العسل، ونبوءة آينشتاين

حبيب سروري

(نُشِرَ جزء منه في الملحق الثقافي للعربي الجديد)

في ١٣ مايو الماضي، كشفت جامعة ماريلاند الأمريكية في تقرير سنوي أرقاماً مخيفة عن مصيبةٍ كبرى: انقراض 42% من مستعمرات النحل في أمريكا، خلال العام الماضي. أعلن أوباما بعد ستة أيام خطّةً وطنيّة لتلافي ذلك. لحقتهُ فرنسا بإجراءت شبيهة…

احتمال انقراض النحل من المعمورة خبرٌ جدّ مريع، أشبه بِ “علامات الساعة”. إذ يعيد إلى الذهن نبوءةَ آينشتاين الشهيرة: “إذا اختفت النحل من سطح الأرض، فلن تعيش الإنسانية أكثر من ٤ سنين بعد ذلك: لا نحل، لا تلقيح، لا نبات، لا حيوانات، لا إنسان…”.

تحمل هذه العبارة قدراً كثيفاً من الاستشراف الموضوعي، وإن برهنَ باحثٌ في مجلة Gelf Magazine، درسَ كل إرشيف آينشتاين، أنها قيلت لأوّل مرّة في عام ١٩٩٤!

مريعٌ بشكلٍ خاص خبر انقراض النحل لمن اكتشف (ذات يوم، في رحلةٍ قديمةٍ إلى وادي دَوْعَن بحضرموت، قبل عقدين) “العسلَ الدَوْعَني” الحقيقي الشهير الذي تُنتِجه نحلٌ من سدرٍ لا تشوبه شائبة، في بيئةٍ طبيعية فريدة، قبل أن يدمن مذّاك بِهَوَس تناول هذا العسل الإلهي (وإن كان لسوءِ الحظِّ باهض السعر، شأنه شأن بيضات الكافيار، وكبدُ البطٍّ المسمّن: ثالوث الذِواقة الأروسطوقراطية العالمي في فن المائدة!).

مريعٌ انقراض النحل لمن دخل معها بعلاقةٍ صوفيّة، متعدِّدة الأبعاد والجوانب:

عندما يتابع صاحبنا هذا النشاطات العلمية في مجالات “الذكاء الجمعي”، في أبحاث علوم الكمبيوتر، التي تحاول محاكاة النحل في تكوين شبكات من كينونات برمجيّة (Agent)، كلّ فردٍ منها بدون ذكاءٍ يستحق الذكر، لكنها معاً تشكِّلُ منظومات معقّدة، شديدة الذكاء جبّارة القدرات.

إذ للنحلة دماغٌ حجمه مليمتر مكعب، لا يمتلك أكثر من مليون عصبون. لكن مجموع النحل في الخلية (50000) تشتغل بدماغٍ ألمَعِيّ، كل نحلةٍ عصبونٌ من شبكة عصبوناته. يُمَكِّن العملُ والتفاعلُ المشترك ذلك الدماغَ الجمعي من امتلاك مقدرات فريدة: تآزر، تكيّف، اتصال، تعلّم، استيعاب للبيئة المحيطة… يصعب سبرها في مقال.

فقد برهن مثلاً عالم الرياضيات كوينج، في ورقة علميّة سمحت له بدخول الأكاديمية الفرنسية في عام 1740، أن مورفولوجيا طبقات الشمع الذي يشيّده النحل، والأشكال السداسية لتجويفات خلاياها، تسمح بإيجاد الحل الرياضي الأمثل لهذه الإشكالية: كيف يمكن استخدام أقل كميّةٍ محدّدة من الشمع لبناء أكبر عدد من الخلايا المتشابهة والمتماثلة، في أصغر مساحة داخل الخليّة؟

شرح داروين في كتابه الشهير كيف أثّر “مبدأ التطوّر والانتقاء” في الوصول إلى كل ذلك الإبداع العبقري.

مريعٌ انقراض النحل لصاحبنا هذا الذي يدهشه الشكل الجديد لاقتصاد اليوم المستلهمِ من حياة النحل: “الاقتصاد التلقيحي”، وتداعياته على الحضارة الإنسانية.

فهذا النموذج الجديد الذي بدأ يكتسح الاقتصاد المعاصر مبنيٌّ على كون أهمية النحل تكمن في التلقيح الذي يفوق مردودُه (يعادل ١٥ مليار دولار سنويّاً في أمريكا) بكثير مردودَ انتاج العسلِ (أقلّ من مليار دولار).

يكفي رؤية نمودج اقتصاد غوغل على الإنترنت: بمجرد نقر المستخدم للموتور، يمتصُّ كالنحلة الرحيقَ المعلوماتي من الموتور، يستفيدُ منه، ويلقِّح الموتور بمعلوماتٍ مرتبطةٍ بحاجاته، اهتماماته وطبيعة شخصيّته.

هكذا، فالتلقيح استعارةُ النموذج الاقتصادي الجديد، فيما انتاج العسل استعارةُ النموذج القديم. نحن هنا أمام نمطٍ جديدٍ من اقتصادٍ تعاضدي، معرفي، يتكئ على مفهومَي: شبكة الشبكات الاجتماعية، والتلقيح الإنساني.

مريعٌ انقراض النحل بشكلٍ خاص لصاحبنا بعد أن قرأ مؤخراً كتاباً إنسكلوبيديّاً مدهشاً يسرد شغف الفلسفة والفكر الإنساني بالنحل، منذ مهد الفكر الإنساني: ” النحل (و ال) فيلسوف”، مايو ٢٠١٥، أوديل جاكوب، تأليف: الأخوين Tavoillot: أستاذٍ في الفلسفة في جامعة السربون عاشقٍ للنحل، ونحّالٍ عاشقٍ للفلسفة!

فمنه اكتشف صاحبُنا أن الإنسان، منذ أن صار يفكٍّر، أعجب بالنحل كما لم يعجب بكائنٍ حيٍّ آخر. رأى في نمط حياة خليّة النحل تكثيفاً لِحياة البشر: مجتمعٌ ينتج، يبني، يُحوِّل، يعالج، يدافع عن نفسه، يهاجر، يحارب… يتغذّى من رحيق الأزهار (غذاء الآلهة) ليفرز العسل: المنتوج الطبيعي الوحيد الذي لا يتخثّر أبداً، ولذلك استخدمه في تحنيط الملوك.

ثمّ النحل، كما يقول المؤلفان: الجسر الذي يؤالف بين المتضادات، وهو ينتقل من “الطبيعة” إلى “الثقافة”: يلدغ بشكلٍ مؤلم، ويفرز ألذّ غذاء!

فلِلنَّحل دورٌ جوهريٌّ في الميثولوجيا الإغريقية: من ناحيةٍ، لم يصبح كبير آلهة الأولمب، زوس، جبّاراً قادراً على منافسة وهزيمة والده كورنوس، إلا لأنه تغذّى في طفولته بالعسل، وخدَعهُ يوماً بوجبةٍ مغمورةٍ بالعسل!

ومن ناحيةٍ أخرى، نهاية “شهر العسل” بين الإلهة أورفيه وأوريديس كان بفعل “لدغة” إرستيه، رب النحل في ميثولوجيا الإغريق، الذي دفع ثمناً لذلك: انقراض نحلهِ… تفجّرَ حينها الخوف الميثولوجي من ذلك الانقراض، الذي تعكسهُ ما تُسمّى بنبوءة آينشتاين!

من القصتين يبدو مجدّداً أن النحل سيفٌ ذو حدِّين: اللدغة والعسل، وجسرٌ بين الطبيعة والثقافة، كما قال المؤلفان.

قضّى كبير فلاسفة الإغريق، أرسطو، حياته يدرس النحل، وكتب عنها أكثر ما كتب عن الكائنات الحيّة غير الإنسان. درسها لأنها بالنسبة له: كونٌ مصغّر (ميكروكوسم).

كذلك شأن كل فلاسفة ومفكري الغرب تقريباً: أهتمَّ بها الجميع من فيرجيل والقديس أوغسطين، إلى كل فلاسفة الحداثة حتّى ماركس وهيديجر، مروراً بمفكري العلم الحديث، كلّاً حسب تخصصة ومزاجه:

النحل لهذا الفيلسوفِ رمزٌ للمَلَكيّة، ولذلك رمزٌ للديمقراطية أو الجمهورية، وللقديسِ المسيحي رمزٌ للإخصاب بلا مناكحة، على غرار ولادة المسيح…

لكلمة “العسل” في اللاوعي العربي مدلولٌ يراوح بين “النعيم” و”اللذة”. وفي الفكر الإسلامي، للنحل أيضاً مقامٌ استثنائي: آيتان تجليليّتان في سورةٍ اسمها النحل، تبدآن ب: “وأوحى ربّكَ إلى النحل…”. ثمّة “نهرٌ من عسلٍ مصفّى” في جنة المسلمين. هناك عدّة أحاديث شريفة تُشبِّهُ المؤمنَ بالنحلة، ونصوصٌ فقهيّة لابن الأثير مثلاً في نفس الاتجاه. لخّصَ الدميري حياة النحل في كتابه “الحيوان”، كما كان يتصوّرها ناس ذلك الزمان…

يجهلُ الكثيرون أن اكتشاف العِلم تشريحَ النحل، بفضل ميكروسكوب جاليلو الذي طوّر به الميكروسكوب الهولندي، لعب دوراً رئيساً في انطلاق الثورة العلميّة، بنفس مستوى دور تيليسكوب جاليلو الذي دحض المسلمات الفلكية العتيقة. إذ تأسس العِلم الحديث على أنقاض تلك المسلمات!

فقبل ذلك، كان العالم أجمع، منذ الأزل، يظنُّ أن ملِكةَ النحل ذكرٌ سُمِّيَ دوماً: ملِك النحل. أو اليعسوب، بالعربية.

تقول كل معاجمنا: “اليعسوب ملكة النحل، وكان العرب يعتقدون أنها ذَكَر”. كذكَرٍ تحدّث عنها الدميري وفقهاء الإسلام.

سقطت المسلمّةُ الذكورية هذه بفضل اختراع وتطوير الميكروسكوب الذي كانت أول دراساته التجريبية حول النحل تحديداً. فبعد تطوّر الميكروسكوب، برهن الهولندي سوامردام (1637ـ1680) أن ملك النحل أنثى!… تبيض أيضاً: إذن ليست عذراء!

ثمّ لحق ذلك جدلٌ علميٌّ عنيف بين بعض علماء عصر التنوير حول إمكانية أعتبار النحلة خبيرة في الهندسة والحساب المعقّد. كان ذلك الجدل مدخلاً للجدل العلمي الطويل الذي لحقه حول فرضية الخلق الميتافيزيقي للكائنات، حسب النظرية الدينية.

ثم لحق ذلك سقوطُ آخر المسلّمات العتيقة حول النحل الذي ظلّ إخصابُ ملكتهِ سرّاً مجهولاً منذ الأزل، لأنها لا تُناكح داخل الخلية.

في رسالته: “حول إخصاب النحل” استخدم فرانسوا هوبير، بدقّةٍ صارمة، المنهج العلمي الحديث:

سرد كل الفرضيات والمسلمات العتيقة حول إخصاب ملكة النحل، بما في ذلك فرضية الهولندي سوامردام حول إخصابها بسبب رائحة قويّة تنبع من أعضاء الذكر.

ثمّ دحضها جميعاً بالتجارب العلمية التي كرِّرها في ظروف شتّى. قبل أن يكشف عن السر المكنون:

تظلّ الملكة عقيمة داخل سجن الخلية، وإن أحاطها الذكور. لكن بمجرّد خروجها من الخلية لمدة ٢٧ دقيقة بالضبط، تعود وقد تم نكاحها خلال الطيران. الدليل: تظلّ ملتصقةً بفرجها أجزاء من الأعضاء التناسلية للذكر!…

لعلّ اسم الملكة يستحقّ هكذا اعادة النظر، لأن دورها يكمن في الإخصاب لا غير. وحتّى أثناء خروجها من الخلية، ليست هي من تقود الشغّالات، ولكن هنّ من يقدنها طوال الرحلة!

لكم، اعزائي القراء، اختيار اسمٍ جديدٍ لها!

العسل، ونبوءة آينشتاين

حبيب سروري

في ١٣ مايو الماضي، كشفت جامعة ماريلاند الأمريكية في تقرير سنوي أرقاماً مخيفة عن مصيبةٍ كبرى: انقراض 42% من مستعمرات النحل في أمريكا، خلال العام الماضي. أعلن أوباما بعد ستة أيام خطّةً وطنيّة لتلافي ذلك. لحقتهُ فرنسا بإجراءت شبيهة…

احتمال انقراض النحل من المعمورة خبرٌ جدّ مريع، أشبه بِ “علامات الساعة”. إذ يعيد إلى الذهن نبوءةَ آينشتاين الشهيرة: “إذا اختفت النحل من سطح الأرض، فلن تعيش الإنسانية أكثر من ٤ سنين بعد ذلك: لا نحل، لا تلقيح، لا نبات، لا حيوانات، لا إنسان…”.

تحمل هذه العبارة قدراً كثيفاً من الاستشراف الموضوعي، وإن برهنَ باحثٌ في مجلة Gelf Magazine، درسَ كل إرشيف آينشتاين، أنها قيلت لأوّل مرّة في عام ١٩٩٤!

مريعٌ بشكلٍ خاص خبر انقراض النحل لمن اكتشف (ذات يوم، في رحلةٍ قديمةٍ إلى وادي دَوْعَن بحضرموت، قبل عقدين) “العسلَ الدَوْعَني” الحقيقي الشهير الذي تُنتِجه نحلٌ من سدرٍ لا تشوبه شائبة، في بيئةٍ طبيعية فريدة، قبل أن يدمن مذّاك بِهَوَس تناول هذا العسل الإلهي (وإن كان لسوءِ الحظِّ باهض السعر، شأنه شأن بيضات الكافيار، وكبدُ البطٍّ المسمّن: ثالوث الذِواقة الأروسطوقراطية العالمي في فن المائدة!).

مريعٌ انقراض النحل لمن دخل معها بعلاقةٍ صوفيّة، متعدِّدة الأبعاد والجوانب:

عندما يتابع صاحبنا هذا النشاطات العلمية في مجالات “الذكاء الجمعي”، في أبحاث علوم الكمبيوتر، التي تحاول محاكاة النحل في تكوين شبكات من كينونات برمجيّة (Agent)، كلّ فردٍ منها بدون ذكاءٍ يستحق الذكر، لكنها معاً تشكِّلُ منظومات معقّدة، شديدة الذكاء جبّارة القدرات.

إذ للنحلة دماغٌ حجمه مليمتر مكعب، لا يمتلك أكثر من مليون عصبون. لكن مجموع النحل في الخلية (50000) تشتغل بدماغٍ ألمَعِيّ، كل نحلةٍ عصبونٌ من شبكة عصبوناته. يُمَكِّن العملُ والتفاعلُ المشترك ذلك الدماغَ الجمعي من امتلاك مقدرات فريدة: تآزر، تكيّف، اتصال، تعلّم، استيعاب للبيئة المحيطة… يصعب سبرها في مقال.

فقد برهن مثلاً عالم الرياضيات كوينج، في ورقة علميّة سمحت له بدخول الأكاديمية الفرنسية في عام 1740، أن مورفولوجيا طبقات الشمع الذي يشيّده النحل، والأشكال السداسية لتجويفات خلاياها، تسمح بإيجاد الحل الرياضي الأمثل لهذه الإشكالية: كيف يمكن استخدام أقل كميّةٍ محدّدة من الشمع لبناء أكبر عدد من الخلايا المتشابهة والمتماثلة، في أصغر مساحة داخل الخليّة؟

شرح داروين في كتابه الشهير كيف أثّر “مبدأ التطوّر والانتقاء” في الوصول إلى كل ذلك الإبداع العبقري.

مريعٌ انقراض النحل لصاحبنا هذا الذي يدهشه الشكل الجديد لاقتصاد اليوم المستلهمِ من حياة النحل: “الاقتصاد التلقيحي”، وتداعياته على الحضارة الإنسانية.

فهذا النموذج الجديد الذي بدأ يكتسح الاقتصاد المعاصر مبنيٌّ على كون أهمية النحل تكمن في التلقيح الذي يفوق مردودُه (يعادل ١٥ مليار دولار سنويّاً في أمريكا) بكثير مردودَ انتاج العسلِ (أقلّ من مليار دولار).

يكفي رؤية نمودج اقتصاد غوغل على الإنترنت: بمجرد نقر المستخدم للموتور، يمتصُّ كالنحلة الرحيقَ المعلوماتي من الموتور، يستفيدُ منه، ويلقِّح الموتور بمعلوماتٍ مرتبطةٍ بحاجاته، اهتماماته وطبيعة شخصيّته.

هكذا، فالتلقيح استعارةُ النموذج الاقتصادي الجديد، فيما انتاج العسل استعارةُ النموذج القديم. نحن هنا أمام نمطٍ جديدٍ من اقتصادٍ تعاضدي، معرفي، يتكئ على مفهومَي: شبكة الشبكات الاجتماعية، والتلقيح الإنساني.

مريعٌ انقراض النحل بشكلٍ خاص لصاحبنا بعد أن قرأ مؤخراً كتاباً إنسكلوبيديّاً مدهشاً يسرد شغف الفلسفة والفكر الإنساني بالنحل، منذ مهد الفكر الإنساني: ” النحل (و ال) فيلسوف”، مايو ٢٠١٥، أوديل جاكوب، تأليف: الأخوين Tavoillot: أستاذٍ في الفلسفة في جامعة السربون عاشقٍ للنحل، ونحّالٍ عاشقٍ للفلسفة!

فمنه اكتشف صاحبُنا أن الإنسان، منذ أن صار يفكٍّر، أعجب بالنحل كما لم يعجب بكائنٍ حيٍّ آخر. رأى في نمط حياة خليّة النحل تكثيفاً لِحياة البشر: مجتمعٌ ينتج، يبني، يُحوِّل، يعالج، يدافع عن نفسه، يهاجر، يحارب… يتغذّى من رحيق الأزهار (غذاء الآلهة) ليفرز العسل: المنتوج الطبيعي الوحيد الذي لا يتخثّر أبداً، ولذلك استخدمه في تحنيط الملوك.

ثمّ النحل، كما يقول المؤلفان: الجسر الذي يؤالف بين المتضادات، وهو ينتقل من “الطبيعة” إلى “الثقافة”: يلدغ بشكلٍ مؤلم، ويفرز ألذّ غذاء!

فلِلنَّحل دورٌ جوهريٌّ في الميثولوجيا الإغريقية: من ناحيةٍ، لم يصبح كبير آلهة الأولمب، زوس، جبّاراً قادراً على منافسة وهزيمة والده كورنوس، إلا لأنه تغذّى في طفولته بالعسل، وخدَعهُ يوماً بوجبةٍ مغمورةٍ بالعسل!

ومن ناحيةٍ أخرى، نهاية “شهر العسل” بين الإلهة أورفيه وأوريديس كان بفعل “لدغة” إرستيه، رب النحل في ميثولوجيا الإغريق، الذي دفع ثمناً لذلك: انقراض نحلهِ… تفجّرَ حينها الخوف الميثولوجي من ذلك الانقراض، الذي تعكسهُ ما تُسمّى بنبوءة آينشتاين!

من القصتين يبدو مجدّداً أن النحل سيفٌ ذو حدِّين: اللدغة والعسل، وجسرٌ بين الطبيعة والثقافة، كما قال المؤلفان.

قضّى كبير فلاسفة الإغريق، أرسطو، حياته يدرس النحل، وكتب عنها أكثر ما كتب عن الكائنات الحيّة غير الإنسان. درسها لأنها بالنسبة له: كونٌ مصغّر (ميكروكوسم).

كذلك شأن كل فلاسفة ومفكري الغرب تقريباً: أهتمَّ بها الجميع من فيرجيل والقديس أوغسطين، إلى كل فلاسفة الحداثة حتّى ماركس وهيديجر، مروراً بمفكري العلم الحديث، كلّاً حسب تخصصة ومزاجه:

النحل لهذا الفيلسوفِ رمزٌ للمَلَكيّة، ولذلك رمزٌ للديمقراطية أو الجمهورية، وللقديسِ المسيحي رمزٌ للإخصاب بلا مناكحة، على غرار ولادة المسيح…

لكلمة “العسل” في اللاوعي العربي مدلولٌ يراوح بين “النعيم” و”اللذة”. وفي الفكر الإسلامي، للنحل أيضاً مقامٌ استثنائي: آيتان تجليليّتان في سورةٍ اسمها النحل، تبدآن ب: “وأوحى ربّكَ إلى النحل…”. ثمّة “نهرٌ من عسلٍ مصفّى” في جنة المسلمين. هناك عدّة أحاديث شريفة تُشبِّهُ المؤمنَ بالنحلة، ونصوصٌ فقهيّة لابن الأثير مثلاً في نفس الاتجاه. لخّصَ الدميري حياة النحل في كتابه “الحيوان”، كما كان يتصوّرها ناس ذلك الزمان…

يجهلُ الكثيرون أن اكتشاف العِلم تشريحَ النحل، بفضل ميكروسكوب جاليلو الذي طوّر به الميكروسكوب الهولندي، لعب دوراً رئيساً في انطلاق الثورة العلميّة، بنفس مستوى دور تيليسكوب جاليلو الذي دحض المسلمات الفلكية العتيقة. إذ تأسس العِلم الحديث على أنقاض تلك المسلمات!

فقبل ذلك، كان العالم أجمع، منذ الأزل، يظنُّ أن ملِكةَ النحل ذكرٌ سُمِّيَ دوماً: ملِك النحل. أو اليعسوب، بالعربية.

تقول كل معاجمنا: “اليعسوب ملكة النحل، وكان العرب يعتقدون أنها ذَكَر”. كذكَرٍ تحدّث عنها الدميري وفقهاء الإسلام.

سقطت المسلمّةُ الذكورية هذه بفضل اختراع وتطوير الميكروسكوب الذي كانت أول دراساته التجريبية حول النحل تحديداً. فبعد تطوّر الميكروسكوب، برهن الهولندي سوامردام (1637ـ1680) أن ملك النحل أنثى!… تبيض أيضاً: إذن ليست عذراء!

ثمّ لحق ذلك جدلٌ علميٌّ عنيف بين بعض علماء عصر التنوير حول إمكانية أعتبار النحلة خبيرة في الهندسة والحساب المعقّد. كان ذلك الجدل مدخلاً للجدل العلمي الطويل الذي لحقه حول فرضية الخلق الميتافيزيقي للكائنات، حسب النظرية الدينية.

ثم لحق ذلك سقوطُ آخر المسلّمات العتيقة حول النحل الذي ظلّ إخصابُ ملكتهِ سرّاً مجهولاً منذ الأزل، لأنها لا تُناكح داخل الخلية.

في رسالته: “حول إخصاب النحل” استخدم فرانسوا هوبير، بدقّةٍ صارمة، المنهج العلمي الحديث:

سرد كل الفرضيات والمسلمات العتيقة حول إخصاب ملكة النحل، بما في ذلك فرضية الهولندي سوامردام حول إخصابها بسبب رائحة قويّة تنبع من أعضاء الذكر.

ثمّ دحضها جميعاً بالتجارب العلمية التي كرِّرها في ظروف شتّى. قبل أن يكشف عن السر المكنون:

تظلّ الملكة عقيمة داخل سجن الخلية، وإن أحاطها الذكور. لكن بمجرّد خروجها من الخلية لمدة ٢٧ دقيقة بالضبط، تعود وقد تم نكاحها خلال الطيران. الدليل: تظلّ ملتصقةً بفرجها أجزاء من الأعضاء التناسلية للذكر!…

لعلّ اسم الملكة يستحقّ هكذا اعادة النظر، لأن دورها يكمن في الإخصاب لا غير. وحتّى أثناء خروجها من الخلية، ليست هي من تقود الشغّالات، ولكن هنّ من يقدنها طوال الرحلة!

لكم، اعزائي القراء، اختيار اسمٍ جديدٍ لها!