“ما الحقيقة؟” سؤال متشعب عويص، يفرض نفسه اليوم في زمن “الفيك نيوز” (الأخبار الزائفة) التي تطرقنا لها بإسهاب في مقالين سابقين في “ضفّة ثالثة”، ومع ازدياد الحوارات والنقاشات الصحيّة، في الشبكات الاجتماعية وغيرها، حول مفاهيم برامج الإيمان وطرائق البرهنة.
سيستقيم شعر رأس من يبحث عن الإجابة عن هذا السؤال في نصوص فلاسفة الماضي أو الحداثة، أو في الكتب المدرسية ومقولات الأديان بأنواعها… من فرط غموض العبارات التي تشرح مدلول الحقيقة أحيانا، وتناقض المناهج للوصول إليها..
بعيدا عن عرض أي استشهاد، وعن تلخيص ردود الفلاسفة على هذا السؤال الأزلي الأبدي، الثابت والمتغير، سأحاول، مثلما يفعل جهاز “المنشور الضوئي” وهو يفكك ألوان طيف الضوء، تفكيكَ وبلورةَ مفهوم الحقيقة بعبارات بسيطة وأفكار واضحة، من منطلق العِلم والفكر الحديثين.
يحلو التمييز في البدء بين “الواقعة” Fact، كمسلمة لا يختلف حولها اثنان، مثل: 1+1=2، نهائي الدوري الأوروبي 2018 بين ليفربول وريال مدريد…
وبين مشروع الحقيقة Truth كطرحٍ فكريٍّ (نابع من تركيب ذهني تخييلي)، يُراد به أن يُعتبر حقيقةً دامغة، أي تعبيرا يتطابق مع الواقع ويوافقه.
لا يكفي، في رأيي، تعريف الحقيقة بأنها “تطابقُ الطرحِ مع الواقع”: يشبه ذلك تعريفَ “اللون” بأنه “الإدراك البصري لأحد أطياف الضوء”.
يشبهه في كونهِ تعريفاً مجرّداً، لا يسمن أو يغني من جوع تقريبا، ليس للأعمى فقط، ولكن للبصير الذي يريد أن يعرف ماهيات وأنواع الألوان، وتطوّرها عبر التاريخ، ولمن يريد رؤيتها بأم عينيه في نماذج كاشفة.
لذلك يلزم إجلاء مفهوم الحقيقة في كل مجال من مجالات المعارف على حدة: الحقيقة التاريخية، الحقيقة الغيبية (أو الحقائق الغيبية المتوازية، على الأحرى)، الحقيقة العلمية، الحقيقة الاستشرافية المسقبلية…
لعلّ مفهوم “الحقيقة التاريخية”، أي ما حدث حقا في الماضي، أفضل مثال يشرح تغيّر وتطوّر مفهوم الحقيقة عبر الزمن.
فقبل عصر الحداثة، لم تكن كتابة التاريخ إلا نوعا من النسخ والنقل لما قاله الأقدمون. وإن تعرّض سرد التاريخ أحيانا من قبل المؤرخ (الذي كان حينها كاتبا أو أديبا أو فقيها) إلى تحسين أو حذف فقرات يعتبرها ضعيفة، تثير شكّه أو عدم رضاه.
وبطبيعة الحال، لم تكن كتابة التاريخ الهدف الرئيس للفقيه، بقدر نشر رسالة دينية معينة. عندما يتحدّث مثلا عن موسى وفرعون، لن يذكر يوما متى كان ذلك، وعن أي فرعون يتحدث. إذ ثمّة سلسلة فراعنةٍ حكمت مصر، لها أسماء، ولتبوئها السلطةَ تواريخ.
وقد يُميّز ذلك “المؤرخُ” أحيانا بين النص التاريخي الأصلي الذي يعتبره مرجعا رئيسا، وبين صيغ النقل المختلفة اللاحقة له، والتي ينظِّف منها ما لا يناسبه، لكنه لم يكن لِيتجرأ يوما، قبل عصر الحداثة، التساؤل: ماذا لو كان النص الرئيس نفسه مجرّد تخييل؟ ماذا لو كان غير صحيح كليّة؟… لأنه كان يرى دوما أن كتلةً ما من الحقيقة تنطوي حتما فيه.
اختلف الأمر رأسا على عقب اليوم، بعد اللجوء إلى مناهج التنقيب الأركيولوجي لبرهنة الحقيقة، وإلى استخدام الفيزياء والكيمياء (لا سيما الكربون 14) لمعرفة زمن كتابة النص أو الحدث أو عمر الحفريّة أو الجثة، وإلى وسائل منهجية أخرى كثيرة للتأكد من صحّة ما قاله الأقدمون، وللإجابة الدائمة عن هذا السؤال: هل ما قالوه حقيقة يمكن برهنتها، أم هو مجرد تخييلٍ اعتبره الناس حقيقة خلال آلاف السنين؟
هكذا، لم يعد المؤرخ مجرد أديب أو كاتب، وإنما ناقد كاشف للحقيقة التاريخية المبرهنة، بوسائل علمية ولغوية حديثة.
لهذا السبب، اختلفت رؤية الإنسان الحديث لمفهوم الحقيقة التاريخية اليوم، عن إنسان ما قبل الحداثة. وتحوّل عددٌ لا يحصى مما كان يُعتبر حقائقَ تاريخية للأقدمين مجرّدَ تخييل ميثولوجي أو وهم أو فرضيات. لها جميعا ربما رسائل ووظائف اجتماعية معينة، لكنها بكل بساطة لم تحدث إطلاقا.
أنتقلُ الآن إلى “الحقيقة الغيبية”، كوجود أو عدم وجود الآلهة والكائنات الفانتازية والعالَم الآخر، ومسائل الإيمان أو عدمه بها.
فلكونها جميعا ليست فرضيات علمية (بل دينية أو غيبية)، فالبحث عبر العِلم عن برهنةٍ “رياضية” أو منطقية لوجودها، أو لدحضها، عبثيٌّ بالضرورة.
لذلك، هناك مشاريع حقائق متعددة ومتوازية في هذا المجال، يمكن الإيمان بها لمن أراد، أو عدم الإيمان بها.
وثمّة في الواقع أطروحات شتّى تؤمن بأنواع مختلفة من الآلهة والكائنات الغيبية، وتعتبرها حقائق. وثمة أيضا أطروحات عديدة مناقضة ترفض ذلك.
لمعاينة تطوّر مفهوم الحقيقة مع مرور الزمن، في مجال الإيمان الغيبي، يكفي قراءة أنموذج التجربة الإغريقية. لعل كتاب “هل آمن الإغريق بأساطيرهم؟” للأستاذ في كوليج دو فرانس: بول فيين، مرجع ثريٌّ جدا.
قد يبدو غريبا فعلا أن الإغريق، الذين أسسوا مفاهيم العقل والديمقراطية ووضعوها في قلب حضارتهم، كانت لهم علاقة خاصة بأساطيرهم وتاريخهم الميثولوجي: آمن الجميع بها، لا سيما العامة، بدرجات متفاوتة، وبنماذج وبرامج إيمانية متنوعة (لم يوجد، مثلا، أحدٌ حينها لم يعتبر “حرب طروادة” حقيقة تاريخية!)، ولم يذهب أحد منهم لرفضها الجذري عبر البحث عن الحقيقة التاريخية بالمناهج الحديثة.
لعلّ عبارة أفلاطون: “كوننا لا نمتلك وسائل لتحرّي هل الأحداث العتيقة حقيقية، فنحن نعمل ما نستطيعه ليقترب الزيف أكثر ما يمكن من الحقيقة” تلخّصُ كيف تعامل فلاسفة الإغريق مع تاريخهم الميثولوجي.
أما في ما يتعلّق بـ”الحقيقة العلميّة” في الرياضيات (وعلوم الكمبيوتر النظرية كابنةٍ لها) وعلوم الفيزياء والكيمياء والحياة، فمن المهم ملاحظة أن إقرار واعتماد الحقيقة العلمية هنا (من قبول أو رفض) يخضع إلى إشارة خضراء من بعض المجلات والمؤتمرات العلمية الدولية المتفق عليها.
يلزمك، عزيزي القارئ، إذا أردت التأكد من خبر اكتشاف علمي أو عدم شعوذة من تسمّى شخصية علمية هنا وهناك، الإجابة عن سؤال: في أي مؤتمر نشر بحثه؟ وما قيمته؟
الحقيقة الرياضية “مُطلَقة”، لا يختلف حولها اثنان بعد برهنتها ومراجعتها وقبولها، أكانت ببساطة “نظرية فيثاغورس”، أو “مجموع زوايا المثلث (في الهندسة الإقليدية) يساوي 180 درجة”، أم معقّدة كبرهان “فرضية فيرما” التي تمّت برهنتها مؤخرا، في أكثر من 120 صفحة، بعد أن بدّد آلاف الباحثين في الرياضيات، منذ منتصف القرن السابع عشر، أعمارهم في البحث عن برهان يؤكد أو ينفي صحة الفرضية.
الجدير جدا بالذكر أن مفهوم الحقيقة الرياضية نفسه عرف ثورة هائلة في عام 1931.
فليست كل فرضية رياضية تنتهي بعد البرهنة باعتبارها صحيحة أو خاطئة. ثمّة مآل ثالث (“ضفّة ثالثة”)، اكتشفه عالِم المنطق الرياضي الشهير، جودل: بالإمكان البرهنة رياضيا بأنه يستحيل برهنة كون بعض الفرضيات صحيحة أو خاطئة.
هي، بعبارة أخرى: “غير قابلة للتحقيق الإيجابي أو السلبي”.
ثمّة قائمة مسائل رياضية تنتمي لهذه القبيلة التي تقبع في “الضفة الثالثة” من ضفتي الصواب والخطأ.
لعلّ استعارة “الكاذب الدائم الذي يقول: أنا أكذب” تساعد على تقريب هذا المفهوم العميق: لا يمكن قبول مقولته كحقيقة، لأن ذلك يعني أنه ليس كاذبا دائما.
ولا يمكن اعتبارها كاذبة. لأن ذلك يعني أنه لم يكذب عندما قالها، مما يتناقض مع كونه كاذبا على الدوام.
أما الحقيقة العلمية في الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة فهي أيضا حقيقة مبرهنة بدلائل تجريبية ومختبرية ورياضية شتّى. لكنها تتطوّر غالبا مع الزمن: تتّسع ويتم تجاوز بعضها بحقائق أخرى، تُطوّرها في مجالات وسياقات جديدة. كحال نظرية النسبية لآينشتاين، وتجاوزها لقوانين ميكانيكا نيوتن التي تظلّ مع ذلك جوهرية وصحيحة في نطاقٍ محدّد.
كما يجدر التذكير بأن مفهوم الحقيقة في فيزياء “الجسيمات اللانهائية الصغر” مثير جدا، ويختلف عنه في الفيزياء التقليدية: تلعب نظرية الاحتمالات فيه دورا جوهريا، يتجاوز نطاق مقالنا.
وله قيود معرفية لا يمكن تجاوزها، كـ”مبدأ الريبة” لهايزنبرغ، في عام 1927: لا يمكن قياس موقع وكمية حركة الجسيم اللانهائي الصغر، في الوقت نفسه، إلا بدرجة معيّنة من الدقة.
أما “الحقيقة الاستشرافية” للمستقبل فيلزم الإصغاء لها بعين نقدية شديدة، لأنها لا تختلف غالبا عن قراءة الفنجان!
المستقبل القريب، فما بالكم بالبعيد، لا يمكن التنبؤ به عموما.
من تنبأ بالهواتف الجوالة، التي غيّرت كل حياتنا الآن، قبل 20 عاما من اليوم فقط؟
من تنبأ بسقوط جدار برلين قبل أسبوعين من سقوطه؟
ثمّة مشاريع علميّة للعقود القادمة، سترسم بالتأكيد بعض ملامح المستقبل (مثل مشاريع الذكاء الاصطناعي التي تحدّثنا عنها في أكثر من مقال في “ضفّة ثالثة”)، ويمكن دراستها لاستشراف بعض اتجاهاته، لكن الحقيقة المستقبلية حبلى دوما بالصدفة والمفاجآت، وتحتاج إلى بروميثوس لينتزعها من دماغ علّام الغيوب!
عبارة محمود درويش، في كتابه “أثر الفراشة”: “الخطابة هي الكفاءة العالية في رفع الكذب إلى مرتبة الطرب. وفي الخطابة يكون الصدق زلّة لسان”. ليست تعريفا للخطابة، ولا نسفا لها كفنٍ رئيسٍ، وملَكةٍ يلزم تعلُّمها وتطويرها.
بل تتجّه، كما يبدو، بالنقد والإدانة لنوع معيّن من الخطابة الأيديولوجية السائدة في مجتمعاتنا العربية: خطابة القائد السياسي عموما، وخطابة رجل الدين الذي يرفض مواكبة الزمن.
كلاهما يقودان غالبا للحفاظ على الطغاة وناهبي الشعوب، ولتجميد العقل أو محاربته.
أما الخطابة عموما، فهي فن شفاهي بلاغي راق، شديد الأهمية لحياة الإنسان، لا سيما اليوم أكثر من أي وقت مضى.
يستطيع المرء بفضل جودتها إقناعَ الآخر بفكرة أو مقترح، شرحَ رأي أو نظرية أو بحث، التفاوضَ السياسي أو التجاري أو الاقتصادي، الحصولَ على عمل أمام لجنة اختيار، إنهاءَ حرب أو الدفاعَ عن مظلوم… بل كل شيء تقريبا.
لأن الإنسان حيوانٌ اجتماعيٌّ متكلّمٌ في البدء. لغته هي كل ما يميزه عن سائر الكائنات الحيّة.
الخطابة فنٌ مظلوم، ليس في مجتمعاتنا العربية فقط، حيث صار ملكاً للسياسي الكاذب أو الواعظ التبليدي، مما حدا بمحمود درويش إلى قول عبارته، لكن في كثير من مجتمعات الغرب أيضا، حيث تعطى الأهمية في المدرسة الابتدائية وحتى الثانوية للكتابة أساسا، فيما تعلُّمُ الخطابةِ وفنُ الأداءِ الشفوي وتوصيل الفكرة قاصرٌ في الغالب.
قاد معاينة هذا القصور اليوم إلى إصلاحات هامة في برامج التعليم (كما هو حال فرنسا مثلا)، تسمحُ بتدريس فن الخطابة والعرض الشفوي منذ الابتدائية، ووضعها كمادة أساسية في امتحانات الثانوية العامة، تُلزم الطالب النجاح في “امتحان شفوي حواريٍّ واسع”، يقتضي منه ملَكات خطابية بلاغية إقناعية، وثروة قاموسية ضرورية من كلمات متجددةٍ تنثال انثيالا، بجانب مواهب إبداعية في عرض الفكرة والمرافعة والردّ السريع الحيوي الفطين على الأفكار المعارضة، وفي فنِّ الاستشهادات وجذب المستمع دون إطالة ثقيلة أو لوكٍ أو اضطراب أو لخبطة وثغثغة، وغير ذلك من مقدرات حصيفة ثمينة..
ففن الخطابة والحديث عملٌ اجتماعيٌّ في الأساس: يساهم في نشرِ الأفكار والمعارف، إثراءِ اللغة، رفعِ مكانة الفرد ودوره وآرائه ورؤاه، تعزيزِ الجرأةِ وابتكار الذات الحرّة المستقلّة، وتوطيدِ جسور المواطنة والتعاضد لرؤيةٍ جمعيّةٍ أفضل للعالَم.
لعلّ ذلك ما دعا الثورة الشبابية الفرنسية في 1968 لإطلاق شعارها: “كفى أفعالا، نريد أقوالا!”، الذي يُرادُ به قلبُ دور المواطن: من متلقٍّ يؤدي تكليف المجتمع له بخضوعِ جنديٍّ صامتٍ مطيع، إلى دورٍ فاعلٍ مؤثرٍ مستقلٍّ رئيس، يؤكد به ذاته ويضمن ازدهارها وإشعاعها الدائم.
المفارقة الكبرى: حضارتنا العربية التي أنجبت من انتزعَتْ حياتها من براثن شهريار بفضل الخطابة السرديّة، شهرزاد، صارتْ مقدراتها الكلامية اليوم حكرا في الأساس على ذوي اللغة الخشبية من السياسيين والمثقفين، أو أنصاف الأميين من الحكام، أو ببغاوات الخطاب الديني التجهيلي، والظلامي غالبا.
إذ تطوّرت في حضارتنا العربية الخطابةُ والسرد وفن الكلام والبيان عموما، في العصر العباسي، أيّما تطوّر، إثر توسّع نفوذ الإمبراطورية والحاجة للتأثيرِ والإقناع والحشد، وبفضل انتشار حركة الترجمة والتأليف والانفتاح على العالم، وحيوية مجالس العِلم والمساجلة والمنادمة الكلامية والإبداع…
كتب الجاحظ في تلك الفترة كتابه الثري: “البيان والتبيين” الذي نظّر لِعِلم البيان، بِبُعدَيهِ اللفظي والدلالي، ودرس بنيةَ الخطابة وعلاقتها بالمستمع، وفنّ “فصل البيان”، ونماذجَ خطباء العرب منذ ما يسمّى بـ”عصر الجاهلية” الذي كان عكس تسميته: عصرا ذهبيا في ممارسة “حريّة الضمير” (حرية أن تؤمن، لا تؤمن، أو تغيّر إيمانك؛ التي تمثّل اليوم أساس الدساتير المتطوّرة الحديثة) وفي فن الخطابة والازدهار اللغوي.
انتكس فنُّ الخطابة في نهاية العصر العباسي، وتواصل انحطاطه عموما، ليصل اليوم إلى هذه اللحظة التي تعاني فيها ثقافتنا من شلل جذري. يسودها الخطاب السياسي والثقافي بلغته الأيديولوجية الخشبية وأفكاره المتحجّرة، أو الدينية النقلية الآتية من زمنٍ عتيق.
للإغريق الدور الأهم في إعطاء الخطابة مكانها الرئيس كنشاط إنساني يمثّل جذوة الحياة الاجتماعية، وكفنٍّ لغويٍّ وبلاغيٍّ يتطلب مواهب وثقافة عالية وملَكات يمكن تنميتها وتطويرها على الدوام.
تأسست الثقافة الإغريقية على مفهوم الجدل والمرافعات وتبادل الحجج.
عشقَ الإغريقُ المناظرات والحوار والبرهنة التجريبية أو النظرية، لاستخلاص الحقيقة من تصادم واختلاف وجهات النظر والفرضيات. قادهم ذلك إلى عدم التطرف في الرؤية الأحادية.
يكفي رؤية موقف هوميروس المحايد من طرفي حرب طروادة، لدرجة أن بعضهم ظنّ أنه، هو الأثيني، منحازٌ لِطروادة.
خلقتْ هذه الأرضية قاعدةً عقلية تجعل الإيمان بالحقيقة التي تأتي بجعبة من السماء (عبر ملاكٍ ساعي بريد، يحمل الحقيقة الغيبية المطْلقة) غير ممكنٍ كثيرا، إن لم يكن أشبه بنوع من الخمول الفكري وموت العقل.
كمثلٍ بين أمثلة بلا عد: الفصل الأول من أوديسة هوميروس يبدأ باجتماع برلمان الآلهة. يفتتح الإله الأكبر زوس الاجتماع، ثم تبدأ الإلهة أثينا مداخلتها.
لا تنجح جلالتُها إلا بعد مرافعات عديدة.
والفصل الثاني من الأوديسة يبدأ باجتماع برلمان أثيكا.
مزاج الحوار والجدل لاكتشاف الحقيقة عريقٌ هناك.
“الحقيقة التي تأتي عبر الوحي ليست فكرةً إغريقية”، كما قالت، بحصافة، متخصِّصةٌ كبيرة بتاريخ الإغريق.
كان لِساحات “المنتدى” (أجورا بالإغريقية، فوروم بالرومانية) موقع رئيس في المدينة الإغريقية: هي قلب المدينة، مركز تأسيسها، قبل توسّعها في كل الاتجاهات. وهي مرتع الخطابة والجدل اليومي، الحوارات الدائمة، وفيها قاعات الإدلاء بالأصوات، ومحلات فرزها..
قاد ذلك اليوم إلى حضارة غربية، مرجعيتها: الثقافة الإغريقية القديمة (وليس التراث المسيحي)، تؤمن بأن الحقيقة لا تنبع إلا من التفاعل ومرور التيار بين قطبٍ من الأسئلة وقطبٍ معاكسٍ آخر، ومن البرهان العلمي (بالتجربة المختبرية أو بالدليل الرياضي، بالكربون 14 أو بحمض الـ DNA، بالتحليل اللغوي للنصوص أو بالنقد التاريخي…).
شعارُها: في البدء كان التساؤل والشك والجدل والبرهان.
تختلف في ذلك عن حضارتنا العربية التي تبدأ الخطابة فيها غالبا (مثل التفكير عموما) بالاستشهاد بنصٍّ دينيٍّ أو أيديولوجي، لأنها تعتبر الحقيقة قد هبطت ذات يوم بواسطة وحي سماوي أو مقولات أيديولوجية.
وتنظر لذلك باتجاه أنبوبيّ انطلاقا من مسلّمات غير مبرهنة (قد تكون حقيقة، وقد تكون دجلا لا غير) وتعيش على نحو مقنَّنٍ وموجَّه، شعارُه:
في البدء كان الوحي الذي يهبط من السماء أو المقولة الأيديولوجية التي لا مساس بها.
أمّا في تلك الحضارة الغربية التي تريد اليوم إعطاء أهمية أكبر للخطابة (حدّ تعليمها، كفنٍّ يساعد على ابتكار وتطوير الذات، في مناهج المدارس قبل الجامعية)، تُبرمِج الإصلاحات التعليمية الجديدة تدريس الطالب لِبنيةِ صناعة الخطابة التي تنسجم مع فلسفة هذه الحضارة.
ترى هذه الفلسفة أنه ينبغي للخطابة التي تريد عرض فكرة، أو توجيه خطابٍ إقناعي، استهلالَ الخطابة بمدخل حرٍّ إبداعي، يجذب المستمع من أول لحظة ويكسبه عاطفيا لصالح مرافعةِ الخطابة وفكرتها (وليس على غرار بداية نموذج خطبتنا السياسية أو الدينية التي تُستهلُّ باستشهاد أيديولوجي أو بنصٍّ ديني، من أوّل فقرة وجملة).
كمثال ناطق: بداية مرافعة أحد المحامين الفرنسيين وهو يدافع عن غجريٍّ متّهمٍ بقتل وتقطيع جسدِ امرأةٍ مسنّة. افتتح مرافعتَه بهذه الكلمات:
“تذكّرني هذه القضية بطفولتي! كنت صغيرا، وكان يومها زمن الهجرة. كنتُ أرى، من نافذتي، أفواج الغجر الشريرين، مثل أحصنتهم، وهي ترحل أكداسا وراء أكداس”…
هكذا، يجد المستمع نفسه مع الخطيب في نافذته، يرى ما يراه، ويتماهى مع مشاعره. ثم يسترسل المحامي مرافعته:
حينها، أتت أمّي لتأخذني بيدي، وتقول: “صغيري: انظر إليهم، لعلّهم يسرقون دجاجنا، يسرقون أرانبنا، لكن يجب أن نحبِّهم: هؤلاء آخر البشر الأحرار!”.
لن أسرد هنا بنية الخطابة، كما تُدرَّس في كليات الحقوق، ولا كما شرحها الجاحظ، أو أرسطو في كتابه التأسيسي الفذّ لفن الخطابة ونماذجها الأسلوبية، ومنهجية التأثير على بسيكولوجيا المستمع: “بلاغة”، لكني أودّ الإشارة فقط إلى فنّ توزيع لحظات الصمت أثناء الخطابة.
يقول أبرز محاميي فرنسا دوبون موريتي: “أن تَفرضَ صمتك، يعني أن تفرضَ خطابكَ وإيقاعك. عندما أتحدث أو أرافع فأنا ملِك اللحظة. توزيع لحظات الصمت أثناء الخطابة يساعدُ على استرعاء النظر والتشديد على المعنى، وعلى منح المستمع لحظةً للتأمل”.
تذكّرني هذه العبارة بما يقوله النحات السوري الكبير، عاصم الباشا، عن دور الفراغات في تماثيله. لها، كما يبدو للعين المجرّدة، دور تعبيري قوي، إذ تملأ حيزا مثل بقية أجزاء تماثيله!
في فراغات تماثيله، كما في لحظات صمتِ ذلك المحامي، ثمّة شيءٌ ما يُشبِهُ دور الصفر في قائمة الأعداد: هو ليس “لا رقم”، لكن رقمٌ يلعب دورا جوهريا رئيسا في قيمة العدد وفي عملياته الحسابية.
اختتم مقالي بعبارةٍ نصفُها الأوّل للوزير الفرنسي المثقف (الذي يعود له قانون “إلغاء الإعدام” في فرنسا: روبير بادنتير)، ونصفُها الآخر لهذا المحامي الشهير نفسه: “المرافعة مثل انتصاب الذكر، والإقناع مثل لذة القذف!”.