الكتابة في زمن التحولات الكبرى (ندوة حبيب سروري في الجزائر)

مقدمة عن التحوّلات الكبرى:

لتحديد هذه التحوّلات أوّلا، نحتاج إلى عرض سريع لتاريخ العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مرَكِّزين على أهم المنعطفات الرئيسية التي قادت إليها:

1) “الثلاثين السنة المجيدة” (كما تسمّى) حتّى منتصف السبعينات: عرفتْ نموا اقتصاديا هائلا ومكاسب اجتماعية كبيرة في الغرب؛ تلويث فظيع للبيئة بغازات الاحتباس الحراري؛ نضالات حركات التحرر الوطني وولادة ما سميَ “العالم الثالث” بجانب المعسكرين الشرقي والغربي…

2) الأزمة البترولية في 1973، ثمّ عام مركزي 1979 (سنة المنعطف الذي قاد إلى عالمنا هذا، حسب أمين معلوف في كتابه الأخير “غرق الحضارات”، والذي تجذّرتْ انعطافاتُه بعد ذلك في عام 1989): عاصرتْ هذه السنوات انتخاب مارجريت تاتشر التي سيلحقها على نفس المنهج النيوليبرالي المتوحِّش: ريجان؛ الثورة الإيرانية ووصول الخميني للسلطة؛ بداية ضعف المعسكر الاشتراكي (عملاق من ورق) وحرب أفغانستان؛ دونج زيوبينج في الصين وعبارته التي تلخِّص منهج الصين حاليا: “لا يهمّ أن تكون القطة بيضاء أو سوداء، طالما تجيد اصطياد الفيران”. (يعني: لا يهم أن يكون النظام ديكتاتوريا أو ديمقراطيا طالما هو فعّال اقتصاديا)…

3) 1989: سقوط المعسكر الاشتراكي؛ بداية أول موقع إنترنت في ال CERN؛ والفتوى الظلامية المرعبة ضد رواية سلمان رشدي، في يوم “عيد الحب”: 14 فبراير! (تُذكِّرنا نسبيا ما حصل مصريّاً لرواية نجيب محفوظ: “أولاد حارتنا” بسبب شخصية الجبلاوي. لكن هذه المرة الحدث خارجي دوليّ فيه قتل وكسر عظم بين عالَمين، عتيق وحديث).

4) سنوات العولَمة: حرية التجارة وتشابك العالَم كله ككتلة نيوليبرالية، في نظام اقتصادي رأسمالي مندمج؛ زيادة تلوّث مناخ العالَم وانتهاك الطبيعة مع تسارع الطفرات الاقتصادية؛ نمو ظاهرة “تأثير الركض”، حسب تعبير ريجيس دوبريه، (ردّ الفعل المعاكس بانتشار ظاهر الركض Jogging، مع ازدياد استخدام السيارات! مثلما يختفي المرء في الكهوف، عندما تعصف به الرياح من كل مكان): تعاظمت لذلك مع العولمة حركات الإنكفاء على الذات السلفية والرجعية والظلامية!؛ اقتحام الإنترنت وحضارة الصورة والشبكات الاجتماعية كلَّ مجالات حياة الإنسان…

5) 1997: هزيمة الكمبيوتر لكازباروف في الشطرنج.

6) 2012: طفرة الذكاء الاصطناعي، بفضل تقنيات “التعلّم العميق” و”العصبونات الاصطناعية”، وما قاد إليه من نتائج مثل التعرف الآلي على الصور، وهزيمة لي سيدول في لعبة “الجو”…

التحوّلات الكبرى:

1) صار الإنسان “هومو تيكنوليجوس”، إذا جاز القول: يعيش في عالم تكنولوجي غيّرَ وهيْمنَ على حياته (أحد شِعاراته، حسب كتابي “لنتعلمْ كيف نتعلم”: من كتبْ غلبْ، ومن رقمنْ هيمنْ). أبرز مظاهره:

== محيط المعرفة الإنسانية متوفِّر مجانا للجميع: موتورات الأبحاث كغوغل، الموسوعات المجانية كويكيبيديا، كنوز المعارف المجانية: عدّة آلاف الساعات من محاضرات كوليج دو فرانس، وعدد ضخم من مصادر المعرفة المجانية…

== الشبكات الاجتماعية تسيطر على حياة الناس. لها إيجابياتها بالطبع، لكن لها سلبيات كثيرة تدميرية:

الانتشار الفيروسي للشائعات الكاذبة (الفيك نيوز) على نحو “أسرع بألف مرة من انتشار الحقيقة” (حسب إحصائيات تويتر)؛ سيول منشورات الكراهية والعنف والتحريض وانتشارها بسرعة البرق؛ “الحقيقة البديلة” (هذا المفهوم الذي يسبق الفاشية عموما) صار له رواج مؤخرا، بسبب هذه الشبكات.

وكما يقال: “في الوقت الذي تلبس الحقيقة جوربها، يكون الفيك نيوز قد غزا العالم.

سيادة “مجتمع الصورة” منذ بدء الإنترنت: تأثير الصورة سريع جدا وحاسم على الدماغ (أسرع وأفتك من الكلمة)، وحاجة التخييل لها شديدة دائمة (الإنسان حيوان ذو خيال)…

طبعا، لكل ذلك تأثيرات جوهرية على الكتابة والأدب، سنتطرق لها في الندوة.

2) الإنسان في مضيق حضاري يدفع ثمن طمع النيوليبرالية التي خرّبت منظومة الكوكب؛ وانتهاك الإنسان عموما لتوازن الطبيعة: تلوّث، إزالة الغابات، إفراز غازات الاحتباس الحراري…

النتيجة: ذوبان ثلوج القطبين الشمالي والجنوبي والمرتفعات الجبلية، تسوناميات وارتفاع مستوى البحار، انكسار توازن المنظومة البيئية التي تأسست خلال مليارات السنين وما قاد إليه من إنقراض بعض الأنواع البيولوجية، زيادة الجوائح، مثل الكوفيد اليوم الذي قاد إلى إلى مليوني ضحية حتّى الآن، وإلى عالَمٍ بائس نتدوق مرارته جميعا: دُور الثقافة مغلقة، اقتصاد مهدد، إنسان متأزم في وضع تراجيدي…

ملاحظة عن وضع العالم العربي في هذه التحوّلات:

يعيش خارج الملعب العالمي! دوره في الحضارة والرؤية الاستراتيجية لمستقبل العالم حتّى عام 2050 تقريبا: بيع النفط والغاز وبعض المنتجات الأولية، لا غير.

مستقبلهُ قاتم في كل الجوانب المعرفية والاجتماعية والاقتصادية. شعاره اليوم، من وحي بيتٍ عربيٍّ قديم:

وما الذي يصنع الكوفيد في بلدٍ

لكِّ يومٍ له في الظلمِ كوفيدُ

الأميّة فيه وضعف الثقافة واسعة. الأرجل مقيّدة بمسلمات دينية وثقافية عتيقة لا تتزحزح، تسجنه ليعيش في عصر آخر. أنظمته قمعية متخلفة. الإنسان فيه مقهور ومكسور وحاقد على الحياة…

محور 1) الكتابة ضرورة أم ترف؟

ملاحظة حول السؤال: لم يوجِّه لي إياه أحد. أتوقعه ويخطر ببالي له رد جديد يوميا، أنساه اليوم التالي. يظل هناك رد ثابت لا يتزحزح:

هناك أسباب عامة (جميعها ضرورية لبقاء وسيادة الإنسان) يشترك فيها الجميع بشكل أو بآخر، وهناك أسباب خاصة تختلف وتتعدد تعدّدَ البشر (لا تخلو من الترف أحيانا).

الأسباب العامّة:

أ) أسباب اجتماعية تاريخية: الإنسان حيوان اجتماعي وتوثيق صلته بالآخر، عبر الحكي والسرد وتبادل المعارف، له أهمية مركزية مفصلية ضرورية وحاسمة في تاريخه التطوّري… هو منبع قوته التي جعلته يبقى ويسود.

قبل هوموسابيانس (نوعنا البيولوجي الإنساني الحالي)، وبعد هوموأبيليس (نوع بيولوجي إنساني سابق: الإنسان الماهر) ظهر “الإنسان الحاكي”: هومو نارانس الذي بدأ بالحكي وسرد القصص بلغات أوليّة بدائية.

معظم شغل الدماغ البشري، كما يراه سكانير الدماغ، مرتبط بالتفاعلات الاجتماعية مع الآخر، وسيناريوهات ذلك.

والكتابة (التي ظهرت قبل حوالي 5000 سنة، في وادي الرافدين: العراق) هي رابطُ العلاقة بالآخر الأكثر ديمومة وانتشارا. تحفظ الإنسانيةَ من النسيان والموت، وتسمو بها. تُجذِّر حضورها في الأبدية…

ب) أسباب ميتافيزيقية: “الإنسان حيوان خالق”، أودّ أن أقول. فكرة الخلق هوَسه، وحاجته لها بيولوجية. يخلقُ الآلهةَ دوما على شاكلته. ويجعلها تخلق الكون أيضا. ولا يتوقف عن خلق السيناريوهات والحكايات والروايات، مثلها. حياته الذهنية خلقٌ في خلق في خلق. نموذجه في كلَّ ذلك: “اللوح المحفوظ” أول رواية في تاريخ البشرية. يحاكيها بعد أن خلقها أيضا…

       ج) أسباب لغوية جمالية هندسية فنيّة:

“وطن المرءِ لغتُه”. فاللغة وعاء التفكير والثقافة والتاريخ والمشاعر. هي وطن الإنسان بامتياز…

ففي حين أنه عند ولادة نواة اللغة البدائية في تاريخ الإنسان التطوّري، لم تختلف كثيراً أُذْنُ الإنسان الحديث بيولوجياً عن أُذْنِ أجدادهِ الأول، وأبناءِ عمِّهِ من كبار القرود المؤنسنة. ثمّ، بعد إن استقام ظهره، لم يتوقّف بلعومه وحنجرته عن التغيّر والتطوّر البيولوجي، بشكل متوازٍ مع توسّع حجم دماغه وزيادة ملكاته خلال مئات آلاف السنين، لمواكبة احتياجاته اللغوية المتصاعدة لمزيدٍ من التواصل مع الآخر.

“كلُّ التاريخ الاجتماعي للإنسان نضالٌ لاستحواذِ أُذْنِ الآخر!”، كما قال كونديرا.

«وُلِدَت الاستعارة، إذن وُلِدَ الإنسان!»: عبارة في روايتي “تقرير الهدهد” مرتبطة بأحد سيناريوهات تحديد موعد ولادة الإنسان، من وجهة نظر “أبي النزول” (أي: أبي العلاء وهو يهبط نحو الأرض، في رحلة روائية معاكسة لرحلة روايته في “رسالة الغفران”)، وهو يستحضر تاريخ الإنسان منذ بدء الحياة على الأرض.

في ذلك تناغمٌ مع عبارة بوفون: “الأسلوب هو الإنسان”. أي الحمض النووي DNA للإنسان.

اللغة والتفكيرُ ثنائيٌّ تربطه علاقةٌ فيزيولوجية محفورةٌ في سيليسيوم الدماغ. يمكن تشبيهُ الكلمات بالطوبات التي تُبنَى بها العمارة، وتشبيهُ التفكيرِ بالأرضية والفضاء الذي تحتلُّه.

الجسر الذي يربط بينهما: الأسلوب، أشبهُ بالتصميم الهندسي الذي يتمُّ به إخراج عمارةِ التفكير وبنائها من طوبات الكلمات.

       د) أسباب حضارية تحريرية:

لِلّغة سلاحٌ ذو حدّين. “يمكن استخدامها للإعلام أو للتضليل والمخاتلة”، كما يقول شومسكي. من يمتلكها للتأثير على الآخر، إما بتخديره أو بتنويره، بإخضاعه أو بتحريره، يمتلك السلطة.

واللغة أيضاً سلاح التنويريين والأحرار والثوريين: بها يوقظون لدى الإنسان روح حبِّ الحرية. ينشرون التنوير والمعارف. يحرّرون الدماغ من تضليل ثقافة الطغاة والظلاميين وثوابتهم الأيديولوجية. يقارعون بها، عبر الأدب وبالخطاب التنويري، لغةَ التخلف والتقوقع والانكفاء. يؤججون الحلم، يفجّرون الأمل والبهجة، ويشيّدون ثقافة “حريّة الضمير” والانفتاح على الآخر…

يبدأ كل شيء بالكتابة والإبداع. الكتابة أوّلاً حربٌ ضدّ هدفِ السلطات القمعية الأوّل: النسيان. يقول كونديرا: “نضال الإنسان ضد السلطة، هو نضال الذاكرة ضد النسيان”. والثورة، كما نعرف، تبدأ من إعادة كتابة التاريخ بمفعول رجعي.

باختصار، كما يقول نيتشه: دور اللغة في تطوير الحضارة يَكمن في اتكاء الإنسان عليها لبناء فضاء متماسك صلب يهزّ به العالَم ويسيطر عليه.

الأسباب الخاصّة:

إفضاءُ وأرشفةُ تاريخ منسي (لبلد، مدينة، إنسان…)، حقيقي أو تخييلي، سينقرض لولا بصمات قلم الكاتب. يقول المتنبي:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي

إذا قلتُ شيئا أصبح الدهر منشدا

أمين معلوف: “لا يبقى من تاريخ مدينة إلا ما كتبه ذات يوم شاعر نصف سكران!”.

أي: كتابة الرواية هنا مشروع هندسي فني تخييلي خاص، ينضاف باسم الكاتب إلى مساهمات الأدب الإنساني.

سنتحدث لاحقا عن بعض الثيمات التي تطرّقتُ لها في تجربتي الروائية الخاصّة.

محور 2) الكتابة في زمن الكيتش

يلزم أوّلا تعريف “الكيتش”. الكلمة ذات أصول ألمانية. تستخدم في الفنون (وفي الأدب) بمعنى: إعادة تدوير القديم، إعادة استهلاك المعتقدات والصور التقليدية، والفنون الشعبية، بطريقة فضفاضة رديئة غالبا…

تستخدم كذلك في الخطاب السياسي في الأنظمة القمعية أو العقيمة: كيتش ستاليني، كيتش نازي، كيتش ديني ظلامي مقدّس…

بسبب عدم وجود حرية التعبير عربيا، وعدم بروز نهضة حقيقية وجدل فكري وتوجّه نحو الحداثة، وسيادة المسلمات الدينية والثقافية الماضوية الآسنة، فثقافتنا العربية الاستهلاكية المعاصرة: إمبراطوريةُ كيتشٍ بامتياز.

انظرْ إلى صحفنا الرسمية: لا تحتمل الصفحة قراءة دقيقتين. الأخبار تبدأ ببرقيات الزعيم، الذي هو نفسه مومياء كيتشية غالبا، يثير الضحك والقشعريرة معا.

الجهاز السياسي آسن، مشلول، رثٌّ في رث، كيتشٌ في كيتش.

اللغة نفسها ما زالت راسخة، كما هي تقريبا، منذ ما يسمّى بعصر الجاهلية. الصيغ القديمة سائدة، والتعابير الدينية مهيمنة كما هي…

حتّى القارئ غالبا قليل الانفتاح على الجديد، يعيش بروح كيتشية. إذا قرأ مرة لروائي قديم من القرن 19 مثلا (ديستوفسكي، ستاندال، هوجو… أو أحدث من ذلك: بروست، ستيفان زفايج، همنجواي، ماركيز، رشدي…)، لا يؤمن إلا به (كالإيمان التوحيدي، أو كالانتماء لثقافة الحزب الواحد)، ويريد أن يكون كلُّ الآخرين نسخةً من كاتبه المفضل والوحيد، ما لم هم فاشلون! دون أن يحاول الانفتاح على بحر الجديد الروائي المتجدِّد الذي يستند على تراث هؤلاء وغيرهم، ويتجاوزه باستمرار…

ثقافة التجديد مرفوضة في واقعنا من أساسه غالبا: من المدرسة وتربية الطفولة. هي ثقافة “كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”. بينما التجديد عصب الحرب، ألفا وأوميجا الحياة.

حدود البشرية هي حدود المقدرة على التجديد والإبداع. والفن مثل الأدب لا حدود لإمكانياته. الكيتش الردئ ينتمي لعقلية فرضِ الحدود. والصراعُ ضده صراعٌ بين اللاحدود والحدود، بين اللانهاية والنهاية.

الكيتش يتكئ على المسلمات والميثولوجيا والأديان والأيديولوجيات، فيما الأدب والفن لا يتنفسان إلا بالحرية.

مواجهة الكيتش هي نفس مواجهة اللغة الخشبية، التفكير الآسن، الثقافة المتداعية…: لا تتم إلا بنشر ثقافة الحرية، وتجاوز الذات بانتظام، والتجديد الدائم، بتحرير الخيال، بتفجير التساؤلات الدائمة، بالسخرية…

أبرز مثال على النوع الساخر، فقرة طويلة في رواية الغفران لأبي العلاء عندما يتم حوار بين ابن القارح وهو يصلي، وبين الله، بين ركعتين، حول حجم مؤخرة الحورية.

نص عبقري من أبدع ما يمكن، يسخر وينسف التديّن النفعي جنسيا، لكن بلغة وبلاغة دينية كيتشية أصيلة، مدججة بالآيات، تمنع أي ناقد، أو تكفيريّ، من رفضه.

ملاحظة أخيرة: يلزم التمييز بين الكيتش الصالح والطالح، الكيتش الذي يسخر من الكيتش، أو الذي يقلبه من الداخل، أو الذي يستخدمه لضرورات فنية…

عبارة هيرمان بروخ جوهريّة بهذا الصدد: “ثمة كيتش ردئ، جيد، وأحيانا عبقري!”.

محور 3) الأدب والرقمنة

حياة الإنسان المعاصر ترتبط عضويا بالعالَم الرقمي، إن لم تكن قد أضحت تابعة له، أو جزءا منه. (صرنا كبشر أقزام في لعبة الشطرنج بيننا وبين الكمبيوتر، نعيش كتوابع له في أمورٍ كثيرة، بسبب مقدرات جديدة له ك “البيانات العملاقة” BIG DATA.

هل سنصل كذلك، على صعيد الإبداع الأدبي أيضا، بعد 50، 100، أو ألف عام؟).

يلزم ملاحظة أن العالم الرقمي يقع اليوم في منبع ومصب هموم الأدب ومحتواه.

أ) المنبع:

وعاء النص الأدبي صار اليوم إلكترونيا، في الأساس:

       صار الموضع الرئيس للنص الأدبي الجهاز الإلكتروني، وعلاقته عضوية، عند الكتابة، بالبناء التحتي الرقمي للغة: موتورات الأبحاث، مدونة، موسوعات… وبضرورات الرقمنة والاسترقام…

ب) المصب:

العالم الرقمي يدخل بطرق عدّة في صميم تكوين النص الأدبي:

“التخييل التكنولوجي” مصطلح جديد له أنماط متنوِّعة: تعبير النص عن كل أشكال التفاعل مع العالَم الرقمي، دخول واقع الحياة الرقمية والذكاء الاصطناعي والروبوتات في النص الأدبي، النص الأدبي الفائق HyperText، مشاريع الإنتاج الآلي للنصوص: إملاء الفراغات أثناء كتابة الأديب؛ تحسين النص انطلاقا من تحليل البيانات العملاقة؛ تحوّلُ الكاتب إلى “ما وراء المؤلف” والكمبيوتر إلى كاتبٍ خادمٍ له؛ واستخدام “العصبونات الاصطناعية” وتقنية “التعلّم العميق” لالتقاط طريقتنا في تطوير وتحسين النص ثم استخدامها آليا، بدلا عنّا، بعد أول صيغة نكتبها؛ الانتاج الآلي للنصوص…

محور 4) جماليات الرواية ودورها في التحوّل

دور الرواية وجماليتها في هذا الإطار رئيس: ترسم شخوصا محورية مختلفة ومتنوعة، لا تغادر ذاكرة الإنسان، منذ انتيجون (مسرحية سوفوكل) الرافضة للقرار الظالم، وكوزيت وجان فالجان لهوجو الرافض للبؤس، ابن القارح لأبي العلاء، الجبلاوي لنجيب محفوظ، ذات ووردة لصنع الله إبراهيم…

وتحاول خلخلة المسلمات الثابتة الرجعية أو الظلامية في دماغ الإنسان، وترك شرخٍ مباركٍ فيه (يمكن تسميته مجازا: “تجلٍّ إلهي”).

ينتمي ذلك لِدور الكتابة التنويري الذي يسبق التحوّلات التاريخية الكبرى المناهضة للديكتاتورية، للعنصرية، للاستعمار… (دور القرن 18: قرن الأنوار في الثورة الفرنسية)؛ ودورها الجذريّ الذي يضمن انتصار الثورة: إعادة كتابة التاريخ بمفعول رجعي…

الرواية مفهوم دنيوي، يسير في اتجاه مخالفٍ للاتجاه اليقيني المقدس في الكتب الدينية: له أدوات كاسحة: التخييل، السخرية، التساؤل، الشك…

وسائله كثيرة، منها: تعدد الرؤيات بعدسات مختلفة، تبئير الصورة حول إنسان (مثال: “الشيخ والبحر” لهمنجواي)؛ التمثّل بالآخر المختلف في أي مكان في العالم والتوحد الوجداني وأيّاه؛ أخذ الوقت اللازم لسرد التفاصيل الصغيرة (هي مربط الفرس، غالبا)؛ البحث المثابر والصعب عن الكلمات الأنسب، لإخراج الخفي في اللغز الإنساني، الذي لا نستطيع التعبير عنه…

الرواية فنار يكشف البعد الانساني العام من خلال الانكباب على حيوات خاصة، ويضيء فضاء الحياة الإنسانية ويكشف أبعادها المجهولة.

هي أداة تسمح برؤية العام والمطلق في الخاص والعابر…

هي صورةٌ راديوجرافيّة لمراحل تاريخية في حياة هذا الشعب أو ذاك (مثال: رواية “طريق التبغ” لإرسكين كلادويل)؛ لسرد مغامرة الحياة الانسانية عموما؛ للغوص في أسرار الطبيعة الانسانية؛ لاستشرافات سيناريو لحظة تاريخية ما (مثال: رواية “الطاعون” لكامو)…

الأسلوب الأدبي غزوٌ ساحر للإنسان، شكل من أشكال “إرادة القوة”، حسب نيتشه. “تصغي فيه لاصطدامات عظام التفكير”، كما يقول أيضا في كتابهِ “بلاغة” الذي يحتوي على دروسه عندما بدأ حياته بروفيسورا في علوم اللغة، في جامعة بال.

فنّ الرواية، مثل بقية الفنون، له قوانينه الخاصة:

البحث المضني عن الكلمة الأنسب، عن تلافي التعابير الملتَبسة وطوفان الصيغ المكررة، عن بثّ القسط اللازم من الشاعرية والإيقاع في النصّ، لأن الرواية سيمفونية أيضا.

الكتابة الروائية عراكٌ دائم من أجل أسلوبٍ خاص وجميل، يلزمها ابتكار بنية خاصة، لذيذة، شفافة رقراقة؛ وعدم الوقوع في مطب اللغة الصحفية، التقنية، الخشبية (مثال: تلافي كثرة اسماء الموصول: الذي، التي… في النص الروائي)…

لا توجد معادلة للجَمال عموما. لعله ينبثق من تفاعل عناصر أولية كثيرة تقود إلى تركيبةٍ لها طعم خاص، لذيذ جدا. نطلق عليه اسماء مختلفة: سحر، وحي، تجلي… قديما اعتقد العرب أنها تأتي من جنّي (من قبيلة بني الشيصبان!) يسكن الشاعر:

ولي صاحبٌ من بني الشيصبان

فحينا أقولُ وحينا هوَ!

ابن شُهيد الأندلسي في “رسالة التوابع والزوابع” يُرسِّخ هذه الفكرة في قصة قصيرة خالدة، لم يمرّ فيها راويه امتحانَه أمام الجنّي، تابع أبي نواس، بسهولة:

((لم يجز تابعُ أبي نواس الشاعرَ في امتحانه في “وادي الجنّ والعفاريت”، قائلاً: “لله أنت!” إلا بعد أن ينشدهُ الأخيرُ أبياتٍ في وصف من “شربتْ أعطافهُا خمر الصِّبا، وسقاها الحسنُ حتّى عربدا”، تنتهي ب:

أحّحتْ من عضّتي في نهدها،

ثمّ عضّتْ حرّ وجهي عمدا

فأنا المجروحُ من عضَّتِها

لا شفاني الله منها أبدا!))

ليس صعبا ملاحظة أن أي خلل في جمالية النص يدلّ على وجود زيفٍ ما في الفكرة غالبا.

ثمّ كل كاتب يلزم أن يكون آدمَ مدرسةٍ جديدة في الكتابة والجماليات. “الباستيش” (تقليد أسلوب الآخر، خارج موضعه) موتٌ للكاتب (إلا إذا كان من باب المرح). على الروائي أن يميل إلى هدم الأيقونات بدلا من الانضواء لقطيع.

للجماليات أساليبٌ متعددة في التأثير: الشذوذ عن العادات في نقطة معينة مدهشة؛ الإدهاش عند تصميم لحظة “السقوط” الختامية؛ أسر أكبر مجموعة من منظومات عصبونات دماغ القارئ في الوقت نفسه…

باختصار: مفعول الصور البلاغية والموسيقى والتخييل حاسمٌ في النص: له دور تأثيريّ يتجه نحو عصبونات دماغ القارئ…

والأسلوبُ دم التفكير (حسب فلوبير). ترى فيه، كقارئ، مسامات الذات البشرية وأعماقها، تتفاعل معها، تتمثلها، تتحوّل بفضلها “أنا الآخر”…

محور 5) المدينة في الرواية

المدينة (الحقيقية: باريس، عدَن… أو التخيلية: واق الواق، اطلانطيس، دملان…) هي الهيكل الأثير غالبا للعمل الروائي. يحتضن بامتياز كل الأنواع الروائية.

هي كتابٌ لا نهائيّ التجدّد، متاهات، ملتقى طرق وبشر (تزداد تعقيدا منذ العولمة). تتداخل فيها الأسرار. تعيش فيها أشباح الماضي، وذكرياته.

هي شخصية الرواية الأكثر تعقيدا ربما.

والمدينة الحديثة منذ العولمة صارت بلا حدود، بلا مركز، في تطورٍ وتغير واضطرابات مستمرة؛

تعصف بها اليوم التطورات التقنية، إشكالية الهويات والأديان، الخراب البيئي، والجوائح (كما نراه اليوم، في زمن الكوفيد)…

لذلك ظهرت اليوم كلمة جديدة: سولاستالجيا: “ألم الاغتراب الداخلي”، بعد تَغيُّرِ المدن (بسبب تغير المكان السلبي في العقود الأخيرة، لأسباب عسكرية أو دينية أو سياسية).

وظهرت مفارقة عبارة “الحنين إلى الزمن الجميل”، بكلِّ ما فيها من وهمٍ ومجافاة للحقيقة.

في الرواية الحديثة، يختفي المركز. تذوب المدن، يزداد التنقل بينها. لم تعد فيها مدينة واحدة غالبا، بل عدة مدن.

ومدننا العربية اليوم: فضاءات تقوقع مستديم، سجون تحت سماء مفتوحة. يسكنها الخوف من الحاضر والمستقبل. لا حرية فيها عموما. بل انغلاق كليّ على العصر. هي قطعا امبراطورية الكيتش، بامتياز…

يهيمن عليها طيف الفقر والجوع والحروب الداخلية واللاجئين والمشردين والنائمين على قارعة الطرق؛ الصراعات الطائفية والعنصرية والقهر…

7) الكتابة وأسئلة المصير

هموم الرواية بلا عد، بعضها لا علاقة مباشرة له بأسئلة المصير: رواية سيكولوجية، تاريخية، غرامية… وثمّة همومٌ لغوية خالصة أحيانا، أو تأملية، فلسفية…

لكن بعضها يجد مادته في الأسئلة المصيرية الكبرى: حرية الإنسان وكرامته، رفض الديكتاتورية والفساد والظلمات، رفض الإعدام، مقاومة البؤس والاضطهاد والبيروقراطية، كشف حياة السجون والتعذيب…

فيما يتعلق بي، تتنوّع أعمالي بين هذين الاتجاهين:

== طائر الخراب (رواية ضد الطغيان).

== 3 روايات تنتمي لِثيمات مترابطة، جوهرية بالنسبة لي: الحرية، التنوير، الحرب الروحية ضد الظلمات: عرَق الآلهة، تقرير الهدهد، وحي…

عداهم هناك ثيمات أخرى (غير مرتبطة بأسئلة المصير مباشرة):

== أروى (ثيمتها عبارة محورية قاربها الكثيرون، كلٌّ بطريقته، منذ بدء السرد تقريبا: “الحياة ملك للمرأة، أي ملك للموت”)،

== حفيد سندباد (تنتمي لأدب الرحلات واستشرافات المستقبل والتجوّل في الماضي القريب)…

== ابنة سوسلوف: همومها الحرية، الربيع العربي، الثورات…

== دملان، والملكة المغدورة، همُّهما اليمن بالتأكيد، وتاريخها الحديث. لكنهما تذهبان أبعد من اليمن بكثير، وفي دملان خاصّة كتلةٌ هائلة من التخييل لاحظه روائيون بارزون…

7) الشخصيات النموذجية وصناعة الوعي الجمعي

تَحدَّثنا في أسئلة التحوّل عن صناعة الوعي الجمعي، بشكل غير مباشر. أحد وسائل ذلك الناجعة: إحياء شخصيات عبقرية عظيمة في تاريخنا، تمثِّل مرجعيةً، لا مثيل لها، لإخراجنا من هذه الهاوية الحضارية التي نهرول فيها.

اشتغلتُ كثيرا على شخصية أبي العلاء المعري في روايتي “تقرير الهدهد”، أعدتْهُ حيّا ليعيش في واقعنا المعاصر اليوم.

نحتاج لذلك كثيرا، ولدينا آخرون كم أتمنى أن أجد الوقت يوما لاستحضارهم روائيا لصالح وعينا الجمعي: الجاحظ، ابن رشد، الخوارزمي، ابن الهيثم، ابن بطوطة، ابن خلدون…

8) رواية معاصرة، تقنيات معاصرة

== الملاحظة الأولى: تنقصنا كثيرا كعرب أنواع روائية معاصرة مهمة وضرورية، نحتاجها كثيرا، لأن من دمجها بالأنواع الروائية السائدة، يمكن أن تولد أشكال جديدة ثريّة، تنضاف للتقنيات المعاصرة المعروفة العديدة جدا، مثل الواقعية السحرية، السريالية، تشظّي النص الروائي، التخييل الذاتي، ما وراء التخييل…

1) رواية التخييل العلمي:

رواية التخييل العلمي: تدور في عوالم غير موجودة، أو لم توجد بعد، لكن همَّها، في العمق، عالَمُنا. تخاف عليه من نهايات وخيمة، ومن عجلته المجنونة ومن تدمير الآلة له. تبحث أحيانا عن عالم أبسط، أكثر إنسانية.

رواية جورج أرويل “1984” نموذج لاستشراف الحياة في عالم شمولي (بالمعنى الأوسع: ديكتاتوري، ستاليني، نازي، ديني… أو أيضا عالم قمع الحريات، أو هيمنة الفكر الأوحد، كما في عصر العولمة المتوحِّشة، وسيادة الجافام GAFAM)…

في سلسلة السنوات، هناك سنةٌ روائية مرعبة؛ 1984، رقمها لا يُنسى، تبدو سنةُ 2020 كأنها اختها في الرضاعة! سنتُنا الماضية التي جنّنتْ بالجميع: 2020، تبدو كما لو كانت الصورةَ الرمزية (افاتار)، والتوأم الهولوغرامي لعام 1984، كما تنبأتْ به رواية أورويل! كل شيء فيه تقريبا كان قد تنبأ به جورج أورويل في روايته الخالدة:

دور شركات جافام (على غرار “الأخ الأكبر”، الذي “يراقب الجميع”) في الهيمنة الكلية على مقاليد الدماغ والتجسس الالكتروني واقتفاء الأثر والتعرف الآلي على الأوجه،

بوليس قمع الحريات، هيلوكبترات الرقابة (الدرون حاليا)، “الحقيقة البديلة” (على غرار خطابات ترامب) ل “وزارة الحقيقة” في الرواية، الشعارات الأيديولوجية التضليلية (على غرار “المستقبل هو الماضي” للظلاميين اليوم)، الشائعات الكاذبة (الفيك نيوز) التي تنتشر على نحوٍ فيروسي، مثلها مثل انتشار نظريات المؤامرة، غسل الأدمغة الدائم…

تنبأ أرويل بما نراه اليوم: آليات مسح أجزاء من التاريخ، من اللغة، واللجوء إلى معجم خاص: “النوفالونج”…

حتى سحق سفن اللاجئين في البحر الأبيض المتوسط لم تغب عن مولانا جورج أورويل!

تنبأ الدوس هوكسلي في روايته “أفضل ما في العالَم” بما لسنا بعيدا عنه: دولة عالمية واحدة، بإنتاج بيولوجي صناعي للإنسان (بمراتب ومقامات متفاوتة)…

أمّا فيليب ديك فقد تنبأ بكل القرن الواحد والعشرين تقريبا: الإنترنت، العوالم الافتراضية، الماكينات الذكية، الروبوتات القاتلة، “الفيك نيوز” و “الفيك لايف”: الحيوات الزائفة؛ وعلى نحوٍ خاص: الأكوان المتوازية (رواية جائزة غونكور الفرنسية لعام 2020، لإرفي لو تيليه: “شيء شاذ” تقع تحديدا وبامتياز في هذه المدرسة الديكِيّة).

حاولت في روايتي “حفيد سندباد” (دار الساقي) عمل سيناريو ل 3 أيام عصيبة في عام 2027 (في عالمنا الذي سيكون أكثر تطورا بقليل من عالمنا اليوم)، تنفجر خلالها أزمة دولية هائلة، نرى جذورها وآلياتها اليوم بأمِّ أعيننا.

مثل هذا النوع من الأدب ما زال بعيدَ التأثير عربيا، بل نخبويا أحيانا. السبب ربما: غرق الإنسان العربي في دوامة واقع اليوم الخانق؛ وربما لعدم استيعابه آليات حياة الحاضر، فما بالكم بالمستقبل؛ وربما لِضعف الثقافة والعقلية العلمية وشلل مقدرات تخييل القادم في ضوء جديد التكنولوجيا وتطوّر الحياة…

لكن هذا النوع ضروري جدا لتوجيه نظر القارئ نحو الآفاق القادمة.

استغربُ كثيرا لماذا لا تحاول الرواية العربية تصوّر العالم العربي في العقود القادمة.

نظريةُ المؤامرة، مع ذلك، شديدة الانتشار في عالمنا العربي. هي قطعا تعيسة وخطيرة في السياسة، لكن استلهام روحِها في الأدب شيء آخر، يمكن أن تنتجَ منه عوالم روائية بديعة!

2) الرواية السوداء (بولار):

ولد هذا النوع في منتصف القرن 19، مع تطور الثورة الصناعية والبناء الحضَري للمدن.

هيكلُ هذا النوع الروائي مؤسّس على استقصاء الجريمة، كشف سر…

لعل بدايته روايةُ ادجار بوي: “جريمتان في حي المشرحة”، ترجمة بودلير.

(ثمّة “بِاسم الوردة”، لامبيرتو ايكو، نموذج لرواية بولار مرتبطة بجريمة قرون وسطيّة، حدثتْ في كنيسة!).

في قلب هذا النوع: المدينة (أو موضعٌ جغرافي موبوء، أو متشظي). يعبرها مستقصٍ، له دور جوهريّ في الرواية، للبحث فيها عن السرّ الخفي، بالذكاء والأساليب العلمية. يُعاد تشكيل جغرافيتها أحيانا، بطريقة تخيلية، تخدم الهدف الروائي…

صراع الخير والشر حاد في هذا النوع الروائي، كما لو كان استمرارا للتراجيديات الأدبية القديمة.

البعد السياسي فيه جلي. مثال: الرواية السوداء الأمريكية في منتصف القرن ال 20 كان موضعها الرئيس: الحروب، الأزمات المالية والمافيا…

نحتاج عربيا كثيرا لهذا النوع. فلدينا مادة خام لا نهائية من القهر السياسي والبوليسي، وعنف اضطهاد وتعذيب سجون الديكتاتوريات، وقصص “زوّار الفجر”…  ويمكننا أن نكون بجدارة بطارقة هذا النوع الأدبي!

الملاحظة الثانية:

نحتاج بجانب هذين النوعين لحريات جديدة، قبل كل شيء:

صرنا كروائيين نخشى المراقب السياسي منذ هذا العقد الثاني، من القرن الواحد والعشرين، أكثر من العقد السابق له. لست متأكدا، مثلا، أن ثلاث من روايتي (أروى، عرق الآلهة، تقرير الهدهد) التي نشرتُها في العقد الأول، دون أي إشكالٍ (اللهم إلا إبعادها ربما من أي ترشيح لجوائز أدبية فقط)، يمكنها أن تُنشر الآن، في أي دار نشر عربي!

محور 9) إشكالية الحضور الفعلي للمتلقّي

في ظلّ الأمية السائدة (والفقر الثقافي) والحروب والجوع والبؤس العربي: كيف يقرأ، وماذا يقرأ الإنسان العربي؟ ما مستوى حضورة أثناء القراءة؟…

ألاحظ: المتلقّي أحيانا لديه إشكالية مع مفهوم الرواية (الدنيوي): لا يهضم مبرر التخييل (ويعتبره تزويرا!)، غَزَتِ الخرافات كل دماغه ولم يعد هناك متّسعٌ فيه لشيء آخر.

ثقافة التلصّص وعدم التجريد عند الكثيرين تقود أحيانا إلى قراءة استخباراتية: يقرأ المتلقي الرواية كما يقرأ تقريرا استخباريا، يبحث فيها عمّا يبحث المخبر.

ثقافة رفض حرية التعبير، لدى المتلقي والمراقب، تجعل الكاتب خائفا أحيانا، لا يستطيع التعبير الحر، أو استخدام الكلمات، كما يحب.

بالطبع، هناك أنواع ايجابية جدا، بل رائعة، من المتلقّيين، تندمجُ تماما بالعمل الروائي وتحاوره؛ تبحث فيه عن الانزياح مثلا، عن توسيع الرؤيا، التعلّم… لكن الإشكاليات التي أشرتُ لها، لا سيّما الأولى، خانقةٌ للروائي العربي.

محور 10) الكتابة واستشراف المستقبل

استشراف الآتي جزء من غريزة هوموسابيانس منذ فجر تأنسنِه. “استقراء ما وراء الأكمة” جملة تلخِّص هذا السعي الدائم الذي كان يهمّه لضرورات حياتية محضة. لِنلاحظ: لم تتحوّل الآلهة في حياته بهذه الأهمية، التي ترتعد بسببها فرائصه، إلا عندما تحوّلت مجرّدة، وانضافت لها صفة: علم الغيوب.

يهمّ الإنسانُ المستقبلَ لضرورات حياتية، كما يهمّه الماضي لمعرفة جذور الذات. وانعكس هذا الهوَس المستقبلي في الأدب الحديث على الرواية الاستشرافية عامة، ورواية الخيال العلمي خاصة، إحدى أرقى الأنواع الروائية وأكثرها تشغيلاً لِملَكات خيال المؤلف، وربما أكثرها صعوبة.

تتشكّل أمام أعيننا مداميك المستقبل الآن:

تقنيات اللقاح الجديد ضد الكورونا جديدة عبقرية، ومبرمَجَةٌ لتُستخدم للقضاء على أمراض عصيّة كالسرطان. “المقص الجيني” تقنية واقعية لها مستقبل رهيب. لن اتحدّث عن “الاستنساخ” والرحم الاصطناعي وغير ذلك من حقائق أرتجف عن تصوّر مستقبلها وإمكانية الانحراف في استخدامها.

القلبُ الاصطناعي صار جاهزا للبيع اليوم ب 15 ألف يورو، يُستخدم فعلا. الروبوتات الذكية تتكاثر ويزداد ذكاؤها بسرعة مدهشة. مشاريع الربط بين الدماغ البشري والكمبيوتر عبر أجهزة اصطناعية متنوّعة تبدو أقرب للخيال منها إلى الواقع، ومع ذلك هي مشاريع حقيقية، ستُغيّرُ بيولوجيا النوع الإنساني على المدى البعيد، وستقود إلى ما يُسمّى هوموديوس: الإنسان الإله!…

مستقبل تحالف الذكاء الاصطناعي والبيانات العملاقة سيقود ربما لهيمنة الكمبيوتر على الإنسان.

عام 2045 مبرمجٌ ليكون عام “التفرّد” الذي يُزمعُ أن يتحقق فيه هذا الإنقلاب المخيف…

أترككم تتخيّلون عام 7777!

في ظلِّ كل ذلك، أمام الكتابة الروائية حقول لا نهائية للاستشراف، ولإضاءة حياة الإنسان المعاصر.