موسم عدم الهجرة إلى الشمال

حبيب سروري

لعلّ أسخن المواضيع التي تشقّ أوربا اليوم: لجوءُ المهاجرين إليها هربا من الحروب أو جور الحياة وبؤسها في بلدانهم، عبر سفن الإنقاذ التي تقودها المنظمات الإنسانية والمتطوعين الأوروبيين.

تفجّرت الأزمة على نحو خاص قبيل أيّام، بعد رفض إيطاليا استقبالَ سفينة “أكوارويس” التي تحمل 625 لاجئا أفريقيا، وما تلى ذلك من تيهِ السفينة وتشرُّدِها، لبضعة أيام، قبل أن تفتح إسبانيا لها الباب أخيرا.

قاد ذلك إلى اجتماعات ليلية لقادة أوروبا، حتى الصباح، كشفتْ عورات خلافاتهم، ومدى تصدّع مواقفهم إزاء موضوعٍ بهذه الحساسية، ذي أهمية استثنائية على مستقبل القارة وتركيبها السكاني.

المفارقة التي قد تبدو لغزا هنا: انخفض عدد المهاجرين كثيرا مؤخرا، بعد موجات لجوء أعوام 2014ـ2016، لا سيما 2015 الذي حمل لأوربا وحده أكثر من مليون لاجئ. انفتحت لاستقبالهم حينها أبواب أوروبا، لا سيما ألمانيا وإيطاليا واليونان وفرنسا…

لماذا انغلقت إذن الأبواب الآن، فيما عدد اللاجئين ضئيلٌ جدّا إذا ما قورن بالماضي؟

ليس السبب وحده، في رأيي، مرتبط بالواقع السياسي الأوروبي حاليا: تخندقُ بعض دول أوروبا الشرقية كالمجر وبولندا وسلوفاكيا والتشيك (التي شكّلت معا مجموعة سياسية ترفض استقبال اللاجئين)، ووصول اليمين المتطرف إلى الحكم في إيطاليا، وتغيّر ميزان القوى في حكومة ألمانيا لصالح مناهضي ميركيل المنادين بتضييق الاستقبال وخنقه.

السبب الأهم يرتبط بدراسات جيوسياسية حول توقّعات مستقبل الهجرة في العقود القادمة: أوروبا قارة عجوز، تشيخ بسرعة مقلقة، وجارتها أفريقيا قارة شابّة، يتضاعف سكّانها بسرعة أُسِّيَة.

سكان الأولى اليوم 510 ملايين نسمة، والثانية مليارٌ وربع.

في عام 2050، سيكون سكان الأولى 450 مليون نسمة، والثانية ملياران ونصف.

كلّ النمذجات الرياضية لتوقعات المستقبل الديموغرافي للقارة العجوز تقول بأنه سيصل إلى أوربا بين 150 و200 مليون أفريقي حتى عام 2050!

لذلك تعدّ أزمة اللاجئين أكبرَ الأزمات التي تواجه القارة في هذا القرن.

يلاحظ المراقب أن كل الأطروحات والمواقف الأوروبية لمواجهة الأزمة تتماوج بين قطبين: قطبُ من يريدون فتح الحدود واحتضان أكبر عدد ممكن من المهاجرين، على نحو إنسانيٍّ خالص. وقطبُ من يريدون تحويل أوروبا إلى قلعة موصدة الأبواب، مستحيلة البلوغ، على نحو أنانيٍّ مقيت.

قبل التعرض إلى أطروحات هذين الطرفين، يلزمني القول: لم أر أحداً يناقش كيف يلزم تغيير نمط الحياة الأوروبية، وتخفيض ساعات العمل، وتحسين الظروف الاجتماعية، على نحو يسمح بمزيد من الإنجاب فيها.

البحث عن حلٍّ لهذه المسألة سيغربل بالضرورة أسس الحياة الرأسمالية (التي تقود اليوم آليا إلى الهروع المجنون وراء الربح السريع، والعمل والتنافس الدائم، وإن على حساب جودة الحياة الخاصّة التي تدعم وتضمن الرغبة بالإنجاب، دون قلق من المستقبل!).

ليس موضوعنا هنا هذا الإغفال المدهش لنقاش جذر الأزمة الديموغرافية الأوربية. تُهمّني في هذا المقال أطروحات القطبين.

أكثر ما صدمني شخصيا، في طيّات تصريحات القطب الأناني الانغلاقي، تصريحُ وزير داخلية إيطاليا عندما قال للّاجئين، حالما وصلت سفينة أكواريوس قرب شواطئ بلده: “انتهى عيدكم الآن!”.

عن أي عيدٍ يتحدث؟ عيدُ ركّابٍ تركوا وراءهم كل شيء، غرقَ ونُهِبَ منهم من غرق ونُهب، اغتُصِبَ جنسيا منهم من اغتُصِب؟

ركّابٌ مسحوقون حتى العظم، اشتروا مقاعدهم في السفن التي قادتهم إلى أوروبا بمبَالغ خيالية (هذا إن جاز لي إطلاق تسمية “مقاعد” على بضعة سنتمترات مربعة يقفون فيها كأعواد الكبريت، لا يستطيعون قضاء حاجتهم طوال الرحلة)؟!

في القطب (الذي تُمثِّل أنجيلا ميركيل وجهَه المشرق) المعاكس لوزير الداخلية الإيطالي، ثمّة أوروبيون يطوفون البحر لإنقاذ الغرقى، ويُقدِّمون كل ما بمقدورهم لِتنظيم استقبال القادمين.

بعض عباراتهم الكريمة تظلّ راسخة في البال، كهذه العبارة الملائكية التي ترفع عاليا قيم الثورة الفرنسية وثقافة حقوق الإنسان:

“الأفغاني الذي يحلم بالحياة في فرنسا أكثر فرنساوية من الفرنسي الذي يعمل كل شيء لمنعه من الوصول إليها” (بان مواكس، “اخْرُجْ”، دار جراسيه).

لعل أصول هذه القيم الإنسانية، في أوربا، أقدمُ من الثورة الفرنسية بكثير. تعود بالتأكيد إلى جذر نشوء أوروبا: الحضارة الإغريقية في القرن الخامس قبل الميلاد. قرن الديمقراطية والمسرح والفلسفة والتراجيديات…

(ثمّة كثيرون ممن يريدون إضافة جذرٍ آخر لها: الحضارة المسيحية. لكن الرأي السائد يقاوم ذلك: الحضارة المسيحية تمثِّل فعلا جزءاً هاماً من تاريخ أوروبا، لكنها ليست جذرا تأسيسيا له. ناهيك عن أن موقعها السابق قد انكمش كثيرا اليوم في عصر العلمانية).

أليس عوليس، بطلَ أوديسة هوميروس (القرن الثامن ق.م) ومخترعَ فكرة حصان طروادة، أوّلُ مهاجر في التاريخ الأوروبي إذا جاز القول، عندما حطّ في جزيرة بعيدة (لعلها أوسيكا، في خليج نابولي) حيث وجدته الأميرة الاستثنائية الجمال، نوسيكا ووصيفاتها، غارقا في الطين على الشاطئ، عاريا تماما، قبل أن تحتضنه في مملكة أبيها هناك؟

المدهش جدا: أزمة الهجرة التي نعيشها اليوم، والحل الإنساني الذي يساند الترحيب والاستضافة للّاجئين، كان موضوع مسرحية مؤسس التراجيديات الإغريقي اسخيلوس: “المستجيرات”، Les suppléantes، في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، التي تعتبر أول مسرحية إغريقية معروفة!

بطلاتها ليبيّات (دانائيات، بناتُ داناوس: حاكم ليبيا). يهربن من أفريقيا عبر البحر رفضا للزواج بأولاد أعمامهن، ويلجأن إلى أحد شواطئ أرجوس في بلاد الإغريق.

يطلبن اللجوء من حاكم البلاد الذي يقبل ذلك رغم الحرب التي تنتظره بسبب قراره.

ثم تتفجر حربٌ، يخسرها ملك أرجوس، وتتوالى أحداث جسام، تنتهي باندماج الدانائيات بأهل أرجوس والتزاوج معا.

الجدير بالذكر: تم تمثيل هذه المسرحية مؤخرا في مدينة لافال بفرنسا، بطاقمٍ من اللاجئين الحقيقيين الذين وصلوا فرنسا مؤخرا.

مثّل كل واحدٍ منهم دورَه بِلغةِ بلده (بما فيها العربية)، وطعّمَ المسرحيةَ بشذراتٍ من تجربةِ هروبه الشخصيّ!

ثمّ أليست أوروبا بطبيعتها قارةُ مهاجرين، “ميثولوجيا تأسيسها مرتبطة عضويا بالهجرة”، كما قال الفيلسوف الألماني المرموق بيتر سوتيردجيك؟

يُذكِّر الفيلسوف بأن ملحمة فيرجيل: الإنياذة (المتأثرة جدا بالإلياذة) تحوي روايةً أوروبيةً تأسيسيّة:

يهرب فيها أحد أبطال مدينة طروادة (حاليا في تركيا)، مكتوف اليدين وهو يرى مدينَته تحترق أمام عينيه.

تقوده الآلهة إلى موقعٍ يؤسس فيه مدينةً جديدة: روما!

ختاما، بين هذين الوجهين لأوروبا، البغيض المنغلق جدا والمضيء المنفتح جدا، يقع حل أزمة اللاجئين: التنمية والديمقراطية والعلمانية والحريّة، في كل دول العالم، وليس في الدول الغنية منه فقط. وتمتين التعاون الدولي على أسس إنسانية جديدة. ومساعدة الدول الفقيرة عبر مشاريع تنموية جوهرية.

ستضمحل بفضل مجموع هذه السياسات أسباب الهروب واللجوء الاضطراري.

بانتظار ذلك، لا حلّ غير استقبال المنكوبين ومساعدتهم على بناء حيوات جديدة في أوطانهم الجديدة، أو العودة إلى ديارهم لكن في ظروف أفضل.