هل عفا الزمن على “حق تقرير المصير”؟

حبيب سروري

 

هل أضحى “حق تقرير المصير” مفهوما بائتاً، لا محل له من الإعراب في عصر العولمة اليوم، بعد فشل كلٍّ من مناصري استقلال كاتلونيا وكردستان العراق في التقدم نحو بناء دولتين مستقلتين ذات سيادة، إثر انتخابات إشكالية؟

 

قد يبدو في الحقيقة أن الرغبة اليوم في الانفصال السياسي غير متناغمة مع روح هذا العصر الذي تهمَّشت فيه معظم الحدود: انهارت عوائق حركة رؤوس المال، واندمجت شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي والمعلومات والمعارف الإنسانية، وصارت لِشركات التكنولوجيا الكبرى: غافا (غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون، وغيرها من السلطات العابرة للحدود) سلطةٌ على حياة الإنسان في كل لحظة، أقوى من سلطة الدول الوطنية، في أكثر من مجال.

 

ناهيك عن أن حاجةَ قوى المال والتكنولوجيا، التي تقود زمام الدنيا، تكمن في عالَمٍ بدون عوائق، يتّجه على المدى الإستراتيجي البعيد صوب فضاءٍ جيوسياسي أرضيٍّ واحد، تُسيِّر دفّتَه حكومةٌ دوليّة واحدة (كما يلاحظ كثير من المفكرين والإستراتيجيين)!

إذ لا يغيظ هذه القوى العملاقة شيء أكثر من أن ترفض أو تؤجل قبولَ مشروع من مشاريعها دولةٌ ما من دولِ العالَم.

 

ثمّ إن تجارب الحروب الدولية الدائمة التي دمّرت البشرية خلال كل تاريخها، لاسيّما الحربين العالميتين الأخيرتين، قادتْ كثيرا من دول العالَم، وفي مقدمتها أوربا، إلى الإيمان المطلق بضرورة اندماجها وتعزيز تعاضدها التجاري والثقافي، وتعلّمها جميعا مبادئ “الحياة معاً”.

وهذا ما فرضته أوربا على نفسها عندما توحّدت في كينونة مندمجة يربطها إتحاد مالي واقتصادي وتجاري وتعليمي وثيق، يتعزّز أكثر فأكثر باتجاه نمطٍ من الإتحاد السياسي والعسكري أيضاً.

 

ثم لِنلاحظ كم تغيّرت الرؤية العالمية اليوم لِمفهوم مِلكية هذا الشعب أو ذاك لأرضه، بسبب الكارثة البيئية التي تنتظر كوكبنا جرّاء انغلاقه داخل بيضة من غازات الاحتباس الحراري: صار كل شعب أشبه “بمستأجر” لأرضه، لا مالكٍ لها، يلزمه احترام قواعد عامة للحياة فيها، يحتاجها ويفرضها جميع سكان المعمورة.

 

لِمجمل ذلك، قد يبدو “حق تقرير المصير” اليوم يسير باتجاهٍ معاكس لأمواج سيرورة حياة البشر، على الطريق الذي انخسف فيه مبدأ “ديكتاتورية البروليتاريا”!

 

لحسن الحظ، ليست الأمور بهذه الحتمية المطلقة، وإن كان الاكتفاء بترديد “قدسية” مبدأ حق تقرير المصير “الذي لا يرفضه إلا الطغاة وأعداء طموحات الشعوب”، بلغة خشبية مبرمجةٍ على نحوٍ بافلوفي، دون تحقيق شروطٍ تنسجم وطبيعةَ العصر، وعلى نحو إنسانيٍّ مبتَكرٍ بعبقرية لِيتلاءم وكلَّ شعب على حده، يقود حتما إلى الخيبات والفشل.

 

ثمّة اليوم في الحقيقة عشرات الحركات التي تنادي بحق تقرير المصير، لأسباب شتّى: طرد الاستعمار الأجنبي، “الانتقام” من ضيمٍ وقمعٍ إثنيٍّ عريق، الانغلاق في كينونة إثنيّة، مقاومة الاضطهاد وعدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي وحق هذه اللغة المقموعة أو تلك الثقافة الجريحة بالازدهارِ هما أيضاً (بجانب اللغة والثقافة السائدة)، الأنانية الاقتصادية وطموحات الفساد…

 

الشرط الأول لِلفتِ نظر العالَم لحق هذه الحركة الشعبية أو تلك في تقرير مصيرها هو امتلاكها مشروعا إنسانيّا لا يميل إلى العزلة، يدمجها بالعالَم، بما فيه كيان الدولة التي تريد الانفصال عنها؛ وبرنامجا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وصحيّا مفصّلاً جذابا يقنع العالم بقبول أعباء الانفصال ونتائجه.

 

لم يكن للحركة الانفصالية الكاتلونية مشروعا مفصّلا مثلاً. ومشروعها الاندماجي بالعالَم: “أوربا الأقاليم” الذي يضم 95 إقليما، لا يجذب أحد. لأن إدارة أوربا بعدد دولها الحالي (27 دولة) صعبٌ بحد ذاته، فما بالكم ب 95 دولة بطاقيات أقاليم؟!

لعله شبيهٌ بمشروع الحركة الانفصالية الفلاماندية في بلجيكا، التي هرب نحوها زعيم إقليم كاتلونيا بعد أن صار مطلوبا للعدالة، جرّاء إعلانه انفصال كاتلونيا من جهة واحدة، دون موافقة أسبانيا على ذلك.

 

الشرط الثاني، الأكثر صعوبة والبالغ الأهمية، هو تحقيق تقرير المصير عبر سيرورةٍ برنامجيةٍ طويلة الأمد، تقبلها معظم دول العالَم لاسيما المجاورة للدولة التي يُرادُ الانفصال عنها، تنسجم مع دستور هذه الدولة، وبموافقة معظم أطرافها، وعبر مفاوضات سياسية يخرج منها الجميع مرفوع الرأس، وبعد انتخابات بإشراف دولي تتفق جميع الأطراف على آلياتها، وعلى تحديد مكوِّنات “جسدها الانتخابي”…

 

أعترف: ليس سهلا هذا الشرط عندما تكون جارتك دولة لها مصالح معاكسة كإيران، وعندما تظن أن تبعيتك المطلقة لدولة قوية كأمريكا هي خاتم سليمان الذي سيحقق كل أحلامك الانفصالية. أو عندما يكون دستور الدولة الأم التي تريد الانفصال عنها دستورا عتيقا كحال أسبانيا، كُتِب عقب خروجها من عصر الديكتاتورية، ولم يتطوّر مذّاك: لا يعترف بحقوق الأقليات في الانفصال.

ومع ذلك، يمكن، وإن لا يعترف الدستور الوطني بحق الانفصال، الانطلاقُ من روح المبادئ الدولية الحديثة، لِخوض مفاوضات ترغم الدولةَ الأم على الموافقة على إجراء انتخابات حق تقرير المصير، كما فعل أهل إقليم الكيبيك الكندي، وإن باءت تلك الانتخابات الانفصالية بالفشل.

 

لعل أنجح نموذج لمشروع انتخابات تقرير المصير، ينسجم مع مجمل هذه الشروط، هو ذلك المبرمج لعام 2018، في مستعمرة فرنسية منذ أكثر من قرن ونصف: كاليدونيا الجديدة، على تخوم شرق أستراليا.

 

اندلعت، كما يتذكر الجميع، حركةٌ ثورية لاستقلال كالدونيا عن فرنسا، صاحبَتْها أحداث عنيفة في العاصمة نوميا، في الثمانينات من القرن المنصرم، تفجّرت بقوّة في عام 1988.

تولّى رئيس الوزراء الاشتراكي حينها، ميشيل روكار، تصميم آليات تلك المفاوضات بين ممثلي الحركات الاستقلالية الكالدونية والمناهضين لها.

انتهت المفاوضات بعد عشر سنوات باتفاق 1998 الذي ينصّ على برنامجٍ لمدة عشرين عاما، يتمّ فيه إلغاء الاستعمار الفرنسي رويدا رويدا، وتحقيق برنامج تنموي لكالدونيا، قبل بدء استفتاء تقرير المصير، عام 2018.

 

تغيّرت الحياة جذريا في كالدونيا خلال هاتين العشرين عاما. لم تعد باريس توجِّه فيهلا، في الجوهر، غير المهام “الملَكية”، Régaliennes: الأمن، الخارجية، الدفاع… مع إعطاء حقوق جديدة كثيرة للسكان ذوي الأصول المحلية.

 

لم تتغيّر مع ذلك مطالب الانفصال والسيادة الكاملة للفصائل التي نادت بالاستقلال في الثمانينات، من أجل بناء دولة حرّة مستقلّة، تتعانق مع سياقها الجغرافي، وتتبادل المصالح مع الدول المجاورة لها، كما تريد هي، وليس كما تريد فرنسا القابعة في أقصى الأرض.

 

بيد أن رؤية هذه القوى الانفصالية للاستقلال تغيّرَ كثيرا: صار الطالب الكالدوني يتساءل مثلا: “ما مصير مِنَح إراسموس، التي تسمح للدراسة في أوربا، لو انفصلنا؟”، وأمسَتْ أعينُ الجميع محملقة حول مستقبل التنمية فيما لو تم الانفصال الكلي فعلا.

ولم يعد أحد من القوى الاستقلالية يريد الانفصال لأجل الانغلاق على الذات، ولكن لئلا تظلّ بلدُه سفينة فضائية تدور حول فرنسا، التي يزمعُ نسجَ علاقة قويّة من طراز جديد معها. لكنها علاقة بين دولة مستقلة ومستعمِرٍ سابق.

 

تغيّر كل شيء هناك في الحقيقة: لم يعد أحد يرى أن المواطنين ذوي الأصول الفرنسية ليسوا من شعب كالدونيا، بل هم، بعد دهر من الحياة المشتركة، جزء لا يتجزأ من شعبٍ متعدّد الألوان.

ومن جهة أخرى، ثمّة قطاع واسع من الشعب الكالدوني يريد الاستمرار بصيغة الحياة الحالية في “حضن” فرنسا، بعد عشرين عاما من التعايش الإنساني، والعمل السياسي البنّاء المشترك.

 

في كل الأحوال، كانت المفاوضات الأخيرة بين الطرفين، في 2 نوفمير 2017 الماضي، لتحديد “الجسد الانتخابي” لمن سيجيبون على سؤال تقرير المصير، العام القادم: “مع أو ضد الاستقلال الكلي عن فرنسا”، جيّدة، كما يبدو، بمستوى تاريخ تجربة ذلك الحوار الديمقراطي المتأصل.

لعل في تجربة حق تقرير المصير الكالديوني شيءٌ ملهمٌ لذوي الألباب!