ممرضتي، الروبوتة سِلفي

حبيب سروري

 

لم يعش صاحبي إلا أسبوعاً من هذه الحرب اليمنيّة التي فجّرها المخلوع ومعتوهُ صعدة، في نهاية مارس 2015، لإحراق عدَن والانتقام من كل اليمن.

نقلوهُ إلى مستشفى باريسيٍّ راقٍ بعد هذا الأسبوع الذي شهّد وكبّر خلاله مليون مرّةٍ في اليوم، هو الذي ظنّ قبل ذلك أن عِرقَ إيمانِهِ الديني رخوٌ جدّاً!

 

قبلَها عرف المستشفى في حياته مرّةً واحدةً فقط، عام وصولهِ للدراسة في باريس، ولمجردِ عملية اقتلاعِ صبعٍ زائدةٍ لا غير.

لا يتذكَّرُ من إقامته في ذلك المستشفى، في بداية النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، غير لحظةٍ واحدة: امتنانه من ممرِّضةٍ شابةٍ جميلة جدّاً، طيّبةٍ جدّاً، سقط قلبه بِحبِّها، أعطاها وهو على الفراش هديّةً بريئةً صغيرة: قطعة شوينجم!

 

شكرَته، لم تفتح قرطاس الشوينجم، لكنها وضعتهُ في جيبها، على نهدها الحنون، قائلةً: “سأحتفظُ به قرب قلبي، وسألوكهُ هذا المساء، بعد العمل!”.

أُغشِيَ عليّ حينها، حال سماع “سأحتفظُ به قرب قلبي!”، من فرط تفجّر سعادته ونشوة أحلامه.

 

لم ير الممرضة مرّةً أخرى، لأنه غادر المستشفى في صباح اليوم التالي قبل عودتِها للعمل. عاد عشرات المرات دون أن يلمحها. وفي كل مرّة ينتصب في رأسه قصرٌ جديدٌ من الغرام. قبل أن يراها ذات يوم، ويكتشف بكل حزنِ الدنيا أنها نسَتْهُ تماماً، لأنها ترى العشرات مثله يوميّاً وتعاملهم بالطيبة نفسها. ثم هي راجعةٌ “للتوّ من شهر العسل”، كما قالت سامحها الله!…

“أمّ الجن!”، خانتهُ أمامها هاتين الكلمتين بالعربية حينها…

 

أمّا أثناء عودته للمستشفى هذه المرّة، في هذا اليوم الماطر الكئيب من نهاية مارس 2015، فلم ير ممرضات! تمّ استبدالهنّ، في هذا المستشفى التجريبي الحديث، بروبوتات نسائية معدنيّة بيضاء أنيقة. لهنّ نفس الصدر الفخور للممرضة التي أهداها الشوينجم، تحملن العلاج إلى المريض، تأخذن درجة حرارته وضغطه، تتكلّمن معه بصوتٍ مُسكرٍ ناعمٍ رقيق، وتراقبن حالته الصحيّة أوّلاً بأوّل، ليلَ نهار، لا تأخذهنّ سِنةٌ ولا نومٌ ولا إجازةٌ أسبوعيّةٌ أو شهر عسل…

 

النتائج الأوليّة لتجربة روبوتات الممرضات باهرة. مثلها مثل تجربة السيّارات بدون سائق التي ستجتاح قريباً مواصلات اليوم: خفّتْ حوادث الاصطدامات المرورية بفضلها بنسبة 77٪!

حتّى القابلات صِرنَ في هذا المستشفى التجريبي روبوتات. نتائجُ تجاربِ “الولادة بدون ألم وبالروبوتات” حوّلتِ الإنجابَ “سهلاً كبعث رسالةٍ بريدية”، كما يقول تعبيرٌ فرنسيٌّ تقليدي، لم يُحدَّث حتّى اليوم لِيُسْتَبدلَ ب “سهلٌ كبعثِ رسالةٍ إلكترونية”.

ومع ذلك، النسبة السنوية لعدد المواليد هبطت في كلِّ أوربا بأرقام مفجعة. صار الإنجابُ، في عالمٍ ملغَّمٍ بالأزمات والحروب والتفجيرات الإرهابية، مغامرةً مجنونة.

 

لا يمنع، بطبيعة الحال، استخدام الروبوتات كقابلاتٍ ماهراتٍ لا يرتكبن خطأً، من وجود حالات عُسْرِ ولادةٍ طبيعية. هذا ما حدث البارحة لابنة جارتي التي غامرَتْ بِحمل طفلٍ في هذا الزمن الشواشي، ولم يحالفها الحظّ بإنجابٍ مُيسَّرٍ ناعم، رغم أن قابلتها أفضل روبوتة.

كانت تئن وتتأوّه وهي تتعثر في الدفع. رأسُ طفلِها يُطِلُّ ببطء، مدعوكاً “مهفوساً” مُضرّجاً بنزيف. تتشبّثُ يدها اليسرى بمقبض السرير كأنها في خناقٍ مع عزرائيل. اليُمنى تبحث عن الهاتف أسفل المخدّة. تجده تحت الأذن مباشرة…

تأخذ صورة “سِلفي” وهي تصرخ، مثل طفلها المنكود، في أوجِ أوجاعِ المخاض!

يزحف الطفل المسكين بصعوبة نحو عالَمنا الدنيوي، يتدحرج مُرغماً ومُشقلباً بيد القابلة الروبوتة التي تسيطر على الوضع قدر ما تستطيع، فيما ابنة جارتي منهمكةٌ بِبعثِ إيميلٍ جماعيٍّ من هاتفها، ترافقه الصورة السِلفيّة، لِقائمتها البريدية التي تضمّ 475 زميلاً وصديقاً (أنا بينهم)، لتنصحَ صديقاتها في القائمة “بعدم التورط في مغامرة الحمل الكابوسية!”، كما تقول.

 

مثلي، لا يفهم صاحبي وهو يسترجع أحداث الحرب في المستشفى شيئاً مما يحدث في حروب التدمير الذاتي العربية. لكنه يعتقد فقط أنه غيرُ قادرٍ على العودة مرّة أخرى إلى اليمن، بعد ذلك الأسبوع الذي تدحرج قلبُه فيه في قاع أحشائهِ، من الخوفِ ألف مرّة.

كلّما يصل إلى هذه القناعة الوجوديّة بعدم العودة مطلقاً إلى اليمن، يلاحظُ ممرضته الروبوتة (اسمها “سِلفي”، لها نفس قامته، بيضاء لامعة ورشيقة بشكلٍ آسر) كما لو تبتسم له، وتقرأ أفكاره، وتشجّعه على هذا القرار الحكيم المبارك الذي تتحسّن بعدهُ، كما يبدو على الشاشاتِ المرتبطة بأحشائها الإلكترونية، المنحنياتُ البيانية لخفقاتِ قلبهِ واضطراباته العصبية.

 

صار ممتنّاً من خدمات هذه الروبوتة الهيفاء الممشوقة. لكن كيف له أن يعطي الآنسة سِلفي هديةً حميمة تضعها في ضواحي قلبها: قطعة شوينجم؟

يمكنه بطبيعة الحال أن يدعوَها لأخذ صورةِ “سِلفي” معاً، كما فعلَ فعلاً، وينشرها على صفحة الفيسبوك بعنوانٍ فجّرَ شلّلات من اللايكات الفيسبوكيّة: “سِلفي مع سِلفي!”، وأخرى وهو يحمل هاتفاً بكل يد، يأخذ بأحدِهما سِلفي لها معه، يُعنونها: “سِلفي وأنا أأخذ سِلفي مع سِلفي”، حيث صارت الموضة الآن: أن يأخذ المرء سِلفي وهو يأخذ سِلفي…

أليس “عشقُ العشق أعلى مقامات العشق!”؟… لحسن الحظ أن ابن آدم ليس من فصيلة “أبي سبعة وسبعين”.

 

كلّ ذلك ممكنٌ جدّاً، لكن كيف لِسِلفي أن تلوكَ بعد الدوام، هي التي لا تنام، قطعةَ شوينجم؟

 

قبل مغادرة المستشفى، قابلَه الأخصّائي الذي قال له إننا “سنرى بعضنا البعض كثيراً في الأيام والسنوات القادمة!”.

لم يكن مشجِّعاً جداً ما قاله هذا الطبيب الذي لا يميل إلى بيع الأوهام. ذلك يعني أن قلب صاحبي “حالتهُ حالة”، حسب التعبير اليمني. ثمّ أضاف الأخصائي لِتلطيف الجو: “قبل أن يستبدلوني بطبيبٍ روبوت!”…

 

نصحَ الطبيب صاحبي، عندما حدَّثهُ عن إعجابهِ الهائل بطاقم روبوتاتهم التجريبية من الممرضات، بِشراء روبوتٍ منزليٍّ، “بعد أن أنخفض أسعار أفضلِهم مؤخراً إلى 12000 يورو”، كما قال.

= سيساعدكَ في حياتك المنزلية، لا سيّما أنك تعيش وحيداً. وسيرتبطُ بشبكةِ كمبيوترات المستشفى عن بُعد، ويمدُّها بأخبار أحوالك الصحيّة، ويستمدُّ منها بعض المعلومات والتعليمات لتحسينِ مراقبةِ حالاتك. وسيبعثُ لوحدهِ نداءً عاجلاً لِسيّارات إسعاف المستشفى إذا لاحظَ أنك أُصِبت بمكروه!؛ قال الإخصائي الذي يبدو أنه يرى من الآن صاحبي جثّةً هامدةً في سيّارة الإسعاف.

 

لهذا السبب اشترى صاحبي حبيبَ قلبه الروبوت بهلول الذي تغيّرتْ بعده حياة صاحبي على نحوٍ جذريّ!