أن تتعلّم كيف تتعلّم!
حبيب سروري
مارس/آذار شهر الشِّعر والدماغ. تنعقد فيه في بعض الدول سنوياً، وعلى نحوٍ متزامن، نشاطات أيّام “ربيع الشعراء”، و”أسبوع الدماغ” الذي يُحتفل به في معظم المدن الأوربية منذ بضعة عقود.
في العيد الأوّل، يحتفل الإنسان بالشعر، “لغة الآلهة”. بها يلوذ من كل الترسيمات، يقاوم الحدود القسريّة للّغة البشرية، يتحرّر من قيود الحياة وجبرّوت الموت… وإن لم يعد الحضور الشعبي للشِّعر طليعيا اليوم، بعد بروز ملِكةِ الأنواع الأدبية: الرواية، التي احتضنت الشعر واحتوتهُ كبُعدٍ من أبعادها التعبيرية.
وفي العيد الثاني يحتفلُ بالدماغ: وعاءِ ومصدرِ الذكاء واللغة والذاكرة والتفكير والتعبير وبقية النشاطات الروحية للإنسان من حبٍّ وأحاسيس ووعي ولاوعي.
إذ أن كل هذه النشاطات ليست أكثر من تيارات كهروكيماوية بين شبكة عصبونات الدماغ. يقضي علماؤه حياتهم في تقصّيها واقتناصها ودراستها. يمتلكون لذلك اليوم أرهب الآلات: سكانير الدماغ، الذي يلعب دور التلسكوب وهو يكتشف ويراقب الكواكب والمجرات.
الدماغ موتور الإنسان ونواته. يحوطه بقيةُ الجسد، كلُّ بقيتِه بما فيه القلب، كمعطفٍ أو كقشرة. فالقلب الذي ظنّ الإنسان الأول أنه مصدر الحب والكراهية والمشاعر ليس أكثر من مضخة للدم.
نعم، بل يمكن استبداله بِقلب إنسانٍ آخر. أو، منذ حوالي عام، بِقلبٍ صناعيٍّ كامل، يسمح بمواصلة الحياة، وبنفس مشاعرها السابقةِ بالطبع، من حبٍّ وكراهية. لأن موطنها الدماغ، مصدر كل نشاطات الإنسان الروحية قاطبة، وهيئة أركانها.
هكذا، خلال أسبوع، يهبط منبعُ ذكاء الإنسان من عرشه ليتعرّى للعامة: تُقدِّمُ المختبرات للجميع تقاريرها السنوية ومحاضراتها عن آخر ما اكتشفته من أسراره، كلِّ جديدِ علاجاتها لأمراضه، وآخر دراساتها لخارطته، ولمناطق هذا النشاط الروحي فيه أو ذاك.
غير أن هذا الألفا والأوميجا، لم يعد المصدر الواحد الأحد للذكاء اليوم!
له منافس صنع جيناته في البدء هو نفسُه: الكمبيوتر و”ذكاؤه الاصطناعي”، وشحنهُ بخوارزميات ذكيّة تحاكي نشاطات شبكة عصبونات الدماغ، وتُعلِّم الكمبيوتر كيف يتعلم أن يتعلَّم، ويتجاوز لذلك وبذلك كل الحدود!
ولأن التعلّم أحد أهمِّ أركان الذكاء، فقد استطاع الذكاء الاصطناعي هزيمة ذكاء الإنسان عشيّة “أسبوع الدماغ” لعام 2016 في مباراة الغو، محققاً هذه المقولة التي ترفرف في كل بيتٍ منها كلمة “التعلّم”:
“أعلمهُ” الرماية كلّ يومٍ
فلمّا أشتدّ ساعده رماني
وكم “علّمتهُ” نظم القوافي
فلما قال قافية هجاني
“أعلِّمهُ” الفتوة كل وقت
فلما طر شاربه جفاني
فلقد هزم برنامج ألفاغو التابع لشركة غوغل بطل العالَم الكوري لي سودل في لعبة “الغو”: أصعب لعب الذكاء المطلق، وفي موعدٍ سابقٍ لكل التوقعات بعقدٍ أو عقدين! قبلها، كان قد هزم الإنسانَ في كلِّ اللعب المنطقية الذكية كالشطرنج.
الحقيقة أن الغو لعبة صينية قديمة عجيبة، ذات أهمية استراتيجية رئيسة، ظلت بعبع الكمبيوتر لأمد. يلعبها لاعبان على لوحة كالشطرنج، لكن أكبر بكثير: عدد مربعاتها 361.
قواعد لِعبها في غاية البساطة: لكل لاعب حصى بلون خاص به، ويحق له نشر حصاه على نقاط تقاطع الخطوط الأفقية والرأسية للّوحة. إذا حوصرت بعض قطعِهِ من قبل الخصم تماماً فتصير بلا فائدة. والفائز هو من تنتشر حصاه غير المحاصَرة على أوسع عددٍ من نقاط تقاطعات اللوحة.
تلخص هذه المباراة بتجريدٍ بسيطٍ وعميق كل الحروب العسكرية والمالية والصراعات التنافسية عموماً، ولها تطبيقاتٌ عديدة في الصحّة والمواصلات: فإذا أراد جيشان متنافسان مثلاً نشرَ كتائبهما المدفعيّة على أرضٍ خلاء، واحتلالَ أوسعِ المساحات فيها، يلزم أن يتوغّل كل جيشٍ في تلك الأرض أوسع ما يمكن، ويطوِّقُ وحدات الخصم أكثر ما يمكن، تماماً كتوغل لاعب الغو وتطويقه لخصمه.
رغم بساطة قواعدها، تعتبر هذه اللعبة أعقد اللعب إطلاقاً. يمكن أن يقضي المرء حياته يلعبها دون أن يسبر أغوارها. يطلَق عليها أحياناً صفة “الباطنية” لشدّة ارتباطها بالحدس والمفاجآت. وثمّة أقسام جامعية متخصصة في كوريا لتعلمها.
لم يكسب الكمبيوتر مباراته هنا ضدّ الإنسان لأنه استخدم سعة ذاكرته لحفظِ “شجرة كلِّ النقلات والنقلات المضادة الممكنة” عن ظهر قلب، أو للبحث الشامل في بعض فروعها عن أفضل حل: يستحيل ذلك لحجمها اللانهائي تقريباً!
ولكن بفضل برمجة “شبكة العصبونات الاصطناعية العميقة” التي تحاكي شبكة عصبونات الدماغ البشري وهي تتعرّفُ على ما تراه عين الإنسان.
ما هي هذه الشبكة؟
عندما ترى صورةَ الكعبة أمامك، تعرفُها لأن 50 منطقةٍ في دماغك (يعرف العلم مواقعها الجغرافية في خارطة الدماغ) اشتغلت معاً ووصلت للنتيجة. فيها شبكات عصبونات تتعرّف على الزوايا في الأشكال الهندسية، وأخرى على الخطوط المستقيمة، وأخرى على اللون، وأخرى على الكساء ونوعه.
تتفاعل هذه الرؤيات الجزئية باتجاهٍ تصاعدي: تتعرَّف بعض المستويات العليا من تلك الشبكات على مربعٍ من أوجه الكعبة، وأخرى عليها كليّة كمكعبٍ ذي حجمٍ ولونٍ وبنيةٍ محدّدة…
كذلك تتعرّف شبكات العصبونات الاصطناعية في برنامج ألفاغو على هذا الوضع أو ذاك أثناء المباراة: لا تراهُ كما ترى قطّةٌ لوحةً فنيّة، لكن تدركهُ وتحلّلهُ وتتعرّفُ على بنيته ونوعيته، وعلاقته ب 30 مليون وضعٍ في ذاكرة غوغل لأهم مباريات كبار أبطال العالم فيه، يمكن أن تستلهم منهم بعض الردود الجيّدة.
ذلك لا يكفي لأنه لن يسمح للكمبيوتر بهزيمة أبطال العالَم، كونه يلعب مثلهم. لذلك لعب ألفاغو ضد نفسه ملايين المرّات لِيُحسِّن مستواه الذي انتقل بفضل ذلك من 300 دولياً قبل 5 أشهر إلى الأوّل!
هكذا، الجديد النوعي الذي سمح لألفاغو بالنصر هو تعلُّمُ التعلُّمِ من وحي استلهام عمل دماغ الإنسان، وليس نقله آلياً. ولذلك أدّى أثناء مبارياته ضد بطل العالم نقلات عبقرية ومخالِفة للعادة لم تخطر ببال إنسان. بل كان يُرفض بعضها أو يُستهجن من قبل المتخصصين!
لو لجأ الكمبيوتر إلى التقليد الآلي للدماغ، كتقليد الطيور في أسطورة “عباس بن فرناس”، لتعثّرَ كتعثّرِ هذا الأخير.
إذ لا تصمَّمُ الطائرةُ مثلاً بأجنحةٍ تتحرّك ميكانيكيا أو ريش. لتصميمها، احتاج الإنسان إلى فكرةِ الأجنحة والشكل العام لأجساد الطيور لا غير، وأضاف لهما الطاقة الثرموديناميكية للانطلاق وعبور المسافات.
كذلك عمل ألفاغو. استخدم “العصبونات الاصطناعية العميقة” ليطير بها، وشحنها بطاقة ثرموديناميكية من ملَكاتِه التقليدية كالذاكرة الكمبيوترية الشاسعة، وما في حوزة غوغل من منجم مباريات كبار الأبطال في الغو، وبعض الخوارزميات الاستشرافية التقليدية التي تسمح للكمبيوتر بعبور فروعٍ من شجرة النقلات والنقلات المضادة، حتّى عمقٍ بعيد يتجاوز مقدرة الإنسان…
الممتع جداً أن الكمبيوتر لم يحتفل بانتصاره بالضجيج والسكرات: العِلمُ متواضعٌ لا يطمح إلا بتجاوز نفسه.
ها هو غير سعيدٍ لأنه انتصر خلال ساعات عديدة، هو الذي لعب ملايين المباريات الذاتية ليتعلّم! يرى اليوم أنه لم يكن ذكيّاً على نحوٍ كاف: كان بإمكان هذه الملايين سحق لي سودول بأسرع من ذلك.
يعتبر آليةَ عمله حالياً أشبه بأحصنةٍ تستخرج الفحم من منجمٍ عميقٍ عبر حبال، ويرى أنه بحاجة إلى آليّةٍ أفضل تربطه بالمنجم، وتسمح له قريباً بسحق أبطال العالم بأسرع وأفضل من هذا الانتصار!
هذا هو العلم بسيطٌ متواضع، عنودٌ وطموحٌ على الدوام!