مرقصٌ محمومٌ في صالة مرضى!

حبيب سروري

 

رحلةٌ مشحونةٌ بالتاريخ المُعتّقِ والعِبر الكثيفة، قمتُ بها في يناير 1985، لا تغادر ذاكرتي. ربما لأنها مزيجٌ تتضارب فيه، في الوقت نفسه، الأمزجةُ الجيوسياسية والمناخية القاهرة بالمفاجآت السريالية الإنسانية المؤثرة. القرفُ بالدهشة…

 

وصلني في بدء ذلك الشهر هاتفٌ يُشعرني بخبرٍ عائليٍّ حزين. ولأني لذلك سأسافر إلى عدَن عبر موسكو، فقد كلّفتني أسرَتي بلقاء أختي الصغيرة التي وصلت قبل أشهر إلى لينينجراد للدراسة، لإشعارها بالخبر بطريقة تمهيدية حتى لا تُصدم.

 

طلبتُ من مسئولٍ في سفارة جنوب اليمن في باريس أن يكتب رسالةً للقنصلية السوفيتة، يشرح السبب العائلي لزيارتي، لتسهيل حصولي على الفيزة لبلاد السوفيت المغلقة تماما، لاسيما على القادمين فرادى من دول الغرب.

بعد عراكٍ دام عدة ساعات، حصلتُ على الرسالة؛ رفض المسئول في البدء “إزعاج الرفاق السوفيت، المشغولين بقيادة قوى التحرر والاشتراكية العالمية، بطلبٍ تافه!”، كما قال.

 

توجّهتُ للقنصلية السوفيتية. القنصل أذربيجاني. لم يرفض طلبي. ربما لأنه يفهم الشعبكات الأسرية الشرقية. بعث برسالة طلب لموسكو، ودعاني للعودة كل صباح إلى القنصلية حتى يصل الرد… أشعرتُ بسفري أختي التي قالت لي إنها ستسقبلني في مطار موسكو عندما أصل.

 

بعد أيام، كنتُ بباب القنصلية وحيدا، انتظر كعادتي، رغم أنه يوم إجازة سبت.

فاجأني وصول القنصل في العاشرة. ثمّ بعد نصف ساعة، دعاني وأعطاني الفيزة، لأن “الرد وصل إيجابياً قبل دقائق”، كما قال!

لعلّ هذا الإعجاز من محاسن فترة حكم أندروبوف الذي هيأ لجلاسنوست جورباتشف وبيروستريكاه!

 

أقلعتُ بعد ذلك ببضعة أيام. لأذَكِّر: وصل طقس يناير 85 إلى رقمٍ قياسي لا يتكرّر: 20 درجة تحت الصفر في باريس؛ أقل بحوالي 30 درجة من المتوسط!. أما في موسكو فكان 40 تحت الصفر.

ولحسن الحظ أن صديقاً أعارني ملابسَه الإسكيموية الخاصة بالتزحلق بالجليد. أدينُ له بالحياة: لولاها لوجدوني جثّةً مثلّجةً في سهوب شوارع موسكو!

 

وصلتُ مطار موسكو (شيريميتيفو) ظهراً. لم أر أختي. إشعاراتٌ بالميكرفون كل نصف ساعة لتحديدِ موقعي في المطار، فيما إذا وصلتْ متأخرةً بسبب الطقس.

إنتظارٌ لا يطاق، في مطارٍ صقيعيٍّ كئيب، حتى منتصف الليل، عندما أخبروني أن المطار سيغلق ويلزمني مغادرته!

= إلى أين؟، سألتُ.

= هناك أمامك فندق الأيروفلوت، على بعد حوالي كيلومتر من المطار. ثمّة من سيجيب على سؤالك؛ قال لي مسئولٌ في استعلامات المطار.

 

ثلاث خطوات لا غير خارج الباب. خطرٌ وقلق: حاولتُ قرص أنفي بكل ما أمتلك من قوة. لم أحس شيئاً. تجمّد دمي من زمهرير البرد… بدا لي ذلك الفندق، ذو البناء المعماري السوفيتي القبيح، قصيّاً مستحيلاً في هذه الطريق الوحشية التي أمشى فيها بصعوبة، مجرجراً حقيبة سفري فوق كثبانٍ جليدية، في ليلٍ قطبيٍّ مخيف.

 

كل عشر خطوات يقابلني روسيٌّ تنبعث منه روائحٌ داكنة: “دولار؟”. وجوهٌ لا تبشر بخير. أتقدّم رافضاً طلبهم بالصرف في السوق السوداء. (تذكّرتُ بحسرة سخافة أسطورة “الإنسان السوفيتي المكتمل الصفات” التي تلقّيناها في عدن!).

 

وصلتُ الفندق. رفضتني مسئولتهُ ببيروقراطيةٍ سوفيتيةٍ تقليدية، قائلة إنه فندق للمجموعات السياحية الخاصة بأيروفلوت فقط. وعليّ الذهاب إلى المدينة بحثاً عن فندق آخر!…

أجبتُ: لا يمكنني مغادرة الفندق خطوةً واحدة!

أمرتني بالخروج حالاً. زاد رفضي بعنادٍ وقوة لأني كنت فعلاً هالكاً، غير قادرٍ على مواجهة مدينةٍ عدوانية في ليلٍ سيبيريٍّ بهيم.

التفّتْ حولي مجموعةٌ سياحية من الأوربيين، تدعم طلبي. استنكارٌ وصخبٌ جماعي. أصرَّ أحد الأوربيين (كان مراسلاً لصحيفة فرنسية) ببقائي، قائلاً إن في غرفته سريراً شاغراً!

بعد مكالمةٍ هاتفية مع مجهول، قالت لي: ستنام في غرفة الفرنسي، شريطة أن تدفع 50 دولاراً، وتغادر الفندق غداً في السابعة صباحاً، قبل أن يراك أحد!

 

غرفةٌ من ثلج لم أستطع النوم فيها إلا بالمعطف، وعند الخامسة فجراً تحديداً. يُوقظني ميكرفون في جدار الغرفة يزعق بعنف أخباراً إذاعيةً بالروسية، بعد ساعةٍ من نومي فقط. فطورٌ رديءٌ في السادسة والنصف، بدأهُ النادل بكلمة “دولار؟”.

ثم توجّهتُ قبل السابعة بالتاكسي إلى سفارة جنوب اليمن. انتظارٌ طويل وبيروقراطيةٌ قاتلة، رغم أن سؤالي كان بسيطاً: أين اختي، وكيف أراها؟…

 

بعد قليل، وصل شابٌ يسكن في شارع مجاور لمنزلنا في عدَن، يدرس في لينينجراد. قال لي إنه سمع أن أختي في المستشفى، ولذلك لم تصلها برقيتي البارحة. وضّح لي كيف السفر إليها، وأعطاني عنوان المستشفى. شرح لي أيضاً كيف أتوجّه إلى غرفته الجماعية في السكن الجامعي، للنوم فيها: “ثمة حارس للعمارة سيمنعك إذا جئت من الباب”! (استغربتُ: تقاليدهم لا تشبه نمط حياتنا الطلابية الفرنسية: بدون حراس ولا منع ولا غرف جماعية).

أردف: يلزمك أن تصل من خلف العمارة، وتدخل الغرفة من النافذة الخلفية. ستجد أصدقائي في انتظارك…

 

بعد ساعات ثلاث، كنت في المطار من جديد، في طريقي إلى لينينجراد. الظروف الجويّة أخّرت موعد السفر. باصٌ كبيرٌ خاص ينقلني مع أمريكي فقط من صالة الانتظار إلى باب الطائرة. وباصٌ ينقل حشدا مزدحماً من الروس. وباصٌ ثالث ينقل طاقماً عسكرياً سوفيتياً بطلعات مهيبة…

 

أمام باب الخروج في مطار لينينجراد طابورٌ لا نهاية له، ينتظر التاكسيات. الطقس الجويّ أبشع من موسكو، والمواصلات شبه مستحيلة.

عدةُ ساعات انتظار في جوٍّ قاتل. تجمّدَ نخاعي الشوكي، قبل أن أأخذ التاكسي باتجاه المستشفى.

وصلتهُ في حدود العاشرة مساء. موعد الزيارات قد أنتهى قبل ساعات، لكني أردتُ محاولة الاتصال هاتفيا باختي، من مدخل المستشفى، للتطمّن عليها ولمحاولةِ رؤيتها ولو دقيقتين.

 

تصلُ ممرضةٌ لمقابلتي. تقول لي إنها سكرتيرة المنظمة القاعدية للحزب في المستشفى، وستقودني لغرفة أختي! تسرد في طريقنا، بلغة خشبية وإنجليزية تقريبية، نفس خطابات صحيفة البرافدا عن دور الاتحاد السوفيتي في السلام الدولي ورفضه لحرب النجوم الريجانية.

“دعاية وتحريض أيديولوجي، وفي هذه الساعة!”، قلت لنفسي…

 

ما إن اقتربنا من عمارة أختي حتى لاحظتُ نساءً في أكثر من نافذة. فاجأتني السكرتيرة: راهنتْ كل واحدة منهن أنها ستُبشِّر أختك بمجيئك قبل البقية!

أصلُ، أرى أختي تنتظرني قرب باب صالة مرضى كبيرة. عناق.

بعد قليل كنت وإياها وسط لفيفٍ من نساءٍ غادرن أسِرَّتهنّ في الصالةِ نفسِها باتجاهنا. غيّرنَ خارطة الصالة لوضعِ طاولةٍ ضخمة في وسطها.

كنا، أختي وأنا، في المركز، يُحيطنا حشدٌ يحتفل بنا في جوٍّ إنساني بريءٍ وكثيف، يصعب وصفه.

 

ازداد الجوّ غرائبية: أخرجت كل واحدة من أسفل سريرها قنينة فوتكا كانت تحتفظ بها سرّاً، وكثيراً من المأكولات التي هيأنها للمناسبة!

فوتكا داخل مستشفى: أمّ الجن، آخر ما يخطر ببال!

عرفتُ أنها ليلة الكريسميس الأورثوذكسي. ولم يبق في المستشفى إلا هؤلاء النساء اللواتي لا قريب يشاركهن العيد، إلا أنا وأختي!

 

ثمّ موسيقى ورقص حتّى الفجر، سعادةٌ بلا حدود، وسط مستشفى تحوّل إلى مرقصٍ محموم، في كوكبٍ من ثلج، وفي بلدٍ قمعيٍّ يفصله ستارٌ حديديٌّ عن العَالم…