في تمجيد “التلفون العربي”

حبيب سروري

 

“التلفون العربي” مصطلح برز في الديار المغربية في القرن 19. اخترعه المستعمرون الفرنسيون للحديث عن سرعة تفشي وانتشار الخبر هناك، عبر قناة القيل والقال.

على العكس من كثير من المصطلحات الاستعمارية المقيتة، يخلو هذا المصطلح من العنصرية، بل هو إيجابي: يمدح شبكة العلاقات الاجتماعية وفعالية مقدراتها على تقارب الناس ونشر المعلومات بينهم بسرعة ملفتة.

 

لعله إيجابي جداً في الحقيقة، لأن بعث الإيميلات، لإرسال خبر لمجموعة من الناس، ليس أكثر من ممارسة طقوس “التلفون العربي” في حلّةٍ تكنولوجية عنكبونية جديدة. وما كتابة منشور على الفيسبوك أو “مشاركة” الآخرين بمنشور، بل وما الفيسبوك نفسه، إلا مجرّد رقمنةٍ للتلفون العربي في العصر الرقمي.

 

أما “التلفون العربي” في عصر الهاتف المحمول، فقد زادت مقدراته على التفشي والانتشار، وأضحى يحمل اسمه المجازي بكل جدارة.

عشتُ مؤخراً قصةً تجلي مقدرات هذا التلفون في بث الأخبار بسرعة البرق، انتشرت هي نفسها عبر “التلفون العربي” من طرف الأرض إلى طرفها:

 

اتجهتُ مؤخراً مع صديق، ع.ش، نحو مقهى هادئ، عقب مشاهدة مسرحية “كارمن الكوبية” في مسرح شاتليه بباريس. مكثنا في صالة صغيرة في نهاية المقهى، تسمح بالحديث دون ضجيج.

هو أمامي، قبل أن يصل خلفه، بعد قليل، شاب وشابة من الهند، في العشرين من العمر. هي بملابس هندية تقليدية، وهو بهيئة شباب جيل العولمة.

 

كنت أتحدث مع صديقي عن كتاب في الأنثروبولوجيا غيّر مجرى حياتي، عندما لاحظت نضال الشاب لمحاولة ترك قبلةٍ على ثغر رفيقته التي كانت تتجنب ذلك بضراوة، وبودّ رقيق أيضاً.

أعرف أن الهنديات لا يحببن تدخين السجائر، جهرا أو في الخلاء. أما القبل فينفرن تماماً من ممارستها على مرأى الناس في الشارع.

 

ألاحظ: يتصبب الشاب أمامي عرقاً وهو يحاول باستماتة…

أسررتُ لصديقي، في معمعان تلخيصي للكتاب الأنثروبولوجي:

= خلفك ثنائي، هندي وهندية، الشاب يجاهد بعزيمة من حديد للفوز بقبلة العمر من حبيبته!

 

كان صديقي مهذباً. لم يستدر لرمق المشهد، لكنه كان يقاطعني، بلا وعي، كل خمس دقائق بسؤال عمّا يدور بين الهندي والهندية.

 

في منتصف حوارنا استلم صديقي هاتفاً من صديقٍ له، باح له في منتصف حديثهما بأني أمامه، وخلفهُ شاب وشاب هندية، إلى نهاية القصّة…

 

أدهشني أن صديق صديقي اتصل بالأخير مرتين، يسأله السؤال نفسه الذي وجّهه لي.

أمتعني ما يحدث، وما يلخص أهم ظواهر انثروبولوجيا نوعنا البيولوجي: ظمأ الإنسان للمعلومة.

يقضي الدماغ الإنساني معظم وقته بتحليلها، بالبحث عنها، بأرشفتها، بتبادلها مع الآخر… حاجته الحادّة لمعرفة ما وراء الأكمة، للتلصص، ولهتك كنه السر، عضوية.

 

تواصلتْ دردشتنا مع صديقي حول كل شيء ولا شيء، عندما استلمتُ تلفوناً من كندا، بعد ساعتين من المقهى، من صديق شخصيّ لي هذه المرّة، انقطعت أخباره عني طويلاً.

سرب لي في نهاية المكالمة هذا الاستفسار الغريب:

= نسيت أن أسألك: ما أخبار الهندي الذي أمامك في المقهى؟

 

نسيتُ هذه القصة في خضم أحداث هذه الأيام التي يطم كل حدث فيها ما سبقه ويمحوه من الذاكرة، قبل أن تصلني بعد أسبوع منها مكالمة من اليمن، دامت نصف ساعة تقريبا، عن أحداث دامية.

قبيل نهاية المكالمة، يوجه لي صديقي هذا السؤال الذي فاجأني تماماً:

= عندما كنتَ قبل أسبوع مع صديقنا ع.ش في المقهى، كيف انتهى لقاء الهندي بالهندية؟!

 

عادت إلى ذاكرتي عبارات لِفرانس كافكا، في “رسالة إلى ميلينا”، 1922، لا أجد أروع وأكثر نورانية منها لشرح الصراع بين الواقعي والافتراضي في هذه القصة، وفي كل حياة الإنسان المعاصر:

((“البوسات” المكتوبة في نهاية الرسائل لا تصل صوب وجهتها لأن الأشباح تشربها في منتصف الطريق. بفضل هذا الغذاء الدسم تتضاعف الأشباح على نحوٍ خرافي.

تشعر الإنسانية بذلك، وتناضل ضد خطورته: حاولَتْ قدر ما تستطيع إقصاء العلاقات الشبحية بين الناس، بحثاً عن علاقات طبيعية ملموسة، وعن ترميم السلام بين الناس، مخترعةً لذلك السكك الحديدية، السيارة، الطائرة…

لكن السقوط كان قد بدأ قبل ذلك، والعدو الشبحي قد انتصر. هو هادئ واثق من نفسه بلا حدود. فبعد البريد، اخترع البرقيات اللاسلكية…

الأشباح لن تموت من الجوع، أما نحن فمندثرون.))

 

أيقنتُ، في الحقيقة، بعد هاتف صديقي اليمني أن مصطلح “التلفون العربي” ليس مجرد استعارة إنشائية، ولكن ظاهرة متجذّرة في صميم الطبيعة الإنسانية.

فمنذ أن صار الإنسان إنساناً، وجد نفسه مثلنا اليوم أمام محيط لجاج من المعلومات التي تصله من كل مكان: من تاريخه، من محيطه الاجتماعي، من توقعاته واستنتاجاته التي يفترضها أو يختلقها بواسطة ملَكته الذهنية الفردية: الخيال؛ لاسيّما وأن “المعلومة مشكاة الإنسان”، كما يقول باسكال بوييه، صاحب الكتاب الانثروبولوجي الهام الذي بدأت مع صديقي حوارنا بالحديث عنه.

 

إنتاج المعلومة الدائم، وتبادلها مع الآخر، منذ المراحل الأولية لحياة الإنسان، أهم الخصائص الجوهرية في نشاطه اليومي الذي سمح له بالبقاء على وجه المعمورة، وبالفرار من سباعها وضواريها، وبتبادل التجارب مع الآخرين والتغلب على مصاعب الحياة…

 

غير أن كثيراً من هذه المعلومات تسقط عاجلاً أم آجلاً في هاوية النسيان. وثمّة خصوصيات محدّدة تجعل بعضها تستحوذ الذهن، تثير حب استطلاعه، وتبقى فيه أكثر من غيرها، إن لم تنتقل أيضاً من جيل إلى جيل:

 

أوّلها المعلومات التي “تغتصب” توقعاتنا الذهنية في جانب واحدٍ فقط. أضرب أمثلة على ذلك: “زرقاء اليمامة” الأسطورية إمرأة كأية أمرأة، لكنها قادرة، بعينيها الزرقاوين، على مشاهدة الأشياء البعيدة التي تفصلها عنها مسافة 3 أيام!

برهنت تجارب علماء الذهن أن هذا النوع من المعلومات يستحوذ الذهن ويلتصق بذاكرته طويلاً.

 

ثانيها تلك التي تثير أكبر عدد ممكن من “المنظومات الاستباطية” في الدماغ، التي تحدثنا عنها في مقالنا السابق: “أصداء أقدم أعياد العالم”.

مثال: الكائنات الميتافيزيقية في كثير من المعتقدات الدينية التي تمتلك قدرات خارقة (تثير بذلك “منظومة الفيزياء البديهية”)، تراقب حياتنا الاجتماعية من خلف السماوات، وتعرف خفاياها ومستقبلها (تثير بذلك “منظومة علم النفس البديهي”)…

 

ثالثها تلك التي تؤثر بشكلٍ ملموس على مشاعرنا وحب استطلاعنا، وتجعلنا نتمثّلها في الدماغ (تتقاطع، في الحقيقة، مناطق التمثّل في الدماغ مع مناطق الإحساس فيه). لهذا السبب نشعر بالألم أو السعادة عند تمثلنا لألم أو سعادة الآخر، في فيلمٍ سينمائيٍّ أو رواية أدبية.

ولهذا يهيّج سؤال: “كيف انتهى لقاء الهنديّ بالهنديّة؟” ذكريات سعيدةً عند هذا، وحب استطلاع تلصصي جارف عند ذاك، تجعل المستمع عموما يرسم في خياله السياق والمسرح الذي يدور فيه النضال الإنساني البريء للشاب الهنديّ للحصول على قبلة العمر من حبيبته الصغيرة.

لعل سيلاً من الأسئلة تجتاح ذهن السامع: كيف كان منظر الشابين في ذلك الركن القصي من المقهى؟ هل كان رفض الشابة وديّا غنجاً أم تحوّل إلى رفضٍ قاطع؟ هل استمرت الشابة في رفضها، أم جبرَتْ خاطر حبيبها أخيراً بربعِ قبلة صغيرة على الأقل؟…

 

لاحظتُ ذلك عندما نشرتُ هذه القصة، فانهمرت عليّ الأسئلة من كل مكان عن تفاصيل ونهاية لقاء الهندي بالهنديّة، لأجد نفسي بأهميّة “من يعلم السرّ وأخفى”: كاتب الرواية الذي يعرف وحده نهايتها، فيما يحترق الجميع انتظاراً لها!

 

تأجيج تمثّل دماغ القارئ لما يتلقاه من معلومات، وتفاعله معها، هو جذوة رجاء العمل الإبداعي. ولا تخلو هذه القصة الصغيرة من عناصر تتناغم مع سليقة الدماغ البشري وحاجاته، تستقطب انتباه عدد من منظوماته الاستنباطية، وتنشّط الحساسية الإيقاعية والجمالية والإنسانية التي اكتسبها خلال مراحل تطوّره.

 

قد يبدو هنا أن للتلفون العربي أهميّة في العلاقات الاجتماعية فقط. كلا، آليات القيل والقال، وفن بث الإشاعة، أهم ركائز الاقتصاد الرقمي الجديد: موضوعنا القادم!