“زينديجي هيه”، هنا الحياة!
حبيب سروري
أجرا، مدينةُ “تاج محل”، الهند. الثامنة من صباح 21 أكتوبر 2015.
كنتُ واقفاً في ركنِ شارعٍ شعبي، أحدِّق في منظرٍ يتكرَّر بشكلٍ أو بآخر في كل شوارع الهند، لعلّهُ أدقُّ وأفضلُ ما يلخِّصُها:
على يميني سبعة صبيان يلعبون كرة القدم. على يساري طاولة بائعٍ شعبيٍّ لِفطائر وتوابل لاذعة. أمام الطاولة بضعةُ شباب واقفون يتناولون فطورهم. آخرون يغرفون بوعاءٍ ماءً من برميل ملتصق بالطاولة يغسلون به وجوههم، وبعض أعضائهم الحميمة.
شابٌّ آخر واقف قرب البرميل، يرقص من صبح الله الباكر على أغنية جماعية، يصغي لها من جهاز آيبود في أذنيه، تتسلّل أنغامها إلى أذنيي. عرفتها سريعاً: إحدى أغاني فيلم الموسم البوليودي: “شاندار” الذي شاهدتهُ البارحة…
للتذكير: بوليود، على وزن هوليود، اسمٌ يطلق على استوديوهات السينما الهندية، في بومبي.
كتبتُ على الطائر في مفكّرتي الإلكترونية:
((“زِندِيجي هيه”: “هنا الحياة”! في نهاية كل رحلة لأيّ بلد يراودني خوفٌ أزرق من أن لا أعود له مرّة أخرى، لسببٍ أو لآخر. أتلو في أعماقي دعواتٍ غامضةً بالعودة إليه من جديد. لكن خوفي مضاعفٌ هذه المرة: أخشى أن لا أرى مرّة ثانية منظر هؤلاء الشباب الذين يلعبون الكرة بسعادة في ركن كل شارعٍ هندي، وهؤلاء الواقفين لتناول الفطور، وكل ما يمرُّ بينهما:
بقرٌ بوهيمي حرّ، جميلات عليهن فساتين الساري الأنيقة السعيدة، فيلٌ فاتن يتمخطر بصمت، جِمال تجرُّ عربات بضائع أو علب “الدابا والا” (*) للفطور في المكاتب، دراجات تاكسي، كلاب، عربات توك توك، غنم، رجالٌ ب “فُوَطٍ” ملوّنة (تنّورات) تشبه الفوط العدَنية التي يضعها الرجال بدلاً من البنطلونات، مواكب احتفالات دينية هندوسية راقصة بهيجة، ألوان متجدّدة…
أعشق هذه “الماسالا” (*) الهندية، سأختنق إن لم أعد لها مرّة ثانية!))
التقيتُ في العصر طويلاً في مقهى بِمراهقٍ شكى لي خيبات حبّهِ المكسور، وقرأ لي قصائد غرامية كتبها بالإنجليزية تحكي أوجاعه.
كتبتُ مباشرةً في صفحتي على الفيسبوك منشوراً عنه من سطرين، اختتمتهُ ب: “ألمهُ بوليوديٌّ بامتياز!”.
ردّت عليّ “رفيقةٌ” عزيزة: “لا تسخر، أو تستهِن بهذا المراهق!”.
لعلّها، هي المعادية للهيمنة الإمبريالية مثلي، تردِّدُ بلا وعي تأثير الثقافة الاستعمارية التي علّمتنا الإعجاب بالسينما الغربية، واعتبار ما عداها دونيّاً. صدَمَني في الحقيقة تعليقُها المخلص، أنا المغرم بسينما بوليود، والهندية عموماً التي يفتخرُ بها الشعب الهندي أيّما فخر. وذلك منذ طفولتي العدَنيّة المترعة بالثقافة الهنديّة، الآتيةِ من عصر انتماء عدَن للكومنولث.
علّقتُ:
((عزيزتي: أعتبرُ السينما الهنديّة مدرسةً في الكوميديا الغنائية، في الدراما اللاذعة، في اشتعال العواطف. أحب ملامستها ومعالجتها الحميمة للقضايا الاجتماعية، براءتها، بهجتها، فلسفتها الإيجابية في عالَمِنا الذي يغرق في السوداوية والآفاق المغلقة، جراء سيطرة قوى المال المتحالفة عليه مع “غافا” (غوغل، فيسبوك، آبل، أمازون)، وجرِّهم سيرورة الحياة البشرية اليوم في اتجاه مصالحهم الأنانية، التي تتباعد عن مصالح الكوكب، والبيئة، وحرية الإنسان.
أعشق الهندَ، عزيزتي، أعشق غناءها الجماعي، رقصها الذي يحتفل بالحياة. أغني على الدوام عندما أكون في بلاد إنديرا غاندي: إنديا ماي إنديا!)).
ثمّة سحرٌ هنديّ يمغنطسني لا أعرف وصفه. لكن للهند موعدٌ قريبٌ منّا جميعاً، ليس كمنبعِ سحرٍ شرقيٍّ لم يعد يجذب كثيراً أحداً في عصر الروبوتات الذكيّة، والسيّارات بدون سائق، والطائرات بلا طيّار، وخاتم الإنترنت السحري الذي يحمل لنا من منجم “البيانات العملاقة” كلّ ما نبحث عنه ونتمناه.
ولكن كعملاقٍ إقتصاديٍّ علميٍّ وتقنيّ، نُمُوّهُ وتنميتُه يرتفعان من عام لعام، سيهيمن على حضارة الغد، بجانب ثلاثة أو أربعة عمالقة أخَر.
فمعدل سكّان الهند سيتجاوز الصين في عام 2030. لكن انفتاحَ هذا البلد وجذبَه سيكون أشدّ من الصين التي يعزلها سورٌ صينيٌّ أبديّ عن العالَم: لغتها ذات الأسس والفلسفة الخاصّة.
فيما يتحدّث الجميع تقريبا في الهند بالإنجليزية، ويستطيعون الحوار مع العالَم كلّه بسهولة.
ثمّ للهند فلسفةٌ في الحياة نحتاج أن ننهل منها، ونحتذي بها أحياناً. فلسفةٌ تجعل اندماج أهلها ببلدهم، رغم الفقر المدقع هنا وهناك، عميقٌ جداً.
فحسب الإحصائيات المتخصِّصة لا يفكِّر إلا 27٪ من سكان الهند في الهجرة للعمل خارج الهند، بينما تصل النسبة إلى 45٪ في بولندا، وتصل إلى نصف المسافة بين النسبتين في الصين.
غير أن ثمّة ظاهرةً لمستُها بقوّة وأثارتني شخصيّاً كثيراً جدّاً: طلّاب الهند الجامعيون.
طلّاب العالَمِ خارج الهند، كما ألاحظ في فرنسا، أوربا، الصين، أمريكا، والعالَم العربي… يتغيّرون من عامٍ لعام، من سيءٍ في نظري إلى أسوأ، منذ أن عزلَتهم كليّةً سمّاعات الآيبود حول الآذان وأضحتْ ديدَنهم الدائم. ولم يعد أحدٌ يُكلِّم بسببها أحد.
لم يعد ثمّة إمكانيةٌ لِسؤالِ أحدٍ في الطريق أو في محطة، طالبٍ أو غير طالب، عن موقع عمارةٍ مجاورة: الردُّ اليوم في الآيفون الذي صار أيقونةَ الجميع، ورفيقَهم الحميم الدائم، وشفّاطَ نظراتهم معظم اليوم.
أما طلاب اليوم فلا يستطيعون عدم النظر إليه كل خمس دقائق، حتّى وهم وسط محاضرة. بسببهِ فقدتْ أدمغتُهم المقدرةَ على تحمُّلِ رؤية صيغةٍ رياضيّةٍ على سبّورةٍ خلال دقيقتين.
طلاب اليوم: ابناء عصر الصورة الرقمية. الآيفون باليد اليمنى، الآيباد باليسرى، والماكينتوش بالوسط، والعينُ على ساعةِ آبل في المعصم. لو كانوا يقرأون على شاشتها على الأقل: “هكذا تكلَّم زرادشت” لنيتشه، أو “رسالة الغفران” لِأبي العلاء المعرِي لخفَّ غضبي قليلاً.
إذا كان مستواهم التقنيّ اليوم عالٍ جدّاً بالنسبة للأجيال السابقة، فمستواهم العلمي والمنطقي أكثر فأكثر ضعفاً وضحالة، لأسبابٍ عديدة مرتبطة بجوهر اتجاه حضارتنا الجديدة.
عددٌ كبيرٌ منهم لا يعرف ما يعني في الرياضيات: “شرط ضروري وكاف”، أو فكرة “البرهان بالتناقض”… ومع ذلك هم في منتصف دراستهم الجامعية في الهندسة والعلوم أحياناً!…
تختلف هذه الظاهرة في الهند كما لاحظتُ شخصيّاً وأنا أعطي دروساً ومحاضرات فيها، وكما شاركني الرأي زملاء درّسوا وألقوا محاضرات في دولٍ عديدةٍ مختلفة. جميعنا منذهلٌ من طريقة إصغاء وتلقّي الطالب الهنديّ، وحبِّهِ للرياضيات والعلوم النظرية في الكمبيوتر وغيرها. ومقدرته على التركيز طويلاً للبحث عن حلٍّ وبرهان قد يأخذ منه ساعات.
صِرتُ وزملائي نفسِّر ذلك، ونحن نبلع حسراتنا، ببركات ممارسة اليوجا في الهند!
إذ صار ذلك نادرٌ، بل مستحيلٌ في بلدٍ آخر يبحث فيه الطالب عن الحلّ الجاهز، لأي تمرين أو سؤال، بفضل الإنترنت، وينتظر من العلوم أن تكون غذاء ماكدونالديّاً سريعاً جدّاً…
في المساء، أحبّ سياقة دراجة مع أصدقاء هنود وزملاء أجانب في الشوارع والضواحي الهندية. أجدُ نفسي في طرقٍ ضعيفة الإضاءة غالباً، تتخلّلها النتوءات والحفر.
أعود أحياناً بوشمٍ صغير في المعصم والركبة، يسعدني جدّاً في الحقيقة لأنه يذكّرني ب “إنديا، ماي إنديا”، بانتظار زيارةٍ أخرى.