من سيصطادُ السمكةَ الأخيرة؟

حبيب سروري

(نُشِرَ جزء منه في الملحق الثقافي للعربي الجديد)

أتذكّر صباح يومِ أحدٍ، قبل 3 عقود، ذهبتُ فيه مشياً في طريق قرويٍّ فرنسي طويل للبحث عن خبز القرية. كانت تغطيني، كنبيٍّ أسطوري، مظلّةٌ من الفراشات، تعلوها سحب من العصافير المتنوِّعة.

عدتُ بعد سنين مراراً لنفس القرية ليتكرّر ذلك المشهد السيريالي الساحر. عبثاً. لم تعلُني آخر مرة غير طائرةٍ بلا طيّار ترفع خرقةً دعائية لمشروب “ريكار”!

عادت لي هذه الذكريات وأنا أقرأ مقالاً علميّاً نُشِر في 19 يونيو 2015، في مجلة “Science Advances”، لباحثِين أمريكيين من جامعات ستانفورد وبركلي وبرينستون: دخلت البشرية عصر “الانطفاء السادس”!

لنتذَكَّرْ: عرف كوكبنا، منذ نشوئه قبل حوالي 4.5 مليار عام، خمسة انطفاءاتٍ طآماتٍ كبرى، كان آخرها الانطفاء الشهير الذي حصل قبل 65 مليون عام، جرّاء سقوط كويكب هائل في خليج المكسيك ارتفعت بعده حرارة الأرض، مما أدّى إلى انقراض 75٪ من الكائنات الحيّة، أشهرها الدناصير.

من المعروف مثلاً، قبل التطرق للمقال، أن صيّاد اليوم، بكلِّ أدوات صيده البحريّة الحديثة، يعود من البحر ب 6٪ مما كان يعود به أسلافُه قبل عقود فقط، بسفنهم الشراعية وشبكاتهم البدائية!

السبب: تخلو بحارنا ومحيطاتنا رويداً رويداً من السمك والكائنات الحيّة. وقريباً سنتركُ لأحفادِنا، في منتصف هذا القرن ربما: بحاراً بلا أسماك، ومسابقةً تلفزيونية دوليّة لاختيار من سيصطاد السمكة الأخيرة في كوكب الأرض!

لم يعد هناك من يشكّ اليوم بأن 90٪ من الأسماك الكبرى قد انقرضت مؤخراً من البحار والمحيطات، نصف الحيوانات الضارية اختفت من الأرض في الأربعة العقود الأخيرة، ونصف مليار عصفورٍ أوربيٍّ أيضاً في الثلاثة عقود الأخيرة.

وفي مقالٍ سابقٍ لنا: “العسل، ونبوءة آينشتاين”، تحدّثنا عن اختفاء 42٪ من نحل أمريكا العام الماضي، وعن برامج إنقاذ وطنيّة عاجلة كبرى فيها، وفي فرنسا، لمجابهة هذه الكارثة.

ينطلق مقال الباحِثين الأمريكيين من دراسةٍ مفصّلة لانقراض الفقريات (كالضفادع والزواحف والنمور) قبل بدء النشاط الصناعي للإنسان الحديث، وبعده، في ضوء حفريات كثيرة ومجموع قواعد بيانات كافية.

إذا كان انقراضُ بعض الأنواع البيولوجية وولادة أخرى ظاهرةً أزليّة، شرحَ داروين، مؤسسُ البيولوجيا الحديثة، قوانين آليتها في كتابه الشهير: أصل الأنواع (كان الإنسان يظنّ قبله أن الأنواع البيولوجية مخلوقة منذ الأزل، بشكلٍ ثابت لا يتغيّر)، فنسبةُ الانقراضِ ارتفعت اليوم بشكلٍ كارثي: زادت في الأنواع البيولوجية، التي درسها المقال، 114 مرّة خلال القرن الماضي، بالمقارنة بقرون ما قبل الصناعة الحديثة!

التنوّعُ البيولوجي لِكوكبنا يتقلَّص هكذا وينحسرُ رويداً رويداً أمام أعيننا. ما يزيد الطين بلّة أن النوع البيولوجي لا ينقرض وحيداً: تغادر وإيّاهُ جوقةٌ من الأنواع البيولوجية التي تتفاعل معه وتحيا بقربه. لأن المنظومة البيئية مثل الجسد، إذا تألَّم عضوٌ فيه أصيب بقية الجسد بالسهر والحمّى.

إذ تنقرض الأنواع المفترسة بانقراض فرائسها، والفرائس بانقراض نباتاتها وأغذيتها… يؤدّي ذلك إلى كوارث تطمّ الأرض والمناخ والرطوبة والمنظومة البيولوجية برمّتها. ألم تقل ما سُمِّيَت بنبوءة أينشتاين: “إذا اختفت النحل من سطح الأرض، فلن تعيش الإنسانية أكثر من ٤ سنين بعد ذلك: لا نحل، لا تلقيح، لا نبات، لا حيوانات، لا إنسان…”؟…

لِتضاؤلِ منسوب الثراء البيولوجي أسباب كثيرة، أهمّها: تعاظم النشاطات الإنسانية (صناعة، مواصلات…) التي تستخدم الطاقة الأحفورية (بترول، غاز…) دون احترام إيقاع البيئة، متجاوزةً حدود استخدام الموارد البيولوجية. تهجم هكذا على الموارد بلا رادع، تسثمرها وتستغلّها وتنهبها بأنانيةٍ فاحشة، أو تعتدي عليها بجنون: ملايينُ الهكتارات من الغابات يتمّ اقتلاعها سنويّاً، بقاعٌ لا متناهية تفقدُ هويّتها البيولوجية الأصليّة وتتحوّل إلى أراضٍ زراعية تلبّي حاجات النمو السكاني الأسّي للجنس البشري في هذا الزمن الصناعي المجنون…

تتفاقم الكارثةُ أيضاً بسبب التلوّث الناجم عن النشاطات الإنسانية المختلفة: تعود إلى الذاكرة سريعاً، كمثل، سلسلةٌ مما يُسمّى ب “المد الأسود”، خلال العقود الأخيرة: غرق حاملات البترول العملاقة في البحار. آخرها في إبريل الماضي في خليج المكسيك. (تطالب أمريكا عدّة مليارات دولار، من شركة B.P، تعويضاً لخسائرها الطبيعية الفادحة).

المبيدات الكيماوية، والأنواع البيولوجية الغازِيَة التي تصل إلى البيئات من خارجها وتطيح بها، سببٌ هام أيضاً لانحسار التنوّع البيولوجي. ساعد على مضاعفة فتكهِ اتّساعُ التجارة الدولية وتطوّر المواصلات الحديثة.

غير أن السبب الجذري لتقلّص التنوّع البيولوجي اليوم هو التغيّر المناخي الذي تعرفه الأرض بسببِ تغلُّفِها بغازات الاحتباس الحراري، كثاني أكسيد الكربون، الناجمة عن مخلفات الطاقة الأحفورية. يُمثِّلُ هذا السبب بحدِّ ذاته كارثةً (بل أمّ الكوارث) ستؤدي بمفردها دون شك إلى انهيار الحضارة الإنسانية!

التقرير الخامس ل GIEC (مجموعة الخبراء الدوليين المختصّين بتطوّر المناخ، التابعة للأمم المتحدّة) لم يترك مجالاً للجدل: سببُ ارتفاع درجة حرارة الأرض خلال القرن الماضي بنسبة 0.85 C° (ستصل إلى 2 C° في 2050): غازاتُ الاحتباس الحراري.

نتائج ذلك من الآن إنهياريةٌ مروّعة: انقراض أنواعٍ بيولوجية، موجات سخونة تطيح بعشرات الآلاف من البشر سنويّاً في هذا البلد أو ذاك وتسبّب خسارات زراعية هائلة، جفاف وانعدام مياه الشرب، انتشار الأمراض المُعْدية، ذوبان الجليد القطبي، سلسلات فيضانات وتسونامي ستمحي جزراً وأراضٍ من سطح المعمورة…

مجاعاتٌ وهجراتٌ وحروبٌ ستنجم عن ذلك بالضرورة: بدأت الهند علي سبيل المثال ببناء جدارٍ حاجز طوله بضعة آلاف كيلومترات، يفصلها عن بنجلادش، بسبب توقّعها هجرة 60 مليوناً من سكّان بنجلادش إليها، بعد اختفاء أراضيهم بسبب النتائج المستقبلية للتغيّر الحراري…

أما على المدى البعيد، فالفناء القادم لا يبقي ولا يذر: إذا ما وصلت نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو إلى 500 جزء من المليون (هي حالياً 400)، فسيتحوّل سطح البسيطة إلى صحراء وأدغال، ولن يعيش عليها إلا بضعة ملايين من البشر فقط، في بعض مناطق القطب الشمالي!

ما أحوج حضارتنا الإنسانية اليوم إلى سفينة نوحٍ جديدة، لا تنقل زوجاً من كل نوعٍ بيولوجي مثل سفينة الأسطورة التوراتية (ثمّة عشرات ملايين الأنواع البيولوجية على الأرض!)، بل تحمي ما يمكن حمايته من عواقب الانهيار البيئي الذي تأخر الإنسانُ كثيراً عن عملِ ما يلزم لتلافيهِ، رغم إدراك العلم لِذلك في السبعينات من القرن الماضي، ورغم أخذ المخاطر منذ التسعينات مناحٍ جارفةٍ لم يعد بالإمكان مقاومتها.

سفينة نوحٍ الجديدة: استبدالُ الطاقة الأحفورية بالطاقات المتجددة، التقشف المخطّط له في استخدام الموارد الطبيعية، تحديد النسل البشري، إعادة تدوير المخلفات الصناعية، الالتزام بتعليمات التكيّف مع تدهور البيئة بمسئوليةٍ مجتمعيّةٍ ودولية…

ما أعجل الحاجة لها، لأن كوكبنا مريضٌ بداءٍ لا شفاء منه!