ما سِمَةُ العصر؟

حبيب سروري

 

يندر أن تجد أيديولوجية، سياسية أو دينية، ليس لها تنبؤاتها القاطعة بما سيكونه المستقبل، وكأنها قارئة فنجان تخترق نظراتها جدارَ الزمن الذي يفصلنا عن السنوات والعقود والقرون القادمة.

 

من نسي عبارة “سمة العصر حتمية انتصار التقدم: انهيار الرأسمالية وانتصار الاشتراكية بقيادة الإتحاد السوفيتي” التي كانت ترددها الأحزاب والقوى التي تدور في فلك الإتحاد السوفيتي؟

الرأسمالية لا تختلف هي الأخرى عن ذلك. تنضح نظرياتٍ تنبؤية، برهنت خطأها هي الأخرى، مثل نظرية “صراع الحضارات”، و”نهاية التاريخ”.

 

أما الأديان فهي فحْلُ الأيديولوجيات في هذا المجال. نصف أطروحاتها تنبؤات بمستقبل الإنسان، ونصفه الآخر سردٌ لتاريخ نشوئه وماضيه، من وجهة نظرٍ غيبية، تختلف غالبا عن صيغة الحقيقة العلمية لتاريخ وماضي الإنسان: لا تستند هذه الحقيقة على المسلمات الغيبية، ولكن على أبحاث ودراساتٍ تبرهنها عمليا مختبرات ومناهج العلم الحديث.

 

كل الأيديولوجيات التي تدّعي معرفتها بسيناريو مستقبل الإنسان، تفعل ذلك فيما لا يهمّها في الحقيقة إلا السيطرة على حاضره: هدفها توجيه الإنسان لاعتناقها والانضواء لرايتها، وصناعة الحاضر بموجب تعاليمها ومصالحها. لأن من يقنعك بسيناريو الماضي أو المستقبل كما يراه، يسيطر في نهاية المطاف على حاضرك.

 

لكن السؤال الذي ننسى غالبا طرحه: أمشروعٌ فعلا سؤال: “ما سمة العصر؟”، والتنبؤ بالمستقبل؟

أليس ذلك سؤالاً ميتافيزيقيا في الجوهر، متأثراً بأسئلة الفكر الديني، لأن المستقبل القادم، لا سيّما البعيد، يستحيل استشرافه بالضرورة، كونه خاضع لعدد لا نهائي من الاحتمالات والصدف، ولتقلبات مزاج البشر ومفاجآت الحياة التي لا تُعدّ ولا تحصى؟

 

أميلُ إلى هذه الرؤية كثيرا. ليس فقط لأن السنوات (بل الأيام) القليلة الماضية علّمتنا أن أهمّ منعطفات تاريخنا المعاصر كانت دوما مفاجآت لم يتنبأ بها أحد: سقوط جدار برلين، انفجار الربيع العربي، انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوربي، نتائج انتخابات أمريكا وفرنسا… ناهيك عن أن وصول المعتوه ترامب لرأس أمريكا حوّل التنبؤ بالمستقبل القريب القادم محض خيال، لفرط تقلباته وردود أفعاله المجهولة…

 

ليس لذلك فقط، بل لأن الحضارة الإنسانية المعولَمة الحديثة صارت أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، وأرضاً خصبة لكل المفاجآت التي لا تخطر ببال في أية لحظة، لا سيّما بعد اندماجها في فضاء تكنولوجي ومعرفي مشترك، بفضل الإنترنت والشبكات الاجتماعية على صعيد كوكبنا الحبيب.

 

فإذا كانت حضارة الإنسان في الماضي أشبه بطريق خلاء شاسع، تسير فيه الخيول والجمال والفيلة والبشر، ببطء وفي أفياء متباعدة جغرافيا، فحضارة اليوم أشبه بطرق سيارات سريعة، مزدحمة جدا، تخلو من الحدود الفاصلة وقواعد المرور المشتركة، تتراكض فيه الخيول والجمال والفيلة والقنافد والسلاحف والسيارات البطيئة والسريعة جدا، والسيارات بدون سائق، والبشر اللاهث على أقدامه في مختلف الأرجاء…

 

هي لذلك منظومة “شواشية”، chaotique، بإمتياز. ولذلك تخضع، مثل كل منظومة شواشية، لما يسمى بمبدأ “تأثير الفراشة” الذي يمكن تلخيصه رمزيا بهذه العبارة الشهيرة: رفرفة جناح الفراشة في أرخبيل الغلاباغوس يمكنه أن يُسبِّب عاصفةً رملية في طور الباحة في اليمن!

فأية رجّة في هذا الخلاء الفوضوي، أو أي اصطدام في أية بقعة من بقاعه، أو أي رغبة مبيتة في رأس هذا المغامر أو ذاك، للتأثير على حركة مواصلاته، يمكنها أن تقلب حركة منظومة المواصلات الحسّاسة جداً رأسا على عقب، لتكون لها تداعيات وعواقب لا يمكن معرفتها مسبقا…

 

أضف إلى ذلك أن الشبكات الاجتماعية على الإنترنت مناخٌ مناسبٌ وسريع لنشر وتأجيج الإيمان بالمعلومات والمعتقدات الخاطئة، وبث التأثيرات والانفعالات المختلفة، لا سيّما ما صار يسمّى مؤخرا: “ما بعد الحقيقة” Post truth، “الحقيقة البديلة” Alternatif fact، و”الأخبار الزائفة” fake newF، التي تنتقل جميعها بفضل الإنترنت في أرجاء المعمورة بسرعة الضوء، وتؤثر على مجرى حياة العالَم وقرارات الإنسان، على نحو متقلب ومفاجئ جدا.

بسبب كل ذلك يصير التنبؤ باتجاه مسيرة الحضارة البشرية ضرب من الوهم الخالص.

 

لا يمنع ذلك من رؤية اتجاهاتٍ مستقبلية ثابتةٍ محددة في هذا المجال أو ذاك، لحياة البشرية على المدى القريب. لكن لا يعني ذلك الإيمان بحتميتها المستقبلية المطلقة، على المدى المتوسط والبعيد.

 

فمن يتجرأ الاعتقاد اليوم بنظرية حتمية التقدم، وكوكبنا مريض جدا ومهدد بأمِّ الكوارث بسبب إرتفاع درجات حرارته جراء النشاطات الإنسانية التي تملأ غلافه الجويّ بغازات التسخين الحراري، لا سيّما وقد أعلن ترامب، لبضعة مصالح مالية أنانية، خروج أمريكا من اتفاق باريس الدولي COP21 الذي كان آخر أملٍ بتقليل حدّة الكارثة البيئية المرتقبة التي ستفوق نتائجها خرائب الحربين العالميتين الأولى والثانية بما لا يقاس ولا يحصى؟

 

من يعتقد بحتمية التقدم كمصيرٍ للإنسان، والجيل الحالي في معظم أصقاع الأرض قد صار يعتقد، لأول مرة في تاريخ البشرية على عكس كل الأجيال السابقة، أنه أقل سعادة من جيل آبائه، بسبب الأزمات المالية والبطالة والتراجع عن مكتسبات نضالات الإنسان الاجتماعية في العقود الأخيرة، وتأجيج الهويات القاتلة والانطواء على الذات، وثقافة العداء للآخر وعدم الاكتراث بموته ومصيره؟

 

لكن مع ذلك، لا يختلف أحد على أن التقدم، على الصعيد العلمي والتكنولوجي فقط وليس على بقية الأصعدة، ثابتٌ حضاري، سيزداد مستقبلاً على نحو لا نستطيع سبر أغواره من الآن، لا سيّما مع بدء عصر الذكاء الاصطناعي والبيولوجيا الحديثة.

لا يعني ذلك أن هذا التقدم سيرفع من سعادة الإنسان. لا أعتقد ذلك. بل سيزيد حتماً من عبوديته للآلة والروبوتات، ومن خضوعه لسلطة المعلومة، ولشاشات الهواتف والكمبيوترات، وللأجهزة الإلكترونية التي ستُزرع أكثر فأكثر في صلب دماغ الإنسان وجسده.

 

سلطةُ قوى المال والتجارة الحرّة على مختلف أوجه حياة الإنسان تبدو، هي الأخرى، ثابتا سيتواصل أكثر فأكثر.

لا يعني ذلك حتمية كونها مصيرَ مستقبل الإنسان بعد قرون أو حتى عدة عقود، لأنها ببحثها الجنوني عن الربح والغناء الفاحش، ولعدم وضعها مصلحة الإنسان والكوكب أولويةً لمشاريعها، تزيد من التباين بين البشر، وتصنع الأزمات تلو الأزمات المالية والإنسانية والبيئية التي لا يمكن التنبؤ بتداعياتها، وبمستقبل ردود أفعال الإنسان تجاهها.

 

شديدُ التعبيريةِ في هذا المضمار الجدلُ السائد حاليا حول القوانين الخاصة بالسيارات بدون سائق.

يعرف الجميع أن هذه السيارات أضحت جاهزة لغزو السوق اليوم، لا سيّما في الدول المتطورة. وأنها ستشكّل قفزة نوعية رائعة لتحسين مواصلات الإنسان وأمنه.

ما يعيق غزوها حاليا هو الجدل حول قوانين تنظيم حركتها، وطرائق برمجة قراراتها في حالة الاصطدامات.

فعندما ترى عدساتُ السيارة بدون سائق بضعةَ أفراد دخلوا في طريقها في آخر لحظة، على نحوٍ يعرضهم للموت الذي لا يمكن تلافيه، فما الذي يلزم حينها أن تقرره برامج كمبيوترات السيارة بدون سائق؟

أيلزم الاصطدام بهم والحفاظ على حياة صاحب السيارة، أم تلافي الاصطدام بهم بالانعطاف يمينا أو يساراً للاصطدام بأقرب جدار، على نحوٍ يروح ضحيته صاحب السيارة فقط وينجو الآخرون؟

 

الاختيار الثاني أخلاقي بالطبع، ويثير إعجاب الجميع. لكن الملفت المثير: لا يوجد إنسان سيوافق على شراء سيارة يمكنها أن تقرر قتله لتلافي موت آخرين!

ولأن مهمة قوى المال هي البحث عن الربح، فأتوقّع أن لا ينتهي الجدل التشريعي لصالح القرار الأخلاقي، ولكن لِصالح القرار الذي يضمن بيع هذه السيارات، وربح قوى المال، على حساب القِيم الأخلاقية!

 

ازدياد سيطرة المال على حياة الإنسان سيستمر، كما يبدو.

لكننا ننسى غالبا أن المال، مثل الوطن، القبيلة، الطائفة، الدين، الحروب، قواعد مباريات الرياضة والشطرنج، وعدد آخر من المفاهيم التي اخترعها الإنسان من وحي خياله وتشبّث بها، يمكن الحياة بدونها، في مجتمعات مبنية على قواعد مختلفة.

 

لعل ما أظنه فقط حقيقةً مستقبلية ضرورية، أكاد أقول أبدية ثابتة، هو التطور المطلق لدور العِلم في حياة الإنسان.

إذ إن حاجة الإنسان للعلم ليست خيالية ولكن عملية أساسيةٌ مطلقة، لفهم الكون والحياة والسيطرة على الطبيعة، لعلاج الأمراض، لمقاومة الموت وربما لهزيمته، كما تسعى بعض الأبحاث العلمية اليوم.

ربما لذلك نلاحظ الدور المتصاعد الدائم للعلم، وهيمنته على كل مجالات حياة الدول المتطورة، من اليابان واستراليا والصين شرقا، حتى أوربا وأمريكا في الغرب؛ وتقلّص دور الدين بالمقابل لا سيّما منذ الثورة العلمية، في كل مساحات المعرفة والحياة التي يشتغل عليها العلم.

 

لذلك، بفضل انتصارات العلم، يبدو كل شيء كما لو كان الحديث الشريف: “سيأتي يوم يكون القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة” أصدق التنبؤات المستقبلية!