عصرُ انقراض اليسار؟

حبيب سروري

جليٌّ للعين المجرّدة أن ثمة مدّاً رجعياً يكتسح العالم: تنتشر في أرجائه لغة الهويات المتقوقعة العدائية، وبلاغة الإعلان جهرا عن كراهية الآخر.

الشعبوية تجتاح الخطاب السياسي للرجعية واليمين المتطرف.

صار الانكفاء على الذات اختيار أغلبياتٍ من سكّان شعوب كثيرة (البريكسيت الإنجليزي، وشعبية ترامب وسلطات شرق أوربا، أمثلة مهمّة).

البحر الأبيض المتوسط تحوّل إلى مقبرة للّاجئين الهاربين من حروبٍ وطغاة.

العودة للدكتاتورية والظلامية تتقدّم بخطىً حثيثة هنا وهناك، كما هو حال تركيا اليوم، في عصر الديمركتاتورية (“الديمقراطية الديكتاتورية”) الإردوجانية (التي نبذت مؤخراً تدريس نظرية داروين أيضاً!).

 

تقليص دور وأهمية التمثيل الشعبي الديمقراطي، وزيادة عبادة الحاكم وهيمنته الطاغية على السلطة، وقمع معارضيه، أشكالٌ في الحكم باتت تتجذّر وتسود، كما هو حال نموذج بوتين في روسيا. مما يقود إلى الحديث عن عصر “بوتَنة” العالَم.

 

حتى الدور البونابارتي لرئيس فرنسا، في برلمانٍ فرنسي جديدٍ تخضع أغلبيته الساحقة له، والسمة “الجوبيترية” لطريقته في الحكم، يمكن تأطيرها ضمن سمة إزدياد ضعف سلطات الشعوب، وزيادة مكانة الفرد.

 

كانت هذه الظواهر الجديدة في أشكال الحكم السياسي المعاصر ضمن مواضيع “ورشات الفكر” في مهرجان أفينيون للمسرح طوال شهر يوليو 2017، والتي دُعيَ لها كبار المفكرين والمتخصصين الدوليين، لِتناقش قضايا عديدة: ممارسة الديمقراطية، وتحليل واقع اليسار دوليا، ومستقبل العمل، والإعلام…

ألخِّصُ هنا أبرز أفكارها فيما يتعلق فقط بواقع اليسار والديمقراطية اليوم.

 

ما يزيد الطين بلّة في واقعَي اليسار والديمقراطية هو أن البروليتاريا والطبقات الشعبية الكادحة (التي منحها ماركس دور الطليعة الثورية وقيادة التغيير نحو الثورة والتقدم والحرية والعدالة!) هي المنبع الرئيس للتصويت للقوى الرجعية، ولليمين المتطرف في أمريكا وهولندا وفرنسا وغيرها.

 

بجانب ذلك، هناك ضعف متأصل في مفهوم الديمقراطية الانتخابية. إذ بإمكانها أن تقود، كما حصل في ثلاثينات القرن الماضي، إلى التهلكة: وصول هتلر للحكم حينذاك.

 

يكفي ملاحظة أن وصول ممثلي اليمين المتطرف العنصري إلى الدرجة الثانية في الانتخابات الرئاسية، في هولندا وفرنسا، صار يعتبر اليوم انتصارا!

لعل ذلك وحده يشرح بجلاء عمق تراجيديا واقعِ القوى التقدمية اليوم، وضعفِها عموماً في خوض الصراع السياسي حول السلطة، ولعب دورٍ ملموس في مقاومة تحويل الديمقراطية اليوم إلى “ديمقراطيةً هوائية”، إن لم تكن “ديمقراطيةً ديكتاتورية”.

 

وعلى الصعيد النظري أيضاً، يمكن ملاحظة تفشي الرؤية اليمينية والرجعية دوليا، وسيادة أطروحاتها في توجيه الرأي العام.

فمفهوم “الثورة” نفسه، الذي ارتبط دوما بتحرير الإنسان وانعتاقه وانتزاعه حريّات ومكتسبات جديدة، يتمّ “تأميمه” من قوى لا ثورية (“ثورات” عنوان كتاب ماكرون، رئيس فرنسا!)، وإعطائه مدلولات مغايرة، في معمعان الصراع السياسي والروحي الذي يمثل الصراع على مدلول الكلمات أحد أدهى أشكاله.

 

الأسوأ: حتى المكتسبات التقدمية التي حقّقها اليسار، مثل “العمل ل 35 ساعة أسبوعيا”، كما هو الحال في فرنسا (مواصلا بذلك سلسلة مكتسبات اجتماعية ونقابية قديمة، منذ أن كان الإنسان يعمل بدون إجازات، طوال اليوم وبعض المساء أيضا) صار يُطعن به تجريميّا من قوى اليمين، باعتباره كابحاً ل “التنافس”!

وكذلك حال ضمان الوظيفة الثابتة للموظف: صار يطعن به علناً، بحجة أن “الحياة زائلة، الحب زائل، ولماذا لا تكون الوظيفة زائلة كذلك؟”.

بل كل المكتسبات التقدمية التي طوّرت حياة الإنسان، يتم محاربتها وإضعافها وإسقاطها من قبل اليمين الرجعي وقوى المال، الواحدة بعد الأخرى.

 

وبشكل عام، فإن ازدهار الأطروحات الاستسلامية، المعادية لليسار وللأمل والحلم والطوباوية، هي الأكثر تأثيرا اليوم.

بل لعلها حلّت موقع أطروحات من كانوا يرددون حتمية سير “عجلة التاريخ” في طريق التقدم وانتصار الاشتراكية الثورية، كما رسمته أيديولوجياتهم.

 

بعد رسم هذه اللوحة الداكنة، يلزم أن لا ننسى أن الاكتفاء بسرد بلاغة الخيبات يمهد الطريق للرجعية والثورات المضادة.

ويُفترض لذلك الإجابة على هاذين السؤالين:

ما مسؤلية قوى التقدم واليسار في الوصول إلى هذه الحالة؟ ما العمل؟…

 

حول السؤال الأول: لعلّ اليسار قد ارتكب دوليا أخطاء جوهرية أربعة، وهو يغيب في جبهات رئيسة أربع.

أوّل هذه الجبهات: تركُه اليمينَ يرسم لوحده قواعد نَحْوِ اقتصاد العالم، ويفرض حركة تنقّل رؤوس الأموال بحريّة، دون مقاومة أو بديل.

فمثلا مصطلح “مؤشر الإنتاج القومي” لا يأخذ بعين الاعتبار خرائب النمو الاقتصادي على البيئة. يشبه حسابُهُ حسابَ مردود التجارة من مجموع دخل الواردات فقط، دون حساب مجموع الصرفيات والخسائر!

كذلك، كل المؤشرات الاقتصادية المستخدمة دوليا، يلزم إعادة صنعها من وجهة نظر مصالح الإنسان والطبيعة والسعادة البشرية، وليس كما تفرضه قوى المال ومفاهيم اليمين الأنانية.

 

وبجانب ذلك، لم يقاوم اليسار، فكرا وعملا، حريات حركة رؤوس الأموال من أجل رفع ربح القوى المالية على نحو خيالي، لاسيما عندما يؤدي ذلك إلى البحث عن أيادي عمل رخيصة في أطراف العالم، وفي ظروف عمل لا إنسانية ظالمة، وعلى حساب اليد العاملة المحلية وتقليص الانتاج الوطني…

 

ثانيها: غاب اليسار بشكل ملحوظ في جبهة إنسانية أثيرة: استقبال اللاجئين وضحايا الحروب والطغاة.

من المدهش أن اليمينية الألمانية ميركل هي من اتخذت قرارات تاريخية لاستقبال أكثر من مليون لاجئ سوري!

ما قيمة اليسار وقوى التقدم، في الحقيقة، إن لم تكن في طليعة المجابهين لِترك المهاجرين يموتون بشكل لا إنساني في بحار وأصقاع العالم، كما هو الحال اليوم؟

غياب اليسار والقوى التقديمة عن مهماتها الإنسانية الأممية، على نحو لافتٍ اليوم، يُفقدها هويّتَها الطبيعية، وموقعَها الإنساني الرئيس في الحياة الاجتماعية والسياسية.

 

ثالثها: ثمّة جبهة أثيرة أخرى، بل في غاية الجوهرية، كان بإمكان اليسار أن يكون طليعيّا فيها: تدهور الواقع البيئي للكرة الأرضية جراء النشاطات الصناعية وانتاج غازات الاحتباس الحراري التي أطاحت بتوازن المنظومة البيئية لكرتنا الأرضية، وتقودها اليوم إلى أم المهالك.

تأخرَ اليسارُ كثيرا في هذا المضمار. لم يضخ الرأي العام العالمي بأفكار مقاومة حيّة قِبلتُها الحفاظ على البيئة من التدمير الذي طمّها اليوم، ولم يبتكر مشاريع ومصادر اقتصادية جديدة تُطوِّرُ العالمَ على نحو يربط التنمية بالبيئةِ وبسعادةِ الإنسان، وبشكل متناغم مع حاجات الإنسانية جمعاء.

 

رابعها: اليسار غائب تماما اليوم تماما في جبهة رفض المراقبة الاستخبارية للإنسان في عالم الإنترنت والبيانات العملاقة، ومنع التفتيش السريّ عن بياناته ووثائقه ورسائله الإلكترونية، وسرقتها لتحليلها لما يخدم مصالح قوى المال والاستخبارات.

وبشكل عام، ليس لليسار صوت ملحوظ يواجه دفّة قيادة “غافا” (غوغل، آبل، فيسبوك، آمازون) لهذا العالَم الجديد، بغية تحويله إلى قرية كونية مُحافظةٍ خاضعة، مطيعةٍ لما يخدم مصالح قوى المال الكبرى وأرباحها اللانهائية.

 

ما العمل اليوم؟

لاحظت جميع منتديات ورشات الفكر في مهرجان أفينيون أن قوى اليسار لم تمت إطلاقا. هي موجودة في الجامعات ومرافق العمل، في فضاءات الجدل السياسي والمنتديات والمنظمات الاجتماعية، تواجه هنا وهناك، وبنجاح ملحوظ أحيانا، السياسات الرجعية والعنصرية.

لكنها أرخبيلٌ مشتّت، تنقصها الجسور والعمل المنظم، والواجهات القيادية المهمّة.

مستقبلها مرهون اليوم بمدى مقاومتها للمد الرجعي الحالي وسياسات اليمين الرجعي وقوى المال، انطلاقا من مكاسبها التاريخية.

 

يكفي مثلا مقارنة أزمة الديون التي تكسر كاهل الطالب الأمريكي عندما يعمل دراسته الجامعية، ليظلّ يسددها بعد ذلك مدى العمر. إذ عليه أن يدفع سنويا رسومات تزيد على المائة ألف دولار أحيانا. فيما يدفع الطالب في فرنسا، لدراسةٍ مماثلة، ما يقل على الألف دولار فقط غالبا؛ وذلك بفضل مقاومة رفع هذه الرسومات، على غرار النموذج الأمريكي.

 

ومستقبلها مرهون أيضاً بمدى حضورها في الجبهات الأربع التي غابت عنها، وتركت اليمين الدولي يفرض فيها قراءته التأسيسية للمفاهيم الاقتصادية والاجتماعية؛ ومرهون بمدى تقديم بديل فكري لذلك، وتأصيل مقاومة دائمة له.

 

مرهونٌ باختصار بابتكارها لأفكار جديدة لاختراع غدٍ إنسانيٍّ جديد، تكون مداميكه المبادئَ الإنسانية: تحرير الإنسان وحريته، سعادته وازدهار حياته.