من علّمني حرفاً، كنتُ له ندّاً

حبيب سروري

لعلّ احتضار الموسوعات الورقية، وازدهار الموسوعات الرقمية، هو أفضل رمزٍ يكثِّفُ معالم حضارتنا المعرفية الجديدة.

 

مثل غيري، اشتريت بكل سعادة في فجر التسعينات موسوعة يونيفارساليس (بالفرنسية) إحدى أشهر موسوعتين عالميتين، وندّة موسوعة بريتانيكا (بالإنجليزية): حوالي 40 مجلداً سميكاً فخماً ساهم في كتابتهم بعض أهم علماء العصر.

أخذتِ الموسوعة حيزاً مهمّاً من مساحة مكتبتي، ولزمني أن أشتري كل عام مجلداً جديداً لتصحيح بعض معلوماتها التي تتغيّر مع الزمن، أو لِتحديث معلومات أخرى، أو لِإضافات.

 

كبر حجم المجلدات من عامٍ لعام، صعب التنقّل في غاباتها مع مرور الزمن، وقلّت رغبتي أكثر فأكثر في التنقّل من مجلد فهرسٍ أو تحديثٍ، إلى مجلدٍ سابقٍ ثمّ أسبق، قبل الوصول إلى المجلد الأصلي.

في البدء، كنتُ أغرق فعلاً في الموسوعة مرّة كل أسبوعٍ تقريباً، ثمّ مرّة كل شهر، ثمّ أمست زياراتي لها نادرة جدّاً، بعد أن صرتُ أتوجّه نحو موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت عدة مرات كل يوم، أنهل منها يساراً ويميناً وأنا ألاحظ أنها تجيب على معظم أسئلتي أفضل فأفضل…

 

أضحت مجلدات موسوعتي الورقية اليوم متحفاً لحضارة قديمة اندثرت، بفعل هذا العالَم الجديد الذي يصنع المعرفة الرقمية بطرقٍ جديدة: تفاعليّة وتعاضديّة يصنعها جميع سكّان الأرض، لم تخطر على بال أكبر الروائيين قبيل عقدين فقط.

 

فموسوعة ويكيبيديا الرقمية، التي سنتناول بعض أوجهها هنا، تُحرَّرُ بمختلف لغات الأرض، مجّانيةٌ حرّة، يصيغها من يريد من البشر والجامعات والمؤسسات. عدد موادها، في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال، أكثر من 17 مليون مادّة، خمسة ملايين منها باللغة الإنجليزية، حوالي مليونين بالفرنسية ومليونين بالألمانية، حوالي مليون ومائتي ألف مادة باللغة البولندية، ولا يزيد عن 400 ألف بالعربية، وإن كان أغلب مواد لغة الضاد مجرد ترجمات لعناوين مواد لغاتٍ أخرى، أو لملخصاتها فقط!

 

بفضل ثرائها هذا، صارت ويكيبيديا المرجع الموسوعي المعرفي الرئيس للجميع. وانقرضت بعدها تقريباً الموسوعات الورقيّة، مثلها مثل القواميس التي صارت صيغها الرقمية هي السائدة والأكثر استعمالاً فيما صيغها الورقية على طريق الاختفاء.

 

غير أن ويكيبيديا غابة هائلة تنمو وتتطور وتتغيّر يوميا، ونحن صنّاعها جميعاً. ينبغى عدم قراءتها بعقلية “من علّمني حرفاً، كنتُ له عبداً” التي لا تصنع غير السلبية والرضوخ والتخلف واستمرارية التقوقع، ولكن بعقلية “من علّمني حرفاً، كنتُ له ندّاً”.

يلزم مع ويكيبيديا الإضافة اليومية لموادٍ جديدة من قبل كل قارئ، ونقد الصفحات الموجودة أحياناً على نحوٍ إيجابيٍّ يساعد على تطوير وتوسيع محتواها.

ويهمّ قبل ذلك تصحيح المعلومات الخاطئة من قبل القارئ؛ لا يوجد أسهل من تغيير محتوى صفحة ويكيبيديا في أغلب الأحيان، ليظهر التغيير للعالَم مباشرة بعد ذلك، عدا بعض الصفحات التي تديرها مجموعات لا تتركها مفتوحة لتصحيح الجميع. يلزم حينها تواتر الضغط من أجل تغييرها، لأنها تظلّ معلقة وقتاً طويلاً أحياناً.

 

أغيّر شخصيّاً بين الآن والآن بعض المعلومات، لاسيّما في المجالات العلميّة، أو أضيف شيئا ما للناقصة. ويؤسفني أحيانا تعليق بعض تصحيحاتي كهذا الذي أضفته قبل عدّة أيام للصفحة الخالصة ب “وادي عَبْقر” الميثولوجي السحيق؛ حيث، كما يعرف الجميع، كان لكل شاعرٍ في الجاهلية قرين يلهمه الشعر: لافظ بن لاحظ قرين أمرئ القيسِ، هاذر بن ماهر قرين النابغة الذبياني… وعندما يقال للمرء إنه عبقري، فذلك نسبةً للوادي.

يعرف الجميع أن الوادي الخيالي يقع في اليمن، أو نجد. يقول الصاوي : “عبقر اسم قرية في اليمن”. لكن في صفحة ويكيبيديا التي حرّرها أحدٌ من نجد، اكتفى بوضع الوادي في دياره.

أردتُ فقط أن أضيف “هو وادٍ يقع في اليمن أو في نجد” وما زلتُ لسوء الحظ أنتظر قبول التعديل!

 

تحاول ويكيبديا، كما تقول، أن تكون حيادية. سهلٌ جدّاً ذلك في القضايا العلميّة والمعرفية، لكنه صعبٌ في بعض المواضيع السياسية أو الدينية. التيارات الدينية، والأيديولوجية التي تموّلها السلطات، تحاول بشراسة وذكاء تسريب أدبيّاتها باستمرار لكتابة تاريخها وتسريب أفكارها.

ولأن الأقوى هو الأكثر حضوراً على ويكيبيدا والأكثر استخداماً له، فليس غريباً أن تصدمنا أحيانا المعلومات التي تتسرّب في بعض صفحاتها السياسية أو الدينية، حتّى وإن كانت مكتوبةً بالعربية فقط، وللعرب لا غير، ولا ينوي أحدٌ ترجمتها للغة أخرى.

 

لكن الصدمة ليست هي الحل. الحل هو الحضور المضاد، للتصحيح، أو لعمل صفحات موازية تنشر الحقيقة العلميّة أو التاريخية.

كمثل: الصفحة الخاصة بكلمتي “الثورة السورية” تقود إلى خمس صفحات: “الثورة السورية الكبرى 1925″، “ثورة الثامن من آذار”، “الانقلاب العسكري في 1966″، الحركة التصحيحية في 1966″، “الحرب الأهلية السوريّة”.

يتم تعريف الأخيرة في أول سطرٍ من صفحتها ب: “الحرب الأهلية السوريّة، أو الأزمة السوريّة، أو الثورة السورية، أو الانتفاضة السورية” بهذا الترتيب المتناقض وغير البريء، فيما صفحة “مضايا” تسرد تاريخ المدينة في إطار تاريخ الثورة السوريّة، وحُدِّثتْ سريعاً لتشمل، بموضوعيّة ودقّة، حصار المدينة في 2016 وتجويعها والموقف الدولي.

 

لعل هذه الخاصيّة المثيرة لويكيبيديا الذي يكتبها ويغيّرها الملايين، ويشتدّ فيها حضور المجموعات الأيديولوجية في مواضيع محدّدة تهمّها، منبع قوة لا حدّ له، ونقطة ضعفٍ يلزم التنبّه لها أثناء القراءة.

فبدون قراءة نبيهة متمعّنة يمكن بسهولة الوقوع في مطبات ويكيبيدية مثيرة.

مثال شهير: حذف أحد الطلّاب بعض الفقرات من صفحةٍ على الويكيبيديا، وسردها كما لو كان قائلها في امتحان مدرسي. ثمّ اعترف بسرقته عقب تصحيح الامتحان، مبرراً ذلك بأنه قام بتغيير الصفحة لمدة أسبوعٍ فقط، لئلا يرى أستاذه عند تصحيح ورقة امتحانه أنه شفط فقرات منها. لكنه أعاد للصفحة محتواها، كما كانت عليه، بعد أن نال درجةً رفيعة في الامتحان بسبب الفقرات المسروقة!

 

مثال شهيرٌ آخر: قضّى أستاذٌ إجازة صيفة في تغيير موادٍ كثيرة على ويكيبيديا بطريقة خاطئة زائفة، ليمتحن مقدرة طلّابه على القراءة النقدية للنصوص وامتحان نباهتهم ومستوى تحليلهم للمعلومات التي يقرأونها!

اكتشف، وهو يصحّح نتائج امتحاناتهم، أنهم يقرأون ويعتنقون ما يقرأونه دون تمحيص!

 

وأخيراً لنتذكّرْ: ويكيبيديا جزء من منظومة واسعة تضمّ على سبيل المثال فقط: ويكي الكتب (مكتبة كتب عامة مجانية)، ويكي الجامعة (مواد تعليمية مجانية)، ويكاموس (قاموس حر)، ويكي الاقتباس (للأقوال المأثورة والمشهورة)…

 

للتأمُّل: الأخير منها، الذي يمكن أن يضيف له من يحبُّ ما يحبُّ من الاقتباسات، يضمّ الآن، وأنا أكتب المقال: 34 ألف أقتباس بالفرنسية، 26 ألف بالإنجليزية، 22 ألف بالبولندية، و375 بالعربية فقط…

ومع ذلك العربية أقدم اللغات الأربع، وينبوع اقتباساتها بسبب ذلك القِدم أكثر اتساعاً وثراء، لكن نافورة اقتباساتها في وادي الاقتباسات في عالَمنا الرقميّ عجفاء مسدودة!