصير، للاستقلال الفيدرالي، للحروب الإثنية، ولمزيدٍ من الاستقلالية الجغرافية اللغوية…
المفارقة العربية المباركة هنا: رغم تشقِّق البلدان العربية وتبلقنها وتشظيها الراهن، لم يكن الوطن العربي، كوطنٍ لغوي، بالوحدةِ التي هو عليها اليوم، رغم الضعف الجذري للغة العربية في العالم الرقمي، الذي طالما أشارتْ مقالاتي لِدوافعه ومظاهره.
السبب: تبلور لغة عربية جديدة، تقع في منتصف الطريق بين اللغة العربية الفصحى التقليدية والعاميات المحلية.
يعود الفضل في ذلك للقنوات التلفزيونية العربية والصحف الحديثة التي يتجاوز اهتمامها البعدَ القُطري، ولِفضاءات الحوار والتفاعل الاجتماعي في الفضاء الرقمي والشبكات الاجتماعية، وللأدبِ الحديث الذي ينتشر اليوم بشكلٍ أسرع بفضل الفضاء الرقمي…
يبشر ذلك بخيرٍ ما، لأن لِلُغتنا العربية ملَكاتٌ تاريخية هائلة كونها كانت في القرون الوسطى، مثل الإغريقية قبل الميلاد، والإنجليزية والفرنسية في القرنين الأخيرين: لغةَ المعرفة الكونية الأولى حينذاك؛ وإن عانت من تحجُّرٍ وتجمُّدٍ دام قرون بعد ذلك. ثم هي لم تحمل على أكتافها فقط ثقافتنا العربية، لكنها اتّسعت آنذاك لثقافات مجاورة، وصانت ولقّحت وترجمت حينها كثيراً من تراث الإنسانية الثقافي والعلمي خلال قرون.
الحاجة لإصلاحاتٍ عميقةٍ لِلُغتنا ضرورةٌ قصوى اليوم، لتكون وطناً حديثاً، يسمح بتفكيرٍ عصريٍّ منفتحٍ على المعارف والعلوم وترجمات اللغات الأخرى وأدوات العالَم الرقمي. أي لِتكونَ وسيلةً للخروج من مأزقنا التاريخي. لأن ثمّة علاقة فيزيولوجية بين التفكير واللغة: اللغة العتيقة لا تنجب إلا تفكيراً عتيقاً وانتماءً لزمنٍ بائد.
قائمة الإصلاحات المرجوّة طويلةٌ طول مرض وطننا اللغوي. لن أكرر هنا قائمة الإصلاحات الرقميّة الجوهرية الضرورية لتدخل العربية العصر الرقمي من أوسع أبوابه: قارئٌ ضوئيٌّ للعربية، بنك لغة، وتقنيات بحث وترجمة آليةٍ مناسبة… وقائمة طويلة أخرى تحدّثتُ عنها في مقالات سابقة.
وإنّما أتحدّث هنا عن الإصلاحات البنيوية والمنهجية لها كوطنٍ لغويٍّ مندمجٍ بالعصر الحديث، وفي مقدمته: التجديد السنوّي لِقاموسها (كما تفعل كل اللغات المهمّة، وليس كل بضعة قرون كما هو حال لغتنا) وتحديثهِ ورفدهِ بجديد الكلمات والمصطلحات ليتّسع لتعقيد العصر الراهن، ويحول دون أن تتحوّل اللغة إلى رميمةٍ ميّتة.
فاللغةُ العربية التي لم تعد تُستخدم غالباً لكتابة المقالات العلميّة والمعرفية، غائبةٌ شبه كليّاً عن كتابة وتدريس المواد العلمية في الجامعات العربية، والمدارس الأولية أحيانا. ولذلك فغيابنا المعرفي والعلميّ مضمونٌ ما دامت العربية غائبة معرفيّاً وعلميّاً، ولم تعد من منظور الكثيرين إلا لغة الدين والأدب.
أتحدّث أيضاً عن الإصلاحات المرجوّة في قواعد كتابتها وقواعدها النحوية، لتستجيب لتطوّر الحياة بدلاً من أن تظلّ بنفس صيغتها الأحفورية العتيقة التي تجاوزها الدهر، والتي لا تستجيب إلا لمصالح المحافظين والظلاميين وحاجاتهم للحفاظ على لغةٍ لا تختلف عن لغة مواعظهم وطريقتهم في التفكير.
أتحدّث أيضاً عن الإصلاحات الضرورية لتقريب صيغتها الكتابية من صيغتها الشفوية، إذ تعاني حضرتُها اليوم من إزدواجٍ في الشخصيّة بين وضعها الكتابي والشفهي المتباعدَين أشدّ التباعد لأسبابٍ معروفةٍ عديدة:
كل من يكتب حواراً في روايةٍ عربيةٍ مثلاً، يجد نفسه مضطراً، بكلِّ أسفٍ وانزعاج، أن يتحدّث لغةً لا علاقة له تقريباً بِلغةِ الناس في الحديث اليومي!
أتحدّث عن سياسة قوميّة لِعلاج مرضٍ بالغ الخطورة تعيشه اللغة العربية: أنيميا الترجمة؛ وإصلاحات عديدة عاجلة جوهرية أخرى كثيرة تسمح للعربية بأن تنفض غبارها، وتكون وطناً حديثاً يحيى في الألفية الثالثة، مفتوحاً للآخر، وعلى الآخر…