اعرف الآخر، تعرف نفسك!
حبيب سروري
تتشظّى حياة البشر غالبا وسط سلسلةٍ من الثنائيات. يفصل كل قطبين منهما تناقضٌ جذري أو صراع دائم. يربطهما تكامل فذٌّ أحيانا.
ثمّة الواحد (مرور التيار) والصفر (عدم مروره) الذي يلد من عناقهما الكمبيوتر.
ثمّة إيروس (إله الطاقة الإبداعية والحب، في الميثولوجيا الإغريقية)، ونقيضه اللدود ثيتانوس (إله الموت). لا يجمعهما جامع.
ثمّة أبولو (إله النظام والقياس والرؤية والوضوح والعقل، وملَكات عديدة أخرى. كل الظواهر القابلة للإدراك والتنظير تنسب له.)، وديونيزوس (إله الثمالة والنشوة واللامرئي والانزياح وتجاوز الحدود، إله النبيذ والمسرح والرقص والتراجيديات والجنون.) هما معها وجها الثقافة الإنسانية. يلزم مزجهما في وحدة ديالكتيكة مثمرة، أحبّ أن أسميها “ضفّة ثالثة”.
ثمّة اليمين واليسار، الإمبريالية والإشتراكية، وعددٌ لا ينتهي من الثنائيات التي يميل الإنسان إلى التخندق فيها غالبا.
وللأديان ثنائياتها: الجنة والجحيم، الإله والشيطان…
ثمّ هناك الطبيعة، Nature، والثقافة، Culture، وكل صراع المتخصصين في علوم الطبيعة الإنسانية لربط سلوكنا وتفسيره بإحداها أو بالأخرى.
وأخيرا هناك نابولي وفينيزيا، وصراع بعض المثقفين لتفضيل إحداها أو الأخرى، “الأولى، كتجسيد للطبيعة، والثانية كتجسيد للثقافة”، حسب تعبير ريجيس دوبريه!
عن الأولى، نابولي، أريد التحدث قليلا هنا، من زاويةٍ واحدة فقط: لعلها تسمح لنا بسهولة مفيدة ممتعة بتطبيق استراتيجية “إعرف الآخرَ، تعرف نفسك”، فاتحة برنامج عمل “فن الحرب”، للفيلسوف الصيني ورمز الذكاء المطلق: سان تزو، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد. الحرب هنا بمعناها الأوسع الذي يتجاوز المواجهات العسكرية.
تعني هذه الاستراتيجية: لن تعرف نفسك إطلاقا عبر الدوران حولها من أجل استيعابها وسبر أغوارها. لن تعرفها إلا عندما تدرس الآخرَ، وتعرفه على نحو دقيق. ستعرف نفسك حينها، وحينها فقط، بفضل مقارنتها به.
ما أحوجنا لأمّ الاستراتيجات هذه!
إذ: ماذا يعرف الطالب والمواطن العربي عن الحضارة الإغريقية الرومانية التي أنجبت الحضارة الأوربية الأمريكية؟
ماذا يعرف عن الحضارات الصينية وغيرها؟
أليس لذلك لا نعرف أنفسنا في الحقيقة، ونعيش في حضارة اليوم ضائعين منسيين؟!
فلِمعرفة الحضارة الأوربية الأمريكية التي تسود العالم، يلزم معرفةُ أمِّها: الحضارة الإغريقية الرومانية التي سادت العالم قبلها.
ولمعرفة أية حضارة، كالإغريقية الرومانية، يلزم التعمّق في سِفر تكوينها، أي: جذورها وبداياتها.
صعبٌ ذلك غالبا، ويستدعي الإبحار في الدراسات التاريخية الطويلة المعقّدة، لأن الزمن يطمر الماضي، ويرميه في غياهب النسيان، دونما اكتراث.
غير أن ثمّة مدينتان، قرب نابولي في جنوب إيطاليا، أهدَتْهما للإنسان الصدفةُ التي لا تتكرر، يمكن اعتبارهما مختبراً حياً لرؤية سِفر تكوين الحضارة الإغريقية الرومانية بالعين المجرّدة واستيعابه بعمق، وللتكّسع في شوارعها كما كان يتسكع فيها أهل ذلك الزمن تماما!
الأولى: إيراكالوم، مدينةٌ أرستقراطية صغيرة لنبلاءٍ رومان، طمّها ماجما بركان جبال فيزوف المجاورة.
والثانية بومبايي، مدينة ضخمة طمّتها حجارة ذلك البركان ورماده، في عام 79.
اختفتِ المدينتان منذ ذلك الزمن، قبل اكتشافهما بالصدفة، أثناء حفر قناة مياه في نهاية القرن الثامن عشر!
لعلّ ما حدث لهما هو أكبر الكوارث الجيولوجية التي عرفتها مُدن الإنسان. لكن اكتشافهما يعدّ فعلا من أعظم هدايا الصدفِ للإنسانية. لأنهما تسمحان اليوم برؤية أدق تفاصيل حياة البشر آنذاك، على نحو دقيق.
استعادة إيراكلوم كما كانت، كان الأصعب بسبب سيول الماجما التي لزم استخراجها من أحشائهم الغائرة، وأمعائهم المكلسنة المتداخلة اللصيقة.
استعادة بومبايي هو الأطول زمنا والأغدق فائدة معرفية، لأنها مدينة مهمة مكتملة واسعة.
بدأ الحفر عشوائيا لاستخلاصها من عمق ستة أمتار في باطن الأرض، في نهاية القرن الثامن عشر. ثم على نحوٍ منهجي، منذ بداية القرن التاسع عشر (شارعاً بعد شارع)، لاستعادة كل البيوت والشوارع واللوحات والتماثيل كما هي.
تمّ الانتهاء اليوم من التنقيب على ثلاثة أخماس المدينة فقط، وتجهيز ذلك للباحثين وآلاف السوّاح يوميا، ولكل طلاب المدارس.
يعبرونها جميعا، ويزورونها شارعا شارعا، بيتا بيتا…
وسيستغرق تجهيز الخُمسَين الباقيين فترةً أطول (عدّة قرونٍ ربما؟!)، بسبب طُرق التنقيب الجديدة الأكثر دقة وتأنّياً.
في جنوب غرب المدينة، تقع ساحة “المنتدى” (فوروم). لعلها مركز تأسيس المدينة، قبل توسّعها بعد ذلك في كل الاتجاهات.
عرفت المدينة معابد مصرية قديمة (كمعبد إيزيس)، ثم إغريقية، قبل أن تسودها هذه الحضارة كليّة منذ القرن السادس قبل الميلاد. وبقيت جذورها متينة فيها، حتّى بعد أن تغلغلت فيها الحضارة الرومانية، منذ الاستعمار الروماني عام 80 قبل الميلاد، وحتى انطمار المدينة.
ما الذي يفاجئوك عندما تعبر المدينة؟
شوارع متوازية متينة، ذات طراز معماري جذّاب. تتخلّلها طرقٌ حجريّة منتظمة تسمح بتصريف مياه الأمطار بسهولة.
البيوت، بما فيها الشعبية الفقيرة، لا تخلو من ديكورات فسيفسائية أكثر أو أقل ثراء. أما بيوت الأثرياء فتطرزها اللوحات والتماثيل.
جميع البيوت حجرية متينة، استطاع المؤرخون معرفة أسماء سكانها غالباً، وماهية وظائفهم.
تتخلل المدينة حانات، مطاعم، مخابز، محلات كواية الملابس، معابد، منتديات، حمامات ومسابح، بعضها للرجال، وأخرى للنساء، مجاورة لها في نفس الساحات.
جميع المسابح مطرّزة بالفسيفساء. تثيرك جدا أسلاكٌ في قاعها وعلى جدرانها، آتية من غرفة غليان مياهٍ غير بعيدة، لتسخين مياه المسبح…
ترهبك كثيرا جدران المدينة و”شخاطيط” الكتابات عليها، لا سيما البرامج الانتخابية للمرشحين للانتخابات، واسماء من يدعمونهم في حملاتهم الانتخابية. وترهبك أكثر قاعات الإدلاء بالأصوات، ومحلات فرزها في ساحات المنتدى.
الشخاطيط المكتوبة في الجدران أهمّ أرشيفٍ لِتاريخ المدينة. تتزاحم فيها عبارات تعكس فكرةً، عاطفةً، رأياً، حماقات، بذاءات… جميعها مرآة الروح الإنسانية الأبدية.
أمتعتني في إحدى الجدران هذه العبارة:
“أيهذا الجدار الجبار، كم يذهلني أنك لم تنهر بعدُ وتتحول إلى خرائب، من ثقل الحماقات التي تغطّيك!”.
تماثيل الآلهة ونبلاء المدينة في كل مكان، لا سيما في قلب كل النشاطات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الرومانية: ساحة المنتدى المدني، المنتدى المثلث، وساحة المسرح الأكبر (أمفي تياتر). وفي مقدمتها جميعا: فينوس، إلهة الجمال والحب، حامية المدينة.
دون الحديث عن هياكل بقية آلهة الرومان، كأبولو، جوبيتر…
ترهبك أكثر، وأنت ترى فن حياة الناس، مسارحُ المدينة الكثيرة. قاعة ساحة المسرح الكبير تتسع لخمسة ألف إنسان!
لوحات تشكيلية عن المسرحيات الشهيرة معروضة في البيوت والمعارض الخاصة.
اللوحات في كل مكان، بما في ذلك لوحات إيروتيكية في منازل “شغيلة الجنس”، كما يقال اليوم. “لوبانار”، بالرومانية.
نصف هذه اللوحات الأخيرة في صالتين في المتحف الوطني بنابولي.
لعبت الثقافة في الحضارة الإغريقية الرومانية، كما يلاحظ عابرُ المدينة، دورا رئيسا في ازدهارها، وفي مقدمة ذلك المسرح والتراجيديات.
المسرح مفتاحُ التأمل والجدل ونافذة الروح، ووسيلة تطهيره: “كاترسيس”.
أخيراً، قد يبدو للبعض أن التنقيب عن مدينةٍ اختفت في طيات الأرض محضُ نزوةٍ مجنونة.
بالعكس: معرفة الماضي تمنح المرء طاقات هائلة لبناء الحاضر وتوجيه المستقبل.
ما أحوجنا، نحن العرب، للتنقيب عن مهد تاريخنا بهذه الوسائل العلمية نفسها، لنكتبَه كما كان فعلا، لا كما تعرضه الروايات المشوَّهة والأيديولوجيات الدينية والسياسية المشوِّهة.
وما أحوجنا، على نحوٍ موازٍ، لِتدريس تاريخ الآخر واستيعابه، لاسيما التاريخ الإغريقي الروماني والصيني، في كل مدارسنا وجامعاتنا العربية.
سنرى فعلا، من وحي ذلك، أهمية جذور النظام المدني ودوره الجوهري في حياة المدن الرومانية القديمة، منذ فجر تاريخها.
وسنستوعب ضرورة الاستلهام من تاريخ فصلها للسلطات الروحية الدينية عن سلطات الحياة المدنية والسياسية. والحاجة القصوى للاحتذاء بها في وضع الثقافة والفن، لا سيّما المسرح والفنون التشكيلية، في قلب الحياة اليومية للمدينة…
قوّة الحضارة الإغريقية الرومانية، وابنتها الأوربية الأمريكية اليوم، تأسست على كل ذلك.
خلاصة القول: لن نعرف أنفسنا حقا، وندرك كل عراقيلها الحضارية ونقاط ضعفها الدائمة، إلا إنطلاقا من معرفة الآخر عموما، والاستلهام من تجاربه، بحثا عن تجاوزه.