عقدة “كوكب القرود”

حبيب سروري

 

حدثان دار حولهما جدلٌ صاخب، في الأيام والأسابيع الماضية:

الأول: دراسةٌ أعدها، قبيل أيام فقط، “معهد مستقبل الإنسانية” بأكسفورد، انطلاقا من استفتاءِ 350 باحثا في علوم الذكاء الاصطناعي، خلال مؤتمرين علميين. اتفقوا فيها على أن الكمبيوتر والأتمتة والروبوتات ستحلّ محل الإنسان في كل وظائف العمل، بدون استثناء، من الآن وحتى 45 عاماً.

مع تحديدٍ دقيق لموعد انقراض كل وظيفة: ستنتهي وظيفة المترجمين في عام 2024، قائدي الحافلات في 2027… دون ترك ذكر أية وظيفة بلا موعد أفولٍ نهائي.

 

الثاني: جدلٌ إعلاميٌّ قبل أسابيع صاحبَ نشر كتبٍ اتفقت على أنه ستكون هناك يوما لحظةٌ زمنية حاسمة محدّدة، ستسيطر فيها الكمبيوترات والروبوتات على العالَم، وسيصير الإنسان مجرّد عبدٍ خاضعٍ لها في كل كوكب الأرض.

 

يلزمني أن أعطي رأيا شخصيا في الحدَثين، سردتُ جزءا صغيرا منه في برنامج في تلفزيون “فرنسا 24” استضافني حول ذلك.

 

هناك فعلاً تحولات ثورية عميقة قادمة، بل طفرات رقمية حقّة، ذات علاقة بالأتمتة وانتشار الروبوتات. لكن، أمام أقوالٍ تنبؤية قاطعة كهذه، تنبغي القراءة النقدية التفنيدية الهادئة.

معروفٌ مثلا أن شركة مثل “مورنينج ستار” في كاليفورنيا تنتج اليوم 12٪ من عُلب مسحوق الطماطم في العالم، ولم يعد فيها عاملٌ أو إداريٌّ من البشر. ومعروفٌ أيضا أن شركة آبل وعدَتْ بأن يكون لها خلال أقل من عشر سنوات من الآن مصنعا لجهاز الآيباد بالروبوتات فقط، بدون عاملٍ أو كادرٍ من بني آدم.

لكن لا يعني ذلك قبول كلّ دراسة أكسفورد، التي لا تخلو من التطرف واللاموضوعية، لا سيما وأنها جاءت من مجرّد استفتاء 22٪ من أعضاء المؤتمرين العلميين، فيما تحفظ البقية عن الرد.

أذكِّر: قبل سنتين، قامت جامعة أوكسفورد، بالاشتراك مع سيتي بنك، بدراسة أكثر عمقا ومنهجية. لعلها الأكثر صوابا وهي تتنبأُ بإلغاء 50٪ فقط من الوظائف الإنسانية في الدول المتطورة، خلال العشرين عاما القادمة.

 

صحيح أن بعض الوظائف اليدوية كسائق التاكسي والحافلة، الجندي المحارب، رجل الإطفاء، عامل الدكان ومستودعات التخزين، الشرطي، لاعب البورصة، مسئول الجمارك، رجل الفضاء، وغيرها الكثير، يمكن إلغاؤها كلية (إلا إذا وجدت مقاومة شعبية تعوق ذلك).

 

وصحيحٌ أن وظائف أخرى كالطبيب والمحامي يمكنها مستقبلا أن تختفي كليا، أو جزئياً على الأقل، باستخدام الأتمتة الكمبيوترية المؤسسة على علوم الذكاء الاصطناعي.

لكني لا أتوقع، على الأقل خلال نصف القرن القادم أو ربما على الدوام، إلغاء وظائف الباحث العلمي، الفنان التشكيلي، الروائي، وربما راعي الغنم أيضاً.

 

ثمّ إلغاءُ وظيفةِ المترجِم كليّةً غير ممكنٍ في رأيي، ورأي الكثيرين من المتخصصين في علوم الترجمة الآلية، رغم التطورات العميقة المتوقعة في هذا المجال أيضا. وذلك بسبب العوائق الجوهرية التي لا يمكن تجاوزها بعد، لاسيما تعقيد ترجمة بعض الجُمل الغامضة، بسبب ارتباطها بالسياق الذي لا يمكن تحليله وكشفه إلا بعد جمل عديدة أو صفحات، أو ربما لا يمكن أحيانا.

إذ كيف يمكن ترجمة جملة مثل “صاحبُ البيت الجميل”؟

هل “الجميل” هنا صفة للبيت أم لِصاحبه؟ وهل المقصود بيتُ شِعر، أم منزل؟… ثم كيف للآلة أن تضمن ترجمةً بأسلوبٍ جماليٍّ محدد، لا سيما للروايات الأدبية، وما زلنا لم ندرك بعد الخوارزميات التي تُحدّد كيف يتشكّل الأسلوب الأدبي لهذا الأديب أو ذاك، وغير ذلك من كثيرٍ من خوارزميات الوعي واللاوعي الإنساني، وتبلور الذوق الفني والحسّ الجمالي في الكتابة؟…

 

قبل الخوض في الحدث الثاني الذي ذكرتُه في بدء المقال، والذي دار ويدور حوله جدلٌ علميٌّ ثريٌّ عميق، أودّ الإجابة على هذا السؤال:

ما الجديد الذي سمح للإنسان الاقتراب من عصر الأتمتة، وإمكانية إلغاء الوظائف الإنسانية؟

 

ثمة ثلاثة عوامل. أوّلها مقدرات الكمبيوترات وطاقتها الحاسوبية التي صار جبروتها اليوم خارقاً فعلا.

 

ثانيها بدء عصر “البيانات العملاقة” Big Data، الذي يسمح بفضل الإنترنت ربطَ وأرشفة ودراسة وتحليل واستخدام نتائج كل ما موجود على الإنترنت، وعلى كل الكمبيوترات. على سبيل المثال، كل التجارب والخبرات الإنسانية في كل المجالات: مليارات بيانات تشخيص الأمراض في أنحاء العالم، كل قرارات القضاء، كل مباريات الشطرنج والغو…

 

والثالث الهام جداً: علوم “التعلّم العميق” التابعة لعلوم الذكاء الاصطناعي، المؤسسة على برمجيات “العصبونات الاصطناعية” التي تحاكي كمبيوتريا عصبونات الدماغ البشري، وتحاول العمل مثلها تماما، لتحلّ محلّ الدماغ البشري وتعمل مثله.

بل تفوقه ذكاءً ومقدرات، بفضل امتلاكها العامِلين السابقين أيضاً، على نحوٍ يتجاوز امتلاك الإنسان لهما بما لا حدّ له.

 

بفضل هذه العوامل الثلاثة هزم الكمبيوتر الإنسان في أعقد لعبة عقلية ذات أهمية خطيرة فعلا: لعبة الغو. غير أن مجموع هذه العوامل الثلاثة تسمح للكمبيوتر والروبوتات الإبداع في مجال “الذكاء الموجّه”. أي في أي مجالٍ محدّدٍ فقط، كمعرفة مكوّنات الصور، الترجمة الآلية، لعبة الغو…

 

لكن البحث العلمي ما زال جنينيا في مجال “الذكاء غير الموجّه” الذي سيستطيع الكمبيوتر فيه لوحده أن يكتشف كلّ ما يحيط به، ويتعلم لوحده كل ما تعلّمه الإنسان طوال تاريخه. وذلك دون تدريب الإنسان للكمبيوتر على التعلّم.

إذ عندما يعلِّم الإنسانُ برمجيات “العصبونات الاصطناعية” الموجّهة ما هو الحصان مثلا، للتعرف عليه في أية صورةٍ رقمية، يُقدّم لها مئات الصور للحصان في أوضاع مختلفة. وعندما يعلمها كيف يمكن لعب الشطرنج يقدِّم لها ملايين المباريات فيه. وعندما يعلِّمها الترجمة الآلية يقدِّم لها كل النصوص المترجمة في قواعد بيانات الأمم المتحدة وترجماتها، وغيرها…

 

لِنعُد الآن إلى الحدث الثاني الذي استهلّينا به هذا المقال.

الخوفُ من سيطرة الروبوتات على كوكب الأرض، ومقدرتها على تحويل الإنسان إلى عبدٍ لها، تنبع من عقدةٍ إنسانيةٍ عريقة متأصلة، مرتبطةٍ بحيوية عقلية المؤامرة في نفسيته، هو الذي ألّف بيتي الشعر هاذين:

أعلّمهُ الرماية كلّ يومٍ

فّلما أشتدّ ساعده رماني

وكم علّمتهُ نظمَ القوافي

فلّما قال قافيةً هجاني.

وهو الذي ألّف سيناريو “كوكب القرود” الذي يتحوّل فيه الإنسان يوما خاضعاً للقرود، وسيناريو فرانكشتاين، وغيره…

 

يعكس كل ذلك الخوفَ الأزرق العميق لدى الإنسان من الوصول إلى اللحظة الفاصلة الذي يتحوّل بعدها إلى عبدٍ خاضعٍ للروبوتات والكمبيوترات التي تزداد ذكاءً باستمرار، وها هي تستيطع اليوم هزيمةَ الإنسان بسهولة في كل الألعاب العقلية كالشطرنج ولعبة الغو.

 

في تقديري، طالما أن الأبحاث في مجال الذكاء غير الموجّه ما زالت جنينية فعلا، فلا يجوز التخوّف من قدوم هذه اللحظة المفصلية قط.

سيحدث فعلاً تفاعلٌ وتعاضدٌ دائم بين الإنسان والكمبيوتر، سوف يقود إلى نقلات نوعية في مستقبلنا القادم، بمستوى ما حدث إثر ابتكار القطارات والطائرات، بالمقارنة بزمن مواصلات الحمير والجِمال مثلاً.

 

لكن العصر الذي يبرمجُ فيه الروبوتُ نفسَه كمبيوترياً، ليس بالقريب، إن لم يكن غير ممكن أبداً.

يلزم الانتباهُ مع ذلك، وعدم ترك سياسة تصنيع الروبوتات ومستقبل الذكاء الاصطناعي ومستقبل السعادة البشرية بيد قوى المال والليبرالية الجديدة. لأنها، لأجل مصالحها الأنانية، يمكن أن تقود البشرية إلى كوارث ماحقة.

فتخطيط مستقبل الإنسان يلزم أن يكون بيد المثقفين والإنسانيين من السياسيين الذين يُهمُّهم أن يقود التطور في علوم الذكاء الاصطناعي إلى “عصر أنوارٍ” رقمي، كما كان القرن الثامن عشر “عصرَ الأنوار” الذي قاد الإنسانية إلى حضارةِ حقوق الإنسان.

 

لأن عدم اليقظة أمام سياسات تخيطط مستقبل الإنسان يمكنه أن يقود فعلا إلى أم المصائب. يكفي مثلا تذكّر أن موعدَ صناعةِ “الرّحم الاصطناعي” سيكون قبيل 15 عامٍ من الآن.

ليس بعيدا أن يستقبل الطفلَ الخارج من صلب وترائب هذا الرحم روبوتٌ أموميٌّ لإرضاعهِ والانتباه عليه!

 

أتركُ لكم تخييلَ ما سيلحق ذلك، علماً بأن هذا السيناريو ممكنٌ جداً، وليس، لسوء الحظ، من باب التخييل العلمي.