ما بعد الإنسانية

حبيب سروري

 

بعد انتصار الليبرالية المتوحشة في ثمانينات القرن الماضي وإطلاق شعارات “نهاية التاريخ”، خسفت كلمة “الطوباوية” (التي ترسم، بريشة الحلم غالبا، معالم “مجتمع مثالي تتحقق فيه أحلام الإنسان بالمساواة والعدل والحياة الرغيدة”).

 

ثمّ عادت هذه الكلمة النبيلة اليوم، من جديد. عادت باسماء جديدة (لها بلاغيا روائح “الإرداف الخلفي”، الذي يجمع بين كلمتين متناقضتين): “الطوباوية الملموسة”، “الطوباوية الواقعية”، و”الطوباوية الحقيقية”.

 

الثالث منها، الذي أطلقه أحد أكبر علماء الاجتماع الأمريكيين، مهم جدا على نحو خاص، لأنه يرسم مشروعا واعداً جديدا ل “ما بعد الرأسمالية”، لا علاقة له بالمشاريع الثورية أو الإصلاحية التقليدية، ولكن بدور شبكات المجتمع المدني في عصر التقدم التكنولوجي. سنعود له بمقال خاص.

 

في عصر هذا التقدم التكنولوجي، وبعد شتاء علم “الذكاء الاصطناعي” (الذي يهدف لِتمكين الكمبيوتر من محاكاة الذكاء البشري، بل تجاوزه) خلال الثمانينات من القرن المنصرم وحتى بدء التسعينات، بسبب عدم تقدّم أبحاث هذا العلم سريعا بالمقارنة بالأحلام الكبرى التي أعلنها عند تأسيسه في الخمسينات من القرن المنصرم، حدثت بعد ذلك قفزات نوعية في أبحاث هذا العلم، منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي.

 

قاد ذلك الفيلسوف الألماني الكبير، بيتر سلوتيرجيك، في 1999، لإطلاق مصطلح: ما بعد الإنسانية، Posthumanism، لتيار فكري يدرس العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا الحديثة، ومستقبلها الذي سيغيّر تركيب الإنسان وعاداته وطبيعته.

 

استخدم الفيلسوف مصطلح: الإنسانية الانتقالية، Transhumanism، كمرحلة تمهيدية لما بعد الإنسانية.

غير أن هذا المصطلح الثاني صار شديد الانتشار اليوم، بل طمّ مؤخرا مدلول المصطلح الأول، وصار وحده يعني: ما بعد الإنسانية، وبمدلول محدد دقيق:

خلقُ إنسانٍ “معزَّز”، Augmented، يتجاوز نوعنا البيولوجي الحالي: هومو سابيانس.

تمتزج فيه عضوياً بيولوجيا الإنسان الحالي ببرامج الذكاء الاصطناعي ومنتجاته الإلكترونية، بغية الوصول إلى إنسان أقدر وأذكى، يهزم الأمراض والعاهات والموت، يُطلق عليه أحيانا: هومو ديوس، “الإنسان الإله”.

 

قبل قراءة نقدية لمفهوم ما بعد الإنسانية، بمدلوله هذا، يلزم ملاحظة أن العلاقة العضوية بين الإنسان والآلة لها اليوم إنجازات ملموسة حقيقية، وليست مجرد أضغاث أحلام للخيال العلمي.

 

فأجهزة علم الأحياء الالكتروني، كالأيادي الاصطناعية، هي حقيقة اليوم. تستطيع القرود، بعد تدريبها، استخدامها عن بُعد، بفضل رقائق مغروسة في أدمغتها.

يمكن اليوم للإنسان المعاق تحريك يد صناعية، بمجرد التفكير بذلك، بفضل جهاز يحيط بالرأس مثل سماعات الآيبود.

ومنذ عامين، تم غرس رقائق الكترونية بحجم حبّة الرز في أصابع آلاف السويديين، تحتوي على معلومات تهمهم، كأرقام بطائقهم البنكية.

دون الحديث عن الرحم الاصطناعي الذي صار يشتغل، منذ عام 2017، لإنجاب بعض الحيوانات…

 

ثمّة اسمان شهيران في طليعة المدافعين بهجومية عن فكرة ما بعد الإنسانية، ومشاريع الاندماج الكلي بين الإنسان والكمبيوتر، الذي سوف يتمخض عنه هومو ديوس: راي كورزويل، و إيلون موسك.

 

أطلق كورزويل، بعد دراسة علمية مثيرة للجدل، مفهوم لحظة “التفرّد”، Singularity، التي سيتجاوز بعدها الذكاءُ الاصطناعي ذكاءَ الإنسان. وتستطيع بعده الروبوات وبرامج الكمبيوتر أداء كل المهام البشرية: طب، محاماة، ترجمة، كتابة روايات، جراحة وتمريض، تدريس… على نحوٍ مستقل وأفضل من الإنسان.

بل حدّد لها موعدا: عام 2045!

 

يعمل كورزويل حاليا في شركة غوغل، أكثر الشركات الدولية ريادةً في مشاريع ما بعد الإنسانية. ويقود شخصيا مشاريع شركة غوغل لهزيمة الموت.

 

أما موسك (أحد الثلاثة النجوم الكاليفورنية الشابة اللامعة التي تقود مسار التكنولوجيا الحديثة للعالَم، بجانب صاحب غوغل، وصاحب الفيسبوك. إن لم يكن ألمعهم) فهو مخترع السيارة الكهربائية الذكية تيسلا، ورئيس الشركة الفضائية سباركس إكس.

أسس مؤخراً شركة نورالنك لصناعة منظومات جسور تفاعلية (Interface) بين الدماغ والكمبيوتر.

 

السؤال الرئيس هنا: ماذا حدث من تقدم نوعي في مجالات الأبحاث النظرية في علوم الذكاء الاصطناعي، ليقود هكذا إلى الحديث عن لحظة “التفرد”؟

وهل هو كافٍ لتبرير الإيمان بمستقبل ما بعد الإنسانية، وجدوى مشاريعها وإمكانية تحقيقها ذات يوم، على أرض الواقع؟

 

ثمّة في الحقيقة مفهوم نظري في علوم الذكاء الاصطناعي اسمه: “شبكة العصبونات الاصطناعية”، يُنمذِج كمبيوتريا طرائق عمل عصبونات دماغ الإنسان، ويُبرمجها لتشتغل فعلا على الكمبيوتر.

وثمّة تقنية نظرية، اسمها “التعلّم العميق”، Deep Learning، تَستخدم هذه العصبونات الاصطناعية على نحوٍ يحاكي تفاعلاتها في الدماغ البشري عندما يتعرف، عبر النظر، على هذا الشكل أو ذاك: كعبة مكّة، وجه إنسان، منظر طبيعي…

 

حققت هذه التقنية، التي اخترعها العالم الفرنسي يان لوكون (أستاذ الذكاء الاصطناعي في جامعة نيويورك، ورئيس مختبر الفيسبوك للذكاء الاصطناعي) نجاحا مذهلاً في التعرف الآلي على مكوِّنات الصور الرقمية في الكمبيوتر: يستطيع بفضلها الفيسبوك، بدقائق، المعرفة الآلية لمحتوى ملايين الصور الذي نضعها يوميا عليه. ويحظر آليا بفضلها من يضع صوراً لا أخلاقية، مخالفة لميثاق الاشتراك في الفيسبوك.

 

ثمّ صارت هذه التقنيةُ تُستخدم اليوم في مجالات عديدة: بها هزم الكمبيوتر، في مارس 2016، بطل العالَم: لي سيدول، في لعبة “الغو” الأشد تعقيدا بما لا حدّ له من لعبة الشطرنج؛ وبها تحسّنت الترجمة الآلية مؤخرا… ناهيك عن كونها تقنية مغروسة في الآيفونات الجديدة.

 

غير أن هذه التقنية تنتمي لما يسمّى “الذكاء الموجَّه”:

لتتعلمَ شبكةُ العصبونات الاصطناعية شيئا ما، ثمة حاجة لتوجيه الإنسان لها، لا سيما في المراحل الأولى من التعلّم.

فقبل أن تكتشف هذه العصبونات وحدها شكل نعامة، في أية صورة على الإنترنت، يلزم أن يُدرِّبها الإنسان، ويقدم لها قاعدة بيانات ضخمة لصور نعامات متنوعة، ويقول لها، إذا ما أخطأت، لا سيما في المراحل الأولى من تعرّفها على صور النعامات: “هذه ليست نعامة”.

 

بعد تدريبها، بإمكانها فعلاً أن تكون أفضل من الإنسان في كل المجالات التي تمّ تدريبها عليها:

يستطيع الكمبيوتر اليوم مثلا اكتشاف أمراض سرطان الجلد أو الثدي أفضل من فريق أطباء بشر، من مجرّد تحليل صور الكشافات الطبية للمريض.

 

أما في مجال “الذكاء غير الموجه”، الذي يستطيع كمبيوترُ الروبوتات التعلّم بفضلهِ لوحده، من مجرد رؤية الواقع المحيط به والتسكّع الحرّ فيه، دون تدخل الإنسان وتدريبه له، فالأبحاث العلمية بدأت مؤخرا فقط. وما زالت في طور جنيني. ولا يستطيع أحد القولَ حاليا بأنها ستحقق قفزة نوعية، كما فعلته تقنية “التعلم العميق”، خلال سنتين، أو عقدين، أو ربما خمسين سنة.

 

فقبل تحقيق تقدّمٍ حقيقيٍّ صاعق، في هذا المجال، وقبل مواصلة اكتشاف أسرار الدماغ البشري وآليات عمله البلاستيكية، يظل الحديث عن لحظة “التفرّد” أقرب إلى الأماني الجميلة.

وتظل كثير من المشاريع المستقبلية للاندماج العضوي بين هومو سابيانس والكمبيوتر، في كائن بيولوجي جديد، اسمه هومو ديوس، أقرب حاليا للخيال العلمي.

حاليا فقط!

 

إذ يمكن بالفعل مثلا أن يكون لكلٍ إنسانٍ منا توأما من الروبوتات الخالدة، يعيش ويتعلّم ويعشق ويتصرَّف مثله تماما، في كل صغيرة وكبيرة وحتى أبد الآبدين، إذا ما تمّ “تحميل” دماغ هذا الإنسان في الروبوت كمنظومة برمجيات كمبيوترية، شريطة إدراك خوارزميات العشق وكل آليات الوعي واللاوعي الإنساني، وبرمجتها على نحوٍ كامل. وهذا ما لم يصله الذكاء الاصطناعي بعد.

 

ثم ما جدوى صناعة هذا الإنسان الخارق الأعلى الذي يمتلك ذكاءً وقدراتٍ وملَكاتٍ بلا حدود:

أليس الإنسان إنساناً، ليس بجبروته وعبقريته فقط، ولكن بضعفه أيضاً، بكسله وتردّده وقلقه وخوفه ونسيانه وأحزانه؟