فنُّ الحدادِ على الذات

حبيب سروري

(نُشرَ في مجلة « بيت السرد » الفصلية)

 

الحداد، والحداد على الذات، ضرورةٌ بسيكولوجية نوّهَ لها فرويد. تسمحُ بِقبول الموت كخسارةٍ كليّةٍ لا مناص منها والتصالح معها، وبأرشفة ذكريات من نفقدهم ومواصلة الحياة الطبيعية بجوار ذكراهم.

الحداد على الذات، لمن ينتظرهُ موعدُ موتٍ مُحدَّدٍ قريب، فنٌّ صعبٌ لا يجيد ممارسته بأناقة إلا القليلون ممن يهزمون الخوفَ من الموت ويتجاوزونه، لِيتركوا عند رحيلهم ذكريات ساميةً آسرة، تثير كل الإعجابِ والحبِّ الدائم.

 

لعلّ لحظة موت الفيلسوف سقراط، كما حكاها تلميذه أفلاطون الذي كان من حواريي سقراط في تلك الليلة الليلاء، أحد أشهر وأجلّ أمثلة الحداد الذاتي.

أٌتُّهِمَ سقراط، كما يعرف الجميع، بإفساد الشباب، وأُدِينَ بالموت بالسم. لم يهرب من السجن كما اقترح له أصدقاؤه، بل فضّل الموتَ انطلاقاً من التزامه بقوانين المدينة، كما علّمهم ذلك على الدوام.

قضّى ليلتَهُ الأخيرة يحثُّ تلاميذه على عدم الخوف من الموت. “عندما يقترب الموت من الإنسان، يغادرهُ الزائلُ من كينونته فقط، أمّا الأبديُّ منها فينصرف بعيداً تاركاً محلّه للموت”، قال لتلاميذه.

شرب سقراطُ السمَّ هو نفسه، تاركاً لتلاميذه تساؤلاً فلسفيّاً يسبق لحظة الانصراف الأخير: “حانت ساعة مغادرتنا بعضنا البعض. أنا للموت، وأنتم للحياة. من منّا فاز بالقسمة الأفضل؟ لا يعلم ذلك أحد!”…

 

في هذا التسامي أثناء نعي الذات أناقةٌ ما تستحضرُ وفاةَ عالِم نحوٍ عربي تجمّعَ قومُهُ حول بيته لِقتله. لم يهرب أو يرتجف. بالعكس: بشجاعةٍ استعراضية، وبذكاء معرفيٍّ لغويٍّ لطيفٍ مدهش ينضحُ سخريةً رفيعةً وسموّاً نبيلاً (وإن لا يخلو من الذكورية المقرفة بالتأكيد)، قال:

إنّ قومي تجمّعوا

وبقتلي تحدّثوا

لا أبالي بِجمعِهم

كل جمعٍ مؤنثُ!

حيث يقصد أن جمع المذكّرِ باللغة العربية يُعامَل نحويّاً كمؤنث، إذ نقول: “جاءت الرجال” مثلاً، وذلك بالمعنى التصغيري التحقيري الذي تُكنُّهُ الثقافة العربية التقليدية للأنثى!…

 

يقود ذلك لاستذكار الصورة الشهيرة على الإنترنت، التي التصقت بذاكرتي منذ رأيتها، لِشابٍّ إيرانيٍّ وسيمٍ باهي الطلعة، مُدانٍ بالموت شنقاً، وهو يحمل حبل المشنقة بيد، ويُدير قفاهُ للعامّة الذين جاءوا لمشاهدة شنقهِ بسعادةٍ واستمتاع، محرّكاً يده الأخرى لهم بإشارة سلامِ وداعٍ مؤقتٍ رقيق، مُبتسماً ابتسامةَ شكرٍ ملائكية مخلصة، كما لو جاءوا للانحناء عند قدميه!…

 

ينقلني هذا المشهد مباشرة إلى كتابٍ كبير، فريدٍ ومثيرٍ جدا: «سبعة أجيال من قاطعي الرقاب»، نشره في عام ١٨٦٢ هنري كليمان سانسون، آخر سلالةٍ من سبعة سيّافين، قَطعَتْ رقاب آلاف ممن حَكمتْ عليهم محكمة باريس بالإعدام، منهم: الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت، قادة الثورة الفرنسية: دانتون، روبيسبيير ورفاقهم… وأسماء أخرى متنوعة كثيرة: «مجرمون ستتقيؤهم جهنم»، أبرياء، عشّاق متهمون بجرائم غرامية…

 

رهبة الموت أقوى من صمود الغالبية الساحقة من المدانين الذين سحقهم قاطعوا الرقاب، كما يسردها ذلك الجلّاد الأديب وهو يرسم بإيقاعٍ مدهش تفاصيل ساعاتهم الأخيرة أمام جحافل من كانوا يحضرون حفلات الموت بتلذّذ.

تنوّعُ حالات مواجهة تلك الرهبة تختلف من إنسانٍ لآخر، وتجعل قراءة الألف حالةٍ وحالة التي يسردها الكتاب استثنائيةَ الإثارة والدهشة.

أسردُ هنا حالتين نادرتين كان الحدادُ الذاتي ومواجهةُ الموت فيهما فريداً شديد الأناقة:

مدام انجيليك تيكيت في الثانية والأربعين من العمر، «مخلوقةٌ ساحرة»، كما قال شارل سانسون. «كانت أجمل وأروع وأذكى نساء باريس حينها، كما يقال. أُتهِمَتْ بقتل زوجها بعد تدهور علاقتهما، وسقوطها في عشق آخر».

يحكي سانسون دقائق عبورها ساحة الإعدام بمعطفها الوثير الأبيض، بقوامٍ بديع وخطوات ملوكية. تشكر القسيس بصوتٍ ساحر ولغة متعالية حصيفة على «مواساته وسلوانه بكلماتٍ طيّبة ستحملها معها للرب». يصف السيّاف «لمساتها الأخيرة لِشعرها الراقص على كتفيها، وكأنها ستقابل عاشقها بعد لحظات». تسأل السفّاح قرب خشبة بتر الرأس، بلغةٍ ارستقراطية: «أيمكنكم، أيها السيّد الطيب، أن تشرحوا لي في أي وضعٍ تحبون أن أكون!»…

أمام هيام شارل سانسون وهو يرى هذه المخلوقة الساحرة تواجه الموت بهذه النعومة، تضع انجيليك رأسها لوحدها على خشبة البتر! «هل هيأتي مناسبةٌ هكذا أيها السيّد؟»، تضيف… «ها هي تواصل إثراء حياتها الأنيقة حتى آخر لحظة»، كما يقول الجلّاد الحصيف…

 

أما أروع قصص ذلك الكتاب فهي في رأيي حالةُ مدانٍ مارس حدادَه الذاتي بروعةٍ خالدةٍ استثنائيةٍ لم أتوقّف عن الانحناء أمام جلالها:

ظلَّ ذلك المدان يقرأُ الكتب في السجن بحماسة هائجة، دون توقّف، طوال الأيام التي سبقت لحظة إعدامه…

ثمّ، بصَلفٍ ارستقراطيٍّ نبيل وتعالٍ لا حدّ لرهافته، توقّف عن القراءة قبل الإعدام بدقائق، أثْنَى زاويةَ رأس صفحة الكتاب الذي كان يقرأه (وكأنه سيواصل قراءته بعد قليل!)، قبل أن يضطجع أسفل المقصلة…

يا لسحر وعظمة حركة إثنائهِ لزاويةِ رأس تلك الصفحة! أعادت لي أصداء نبرات رِينا وهي تقول عشيّة رحيلها: “إلى اللقاء، حبيب!”.

 

تعرَّفنا، زوجتي وأنا، على رِينا (التركيةِ الفرنسية، اللانهائيةِ الطيبة والجمال) وزوجِها وطفليهما عند باب الروضة التي كنا نبحث فيها عن طفلينا. ارتبطنا بهم بعلاقة حميمية. كنّا نقضي جميعاً في بيت أحدنا، في معظم أيام أواخر التسعينات عقب مغادرة الأطفال مدارسهم مباشرة، ساعتين معاً نعتبرها جميعاً من أمتع وأحلى ساعات الحياة.

 

داهم رِينا، وهي في ريعان شبابِها آنذاك سرطانٌ في الثدي. لم تفقد ساعتا لقاءاتنا في نهاية العصر حميميّتها وروعتها، وذلك رغم استفحالِ المرض خلال سنواتٍ أربع، وتطورهِ التراجيدي في العام الأخير (الذي قالت رِينا لنا فيه إنها لو فقدت النظر فستتوقف عن تناول الأدوية، لِتغادر الحياة!).

كان حدادُها الذاتي وتهيئتُها لعائلتها وأصدقائها لموعد موتها، بشجاعة وأناقة استثنائيين، ملحمةً أدهشتني على الدوام. فرغم انحسارها الجسدي في الفترة الأخيرة، لم تفقد تألُّقها وعشقها للحياة ورغبتها في توهيج السعادة اليومية في حياة من يعاشرها…

ثمّ فقدتْ نظرَها كليّةً ذات يوم. كان لقاء الساعتين لعائلتينا فيه لا يختلف تقريباً عن سابقيه، رغم رجفةِ أحشائي التي كانت تُدمي قلقاً صامتاً حينها، لن أنساهُ مدى الحياة.

 

“إلى اللقاء، حبيب!”، قالت رِينا ونحن نغادر شقّتهم العائلية. أتصل بي زوجُها قبيل الفجر ليشعرني بخبر رحيلها…

يطنُّ في أذنَيَّ رنينُ تلك الكلمات الثلاث منذ ذلك اليوم، بنبرات صوتها الإستثنائي الرقّة والحلاوة.

“إلى اللقاء، حبيب!”، وداعٌ سقراطيٌّ رفيع!

 

كيف يبدأ كلُّ هؤلاء الموتى، الذين أجادوا نعي الذات، الدقائقَ الأولى التي تلي الموت، إن كانت ثمّة دقائق أولى تلي الموت؟

 

لعلّهم يستقبلونها كما استقبلها ساردُ قصتي القصيرة ـ الطويلة: “همساتٌ حرّى من مملكة الموتى” وهو يفتتحها قائلاً:

((“ساييه!”، كما يقولُ بفرنسيّةٍ طليقة جاري الذي عاش طويلا في جبوتي. “خلاص!”، كما تقولُ كلمة عربية أعشقها بامتياز. نعم، خلاص، مُتّ الآن! مُتّ حقا! مُتّ ولله الحمد! بلغتُ أجلي. تحقّقَ الحلم الذي انتظرته منذ أكثر من دهر. ها أنا الآن روحٌ أثيريّة تنسلخُ من جسدِها، تغادرُ الارض مثل شعاع ضوء، مثل نظرة وداع.

ياللروعة! هاأنذا أرفرف. أجنحةٌ تنبثقُ من جوانب روحي، تنبتُ وتمتدّ فوق ضلوعي. كلّ أوصالي تتماوج في الفضاء بحبور ودهشة. أحلّق بحرية بعيدا عن عالمكم الطيني، بعيدا عن كلّ أجرام السماء، بعيدا عن المادة والزمن… أكاد لا أصدّق: لم أعد أعيش “على قيد الحياةِ” كتلةً جسدية هشّة تتلذذ بِقرْعِها مطارقُ حياتكم القاسية. (أتذكر الآن كم كنت أكره انذاك هذه العبارة المبرطمة: “على قيد الحياة”… لا يهمّ كلّ ذلك الآن. جاء الخلاص. ما أحلى الحرية! ما أمتع الحرية! ما أعظم الحرية!… أريد ان أزقزق مثل عصافير الفجر. آه! عاد الى ذهني فجأة نغمٌ تليد نهض من أنقاض أعشاش المدرسة الابتدائية:

تزقزقُ الطيور            فرحانةً بالنور

تقولُ في سرور          ما أجمل الضياء!

ها أنذا أزغرد! لاتسمعني إلا أرواح الموتى التي غادرت الارض مثلي. لا تلتقط اغاريد روحي إلا آذان الأطياف الهائمة في هذا المدى الرحيب. يبدو أني أزغرد كالمجنون، أزغرد من كل جوارحي: واووووو! زغردةً سميكة المخرج، حلزونية الالتواء، مخروطية المنحنى، حادة النهاية. تبتسم جذلى أمام أصدائها المتواترة أزواج الملائكة التي تتفسح في بطاح السماء.))