ماركس محلقا فوق سماء بنما

حبيب سروري

جبال من الوثائق السريّة (11.5 مليون وثيقة) تابعة لمكتب محاماة “موساك فونسيكا” البنمي، تمّ الوصول لها بخفاء ودهاء، قبل أن تحلِّلها ميكروسكوبات لجنةٍ من عشرات الخبراء والصحفيين، بمهنيّة وسريّة كاملة خلال 9 أشهر!

النتيجة: “فضيحة بنما” التي كشفت النقاب عن مليارات تنطح مليارات، تُخفَى بعيداً عن الضرائب، أو تبيّض لتستر أصولها المظلمة الآثمة.

ثمّة ما يستحق التأمل مليّاً وبعمق في هذه الفضيحة التي هزّت العالم، وما زلنا في مستهل تداعياتها ونتائجها.

 

قد يظن البعض أولاً أن شلالات الدولارات هذه تتدفق الآن في بنما. كلا، لو كان ذلك لكانت بنما أغنى دولةٍ في العالم.

دور بنما هنا يشبه دور “شاهدي الزور” الفقراء، الذين يقبعون بجانب محاكم بعض الدول الإسلامية الفقيرة الفاسدة: يمكن جلب أحدهم إلى قاعة المحكمة ليشهد زورا على قضية لا يعرف عنها شيئاً قبل ذلك، ويحلف بالمصحف الكريم مقابل مبلغٍ زهيد يسمح له بأكل لقمتين، يعطيه إياه المتهم سرّاً، لِينقذ نفسه من العقوبة بفضل شهادة كاذبة!

كذلك هو دور بنما في هذه الفضيحة الدولية.

 

لتوضيح ذلك، يلزم التذكير بأن ما كانت تسمّى ب “الجنّات المالية”، كسويسرا ولوكسمبورج، وجدت نفسها، بعد الأزمة المالية في 2008، ملزمةً، حسب القوانين الأوربية التي لحقت الأزمة، بالإفصاح للدول الأوربية بأسماء كل من يودعون أموالهم في أقبية بنوكها، للتأكد من شفافيتها وقانونيتها.

ذلك يعني أن على أموال الغشاشين، ممن يريدون إخفاء مبالغهم المالية على الضرائب أو استخدامها في أمور مظلمة، أن تكون باسماء ملاك وهميين، يلعبون دور شاهدي الزور تماما.

 

ذلك ما تقوم به شركة المحاماة البنمية: تسهل للغشاشين خلق “مرايا شركات” كما تسمّى، أي شركات سرابية تدير أموالهم المودعة في البنوك، باسماء ملاك بنميين لهذه الشركات، فيما يظل الغشاشون المالكين الحقيقيين لهذه الأموال، يستخدمونها خلف الأقنعة كما يحبّون. ما يهم فقط أن لا يظهرون على السطح، وأن لا يمسّهم مكروه لذلك.

إحدى النساء البنميات تمتلك باسمها 34000 شركة؛ راتبها الشخصي مقابل تصريح اسمها كمالكة زور لكل هذه الشركات: 1000 دولار لا غير. وما يدفعه الغشاش، مقابل اخفاء اسمه: حوالي 700 دولار سنويا لكل شركة، لمكتب المحاماة البنمي الذي يتولّى خلق وتنظيم وإدارة لعبة الزور هذه!

 

أما المليارات، كل المليارات، فلا تدخل بنما بالطبع. تسيل وتشتغل في الجنّات المالية في الدول الغنية، مجراها ومرساها، كما كانت دوماً قبل القوانين التي لحقت أزمة 2008، وقادت لتصميم تلاعبات البهتان اللئيمة هذه!

 

نحن هنا أمام شلالات نياجارا من مليارات الدولارات في الحقيقة، لم يُتعب أحدٌ نفسَه حتى الآن ليحسب كم سترفع من مستوى معيشة الناس في هذا العالم، وكم ستدعم التعليم والثقافة في كوكبنا المنهوب، فيما إذا طبِّق القانون على من يخفونها وتمّ استعادة ما يلزم استعادته منها وفقه.

 

من كشف هذا السّر؟

سؤال هامٌ يلزم لاستيعابه ملاحظة أن عالمنا اليوم يغرق في أمواج متلاطمة من المعلومات التي تتقاذفها شبكة الإنترنت. أضحى، بعد أن دخل عصر البيانات العملاقة Big Data الذي تناولنا معالمه في مقالات سابقة، مسرح صراع بين قوّتين:

الأولى قوّة التجسس الآلي للاستخبارات الدولية، لاسيما الأمريكية، التي تشبه اليوم أذناً هائلة تغلف الكرة الأرضية، تشفط من العالم الرقمي كل بيانات صغيرةٍ وكبيرة تخصّنا فيه، كل معلومة، وتقدّمها إلى برامج ذكيّة تستخلص منها معارف فطينة دقيقة عن كل حركاتنا وسكناتنا، ونوايانا المستقبلية أيضاً.

والثانية قوّة شبكة مناضلين مقاومين لهذه السلطات، تراقب، تتقصي، تدين، وتعطي تقييمات لما تمارسه السلطات السياسية والمالية من انتهاك للديموقراطية والقوانين.

منظمة الصحفيين والمتخصصين التي ساهمت بتقصي وكشف فضيحة بنما تنتمي لهذه القوة الثانية التي تنظّم نفسها اليوم أكثر فأكثر من أجل الديموقراطية والإنسان.

 

الهاكرون اللاخلاقيون على الإنترنت الذين يختفون في الأوكار والمستنقعات ينتمون للقوة الأولى، والهاكرون الأخلاقيون الذي يعقدون اجتماعاتهم الدولية الدورية تحت الشمس ينتمون للثانية.

بين هؤلاء وهؤلاء لم يعد مفهوم السر اليوم كما كان عليه قبل زمن الإنترنت: كل ما يبعثه الإنسان من إيميلات، كل ما يكتبه، كل حركات مبالغه المالية، كل ما يقوله في مكالماته، تتلقفه آذان، هي الأخرى محل مراقبة آذان مقاومة مضادة.

غفرانك فرويد: غرفة الأسرار في النفس البشرية لم تعد مقدسة مغلقة بالأقفال في عصر البيانات العملاقة و”الأخ الأكبر” الذي تنبأ به جورج أوريل في روايته الفذّة: 1984!

 

ربما لن يعرف أحدٌ كيف وصلت القوّة الثانية إلى كمبيوترات شركة موساك فونسيكا، أو هل تمّ ذلك بمجرد تسريب، أو عبر هكر برامج كمبيوتر مضادة ذكيّة تتقصّى الدول والشركات المتعددة الجنسية وتراقب اختراقاتها للقوانين.

 

لا تهمّ كثيرا هذه التفاصيل. ما يهمّ اليوم هو أنها حقّقت نصراً هاما للإنسان المقاوم.

كثير من اللصوص لم يناموا بعد هذه الفضيحة. بعضهم أعاد لبلده كل ما نهبه بشكلٍ لا قانوني، قبل انفتاح الملفات القضائية عليه؛ تسترد فرنسا مثلاً حوالي 6 مليارات يورو من هؤلاء. وبعضهم تنتظره السجون بكل بساطة.

علاوة على ذلك، تمّ تشكيل لجنة أوربية، بميزانية خاصة، لتدرس ملف كل أوربي مسّته الفضيحة. كذلك فعلت أمريكا…

 

غير أنه لا ينبغي المبالغة: لن تمسّ هذه المتابعات القانونية كبار الدناصير، لاسيما في الدول التي لا سلطة حقيقية للقانون فيها، كروسيا التي لجأ بوتين فيها لمبدأ الإنكار، على الطريقة السوفيتية، واعتبر هذه الفضيحة مؤامرة غربية ضد روسيا. أو كدولنا العربية، التي لم تكلف نفسها عناء الالتفات لما يمسّها من فضائح شاسعة، فما بالكم ببث البرامج التلفازية الاستقصائية الكاشفة.

 

ماذا كان سيقول ماركس عن فضيحة بنما؟

ماركس، مكتشف دور المال في حياة البشر، مثل اينشتاين مكتشف نسبية الزمن، داروين مكتشف أصل الأنواع، وفرويد مكتشف خبايا اللاوعي، هم عمالقة فكر وعلم العصر الحديث.

الأوّل هذا قضّى حياته فقيراً مطارداً، متنقلاً مع زوجته جاني وأطفالهما الستة من شقّة إلى شقّة لا يمتلكون ثمن إيجارها، اعتبرته سلطات الغرب حينها: الإرهابي الأوّل في العالم، فيما كان يقضي حياته يكتب، في غرفٍ بائسة، مؤلفات خالدة، مثل “رأس المال”، لم يكسب مقابلها رأس مال علب سجائره!

لكنها هزّت العالم وغيّرت حركته، وما زالت محل اهتمام ودراسات طلاب الثانويات والجامعات والفلاسفة، أكثر صحّةً وحيويّة من أي وقتٍ مضى رغم تشويه التجربة السوفييتة لها، لاسيّما فيما يتعلق بتحليلها لبنية الرأسمالية وعطبها الجذري.

إمتحان الفلسفة (المادة الوحيدة المشتركة في كل أقسام الثانوية العامة الفرنسية الأدبية والعلمية والمهنيّة) كانت قبيل سنوات حول حصيلته الفلسفية.

 

كان ماركس سيقرأ لنا نصّه هذا الذي كتبه بلسان حال رجل مال مافياوي، كهؤلاء الذين مسّتهم فضيحة بنما:

((قوّتي تنبع من المال. محاسن المال محاسني وسلطتي الجوهرية. كينونتي ومقدراتي لا ترتبط بذاتي: أنا قبيح، لكني أستطيع شراء أجمل نساء الكون. لذلك لستُ قبيجاً، لأن مفعول القبح وقوّته الطاردة يلغيها المال. أنا شرير، غير أمين، بدون روحٍ وضمير، لكن الناس تعبد المال، ولذلك تعبدني.))

 

خلاصة القول: ما كان ماركس سيندهش من فضيحة بنما، هو الذي يعرف أكثر من أي إنسان أن هوس رجل المال لإضافة المليار العاشر، لمليارات دولاراته التسعة، لا يقل عن هوس جائع فقير يسعى للبحث عن عشاء ليلته. لكنه هوسٌ أكثر شراسة ومكراً.