مقابلة في صحيفة “العربي”: لا بد أن يسود العقل

(أجرى المقابلة الأستاذ عصام واصل).

يعتبر حبيب عبد الرب سروري من أبرز كتاب السرد في اليمن والوطن العربي، وأكثرهم جرأة في توظيف الأشكال الجديدة، وَطَرْقِ المواضيع الأكثر جدة، وليس ذلك في سردياته فحسب بل وفي كتاباته الفكرية التي تستنهض القارئ العربي، وتحاول أن تدفعه إلى إعادة النظر في طرائق التفكير والقراءة والاستنتاج، كما تدعوه إلى إعادة النظر في كثير من القضايا التي يشدد على أنها خاطئة وينبغي التخلي عنها، وضرورة تعليم الأجيال المقبلة طرائق التخلي عنها أيضاً. هذا ما ينادي به على الأقل في كتابه «لا إمام سوى العقل» وفي روايته الأخيرة «وحي»؛ إذ يركز فيهما على كل ما هو عقلاني، وجوهري، وإنساني يسهم في التحول وخلق نموذج لهذا التحول، نموذج علمي لا يرتكز إلا إلى قوانين العلم باعتباره أداة للتفكير والحكم على العالم. التقى «العربي» الروائي سروري محاوراً إياه في شؤون روايته «وحي» وكتبه الفكرية الأخرى، وكانت الحصيلة الآتية:

——-

من يقرأ أعمالك الروائية والفكرية يلاحظ سيرك الحثيث نحو عقلنة مجتمعاتنا العربية على نحوٍ يتناغم مع عبارة أبي العلاء المعري، التي عنونت بها أحد كتبك الفكرية «لا إمام سوى العقل». ترى ما هي أولى الخطوات الضرورية لهذه العقلنة من وجهة نظرك؟
واضح أمامنا اليوم، كعين الشمس، أن الشعوب التي تستعمل العقل والأفكار العلمية تنجو وتسود، والشعوب التي تعتقل العقل، وتقلص من مهامه، تظل في قعر التخلف ويتجاوزها العصر. فقوانين «الانتقاء الطبيعي» للمجتمعات في عصرنا اليوم تميل بقوة إلى صالح الشعوب الأولى، وتضمن لها البقاء والسيادة؛ لذلك، فعلاج ضعف عقلنة مجتمعاتنا، وتطوير هذه العقلنة على نحو سريع، يقتضيان، في ما يقتضيانه من وسائل عديدة، أن تكون هناك مادة تدريسية رئيسية في مناهج مدارسنا العربية، اسمها: «تربية عقلانية»؛ بدلاً عن مواد دراسية، مثل: «تربية وطنية»، «تربية دينية»… بلا فائدة عموماً، إن لم تكن تبليدية.
وأقصد هنا مادة تعليمية أساسية ترافق الطالب، ويرتفع مستواها تدريجياً من سنة إلى أخرى. وهدف المادة بشكل عام هو: تعليم الطالب كيف يستعمل عقله على نحو أفضل.

——-

ماذا تقترح أن تكون مهام هذه المادة؟ ماذا يتعلم فيها الطالب؟
من ضمن مهامها الكبرى تعليمُه: كيفية الدحض المُفنّد والنقد المنهجيّ لقائمةٍ من الأفكار الخاطئة المستوردة من محيطه بدون تمحيص، والـ«كليشيه» التي يرددها الإنسان كببغاء، وكذلك كيفية فصل التفكير العقلاني عن مسلمات الأيديولوجيا، الدين، الهوية، وادعاءاتهم النرجسية الفضفاضة غالباً. فضلاً عن تعليم الطالب الفصل بين «التاريخ الديني» و«التاريخ العلمي» الذي لا يربطهما رابط غالباً. الثاني حقائق مؤرخة ومبرهنة بالاكتشافات الـ«أركيولوجية» يكتبها مؤرخون، فيما الأول يكتبه فقهاء، هدفه نشر رسالة، على نحو تعظيمي خالص، يلزم قراءته مجازياً في الغالب. وكذلك كيفية مقاومة ضعف الإنسان أمام إغواء الوهم ومطبّاته الجذابة، وانجرافه الطبيعي وراء الغيبيات والتفكير السحري (الذي يفسره تاريخه التطوري الطويل، قبل سيادة عصر العقل منذ قرن الأنوار فقط: القرن 18). وتعليم الطالب أساليب التساؤل والتأمل النقدي والجدل والرفض والبرهان. وطرائق التفنيد والتأكد مما يسمعه (صار ذلك ضرورياً جداً مع انهمار «الفيك نيوز» و«الحقائق البديلة» ذات الانتشار الفيروسي اليوم بسبب الإنترنت والشبكات الاجتماعية). وتعليم الطالب تجاوز عقلية «نظرية المؤامرة» و«كبش الفداء». وبشكل عام، تعليمه أن يجعل منارةَ حياته: ثالوث العقل، العلم، الإنسانية.

——-
تحدثتَ عن قائمة أفكار خاطئة نرددها بلا وعي، ويلزم على مادة «التربية العقلانية» تصحيحها. قد يتساءل القارئ كيف؟
كثيرة جدا، منها أطروحة ضرورة العودة إلى طريقة حياتنا في الزمن الإسلامي القديم عندما كانت الحضارة الإسلامية في طليعة العالم. وللرد عليها أقول:

نحن في عصر آخر، والزمن لا يعود إلى الخلف. يمكنك أن تتنقل في المكان ثم تعود إلى الخلف، لكن لا يمكنك التنقل في الزمن باتجاه الماضي: البيضة التي تسقط إلى الأرض وتنكسر لا يمكنها العودة إلى وضعها الزمني قبل الانكسار.
انظر مثلاً: الحضارة المسيحية سادت العالم من أستراليا إلى أمريكا الجنوبية. الصناعات الحديثة كلها، من المطبعة في القرن 15 حتى الطائرة، جاءت منها في زمن سيادتها. ومع ذلك، في كل الدول المتطورة التي سادتها المسيحية تمّ منع الدين من التدخل في شؤون التعليم والسياسة والحياة المدنية اليوم، وبدأ عصر العلمانية.

——-
ما السبب؟
السبب: نحن اليوم في زمن آخر. زمن العقل والعلم الحديث اللذين يرفضان أي مسلمات غيبية حول تاريخ الكون وقوانين الحياة. زمن حرية التعبير و«حرية الضمير». زمن حقوق الإنسان (الذي لا فرق بينه وبين آخر، أكان تقياً أو غير تقي، مؤمناً أم ملحداً). زمن مساواة الرجل والمرأة.
فبمجرد أن تركب، الطائرة، وتستخدم الإنترنت، وتدرس الميكانيكا الكونتية، وتندمج في هيئة الأمم المتحدة وعصر العولمة، فأنت في زمن آخر يمنعك من ممارسة طقوس عصر الجواري والعبيد والسبايا: ذلك العصر الذي كانت فيه حضارتنا الإسلامية في طليعة العالم.
مع ملاحظة أنها لم تكن حينها في الطليعة ولم تنتج علوماً وأفكاراً إلا ابتداءً من العصر العباسي وليس قبله، ابتداءً من زمن «بيت الحكمة» في بغداد الذي ترجم التراث العالمي وتفاعل معه وطوّره، واندمج مع الشعوب المجاورة أخذاً وعطاءً.

——-
إذن ما هي الأفكار الكاذبة التي يلزم على «التربية العقلانية» تصحيحها؟
كثيرة جداً. منها مثلاً ما يقال كذباً باسم «نظرية داروين»: «الإنسان أصله قرد»، أو هراءَ الإدعاء بأن «هناك حلقة مفقودة في سلسلة تطور الأنواع البيولوجية الإنسانية». لعلك لاحظتَ مثلي ازدياد المد اللاعقلاني حالياً، إلى درجة أن عدداً من الناس صار يقول، إن «الأرض مسطّحة، وليست كروية». وربما هناك اليوم من يعتقد أن المطر يصعد من الأرض إلى السحاب، وليس العكس.

——-

ذِكر داروين هنا يقودني إلى روايتك الأخيرة: «وحي» الصادرة عن دار الساقي، فكثير من فصولها يدور في أرخبيل «الغلاباغوس» الذي انبجس فيه لدى داروين «وحيُ» نظريته، كيف تفسر ذلك؟
فعلاً، بعض فصول الرواية تدور في ذلك الأرخبيل الساحر. تعبره كما عبره داروين. تتوقف مثله هنا وهناك. تداعب الطيور والحيوانات نفسها التي داعبها. تعيش لحظات خالدة في مركز دراساته الدولي في قلب الأرخبيل. وعموماً، الرواية تتنقل كثيراً في المكان والزمان. في التاريخ العتيق والمستقبل البعيد. يمكنك أن تعيش فيها أيضاً يوميات ديسمبر 2017 في اليمن، وحروبه الأخيرة.
يقتبسُ مدخل روايتك «وحي» عبارةً لِنيتشه مفتاحاً للرواية: «الكلام الأكثر صمتاً يُحرِّك الزوابع، الأفكار الآتية بأقدام الحمائم تَقودُ العالَم»، كيف نفهم أهمية هذا المفتاح؟
إسمح لي أن أقتبس من الرواية هذا المقطع الذي يجيب عن سؤالك: «عندما قلتُ، لحبيبتي شُهد، إن نيتشه كان يرى العالَم يدور (على نحوٍ غير مسموع) حول صُنّاع القِيم الجديدة، وليس حول مفتعلي الضجيج والجعجعات، استشهدتْ به وهو يقول:
الكلام الأكثر صمتا يحرِّك الزوابع، الأفكار الآتية بأقدام الحمائم تقودُ العالَم.
فعلاً، ليس ثمّة في الحياة ما هو أجدى وأعظم من هذه الوصايا النيتشاوية للروح الحرّة، للإنسان الأعلى: لا عنف إطلاقاً. أفكارٌ هادئةٌ عميقةٌ حيّةٌ تذهب مطرقيّاً نحو الجذر. قيمٌ جديدةٌ تحلّ محل القيم الغبراء.
كلّ ما عدا ذلك ترّهاتٌ لا تستحق الذكر».

——-

ثمّة إذن رغبة لديك في تغيير وعي وحساسية القارئ بهدوء، وتشجيع التمرد الصامت؟ قبل الحديث عن ذلك: ما دلالة «وحي» باعتباره اسم له دور رئيسي في الرواية، متعدد الأبعاد؟
نعم، هو اسم شخصية جوهرية في الرواية، تظل مجهولةَ الهوية حتى الأسطر الأخيرة. تغوص هذه البطلة في عمق أعماق دماغ بطل الرواية: غسّان العثماني، في فضاءٍ افتراضيٍّ خالص. تجعله يُعرّي أدق أسرار حياته، وتطورات علاقته بالإيمان الديني.
بطل الرواية، يمنيٌّ يعيش في قلب اليمن وفي عوالم أخرى، تغويه علاقته الإفتراضية بالبطلة وحي التي تستدرجه بذكاء. تقوده أسئلتها إلى فضاءات يكتشف فيها نفسه، قبل أن تُدحرِجَ به إلى البوح بغموض ما كان غامضاً في أعماقه. يسمح ذلك له باستيعاب اتجاه حياته، وواقع اليمن وما يعيشه من خراب حالياً، وما يكبح جماح العقل العربي عموماً. ثم هناك «شُهد» زوجة الراوي: نوعٌ عبقريٌّ من النساء من طراز خاص جداً، لولاها لما صار غسّان ما هو عليه. تفاعل هذا الثالوث الروائي: وحي ــ غسان ــ شُهد: فلسفيٌّ متداخل، يؤثث كل عوالم الرواية، يتجوّل في التاريخ، في الذات، وفي منطلقات الدين وطرائق تأثيره وسيطرته على الناس. ثم هناك مفهوم الوحي الديني الذي كان الهوَس الأول لتفاعلات وحي مع غسّان.
هناك «الوحي» بكل المدلولات المختلفة لهذه الكلمة. أحدها رئيسي فعلاً، انطلقت منه بطلة الرواية: الوحي النبوي.
للوصول إلى هدفها، كانت قد ذكّرت غسّان بحادث جوهريٍّ في طفولته في مسجد العيدروس بقرية «طور الرعد» في الحواشب في اليمن. يربط هذا الحادث الجذري بطل الرواية بعلاقة خاصة مع مفهوم الوحي النبوي الذي دار حوله في تاريخ الفكر الإسلامي جدل فلسفي طويل وقديم، منذ العصر العباسي. لم نتقدّم في هذا الجدل ميليمتراً واحداً حتى اليوم؛ لأن مفهوم الوحي النبوي ما زال يُقرأ حتى الآن بطريقةٍ حَرفية مطلقة، لا تكتفي بوضعه في سياقه التاريخي. ترفض بضراوة قراءته على نحوٍ مجازي في سياق ميثولوجي، بل تُحوِّلُ ما جاء باسمه إلى كلامٍ إلهيٍّ قاطعٍ مانع، توقفتْ حياتُنا العربية معه وفيه.