شجرة الأنساب تحت المجهر

حبيب سروري

 

“يولد الناس أحراراً ومتساويين”، يقول “ميثاق حقوق الإنسان” الذي أقرّ في 10 ديسمبر 1948، وتلتزم به نظريا جميع الدول.

لذلك، الادعاء بأفضلية المنتمي لهذا العرق أو النسب أو الدين أو الإلحاد على غيره، ينتمي لعصر بائد مظلم، تجاوزته الحضارة الإنسانية، نظريا على الأقل.

تجاوزته نسبياً دول المواطنة المتساوية. لكن ما زالت تكتوي بناره، أكثر من أي وقتٍ مضى، دول الحروب الطائفية والدينية كدولنا التي عاد في بعضها استغلال الادعاء للانتساب لسلالة النبي أو بعض الصحابة، للهيمنة المقدّسة والقرصنة السياسية والعسكرية.

 

الموضوع خطير ومؤلم مرتين. الأولى لأن عصر الحداثة والمواطنة المتساوية يمنع أي تمييز. والثانية لأن ذلك الادعاء مؤسس على الدجل غالبا، وبدون أدنى برهان في جميع الحالات بدون استثناء.

كم يجدو لذلك نشر ثقافة البرهان العلمي، لفضح هذه الوسائل الاستغلالية الفاحشة!

 

قبيل أيام مثلاً، ألقى فقيه جليل محاضرة مدح فيها عمامته التي انتقلت بين أنسابه الكريمة، ابتداء من النبي محمد. ذكر في محاضرته اسماء أجداده اسماً اسماً، حتى الوصول إلى سيدتنا فاطمة، فالنبي.

إعجابٌ تقديسي في القاعة، بشكلٍ آلي. ومع ذلك، ليس لشعوبنا أرشيفات مدنية تنقل لنا سلسلة أنسابنا، بدءاً من الجد الرابع أو الخامس أحياناً، وبشكل موثّق ومؤكد.

ثم أن سلسلة الأسماء التي ذكرها الفقيه غير معروفة لأحدٍ في الأساس، ليتمّ تقصي تواترها في كتب التاريخ، والتحقيق في صحّتها خلال قرن أو قرنين فقط، فما بالكم بأربعة عشر؟!

لكن الأكثر إثارة للضحك: لو ضرب عدد الأسماء هذه، بعدد سنين متوسط عمر الجيل الذكوري، لما كان عدد السنين الإجمالي كافياً للوصول إلى عصر سيدتنا فاطمة، ولَضاع هكذا من عمر الإسلام بضعة قرون!

 

ما أحوجنا إلى غرس عقلية العلم والأنوار، ونشر “ثقافة الدنا” التي تبرهن وحدها صحّة شجرة الأنساب وتكشف الحقائق والخيانات! كلّ ما عداها إدعاءات يمكن، لأي قرصان أو لص كان، تسريبها والترويج لها بالمال أو السلاح أو الموقع القبلي، قبل أن ترددها الأجيال بإيمانٍ بليد مطلق!

 

فالثورة الجينية تسمح اليوم بقراءة كل دنا الإنسان. أي سرّ حياته الذي لا يحتوي فقط على شفرات جيناته المسئولة عن كل ملامحه البيولوجية وأمراضه، ولكن على كل ميراثه البيولوجي، وتاريخه الخاص وتاريخ أقاربه. (مشروع قراءة الجينوم الإنساني دام عقداً ونصف، كلّف 3 مليار دولار، وأنجزه ألفا باحث).

 

فالدنا كتاب هائل عرّى العلم والكمبيوتر أسرارَه، يختفي في نواة خلايانا الحية أكانت لُعابية أو منويّة أو لحميّة. بعض صفحات هذا الكتاب لها أهمية خاصة: “الكروموسوم Y” الذي يرثه الإنسان من أبيه فقط، و”دنا الميتوكوندريا” الذي يرثه من أمّه فقط.

قراءة الأولى تكشف تاريخ الذريّة الأبوية للمرء، والثانية تاريخ ذريّته الأمويّة. كلتاهما تجليان تاريخ شجرة أنساب الإنسان، وتسلسل سلالاته الموثّقة فيهما.

 

قبل الحديث عن هذه الشجرة، يجدو الإشارة إلى أن قراءة الدنا لمختلف الكائنات الحيوانية والنباتية سمحت ببرهنة صحة “شجرة الأنواع البيولوجية” الداروينية: فبين دنا الإنسان مثلا ودنا قريبه قرد الشامبانزي، ثمة 1٪ من الاختلافات فقط، نتجت منذ انفصال النوعين قبل 5 مليون سنة بسبب ظروف بيئية مختلفة لعبت دوراً في تطوّرهما المختلفين. فيما يختلف دنا قرد الشمبانزي عن دنا قرد الجوري ب 3٪!

 

أمّا الاختلاف بين دنا الإنسان (هومو سابيانس، الذي بدأ نوعه قبل حوالي 150 ألف سنة) ودنا كائن غريب (أطلق عليه: هومو نيانديرتال) نسبة لوادي نياندير بألمانيا، حيث اكتشفت أوّل نسخة من رفاته في أغسطس 1856، فهي أقلّ بكثير من 1٪!

أثار هذا الكائن كل استغراب العلماء حينها، لأن له جمجمة تختلف عن جمجمة الإنسان، مما جعل البعض يظنون أنها جمجمة دب.

فحصُ دناه برهن مفاجأة مذهلة: هو إنسانٌ من نوعٍ مختلف عن نوعنا، انقرض من المعمورة قبل 30 ألف سنة فقط، عاش في الهلال الخصيب، أوربا، والمغرب العربي؛ وكان له تاريخ مشترك مع سلالتنا قبل أكثر من مليون عام.

 

الحياة في ظروف بيئية مختلفة يؤدي، مع تراكم الزمن، إلى تغيّرات عميقة في النوع البيولوجي. ولذلك اخترع البيولوجيون مفهوم “الساعة الجزيئية” لقياس الزمن الذي مرّ منذ تراكم عدد من التغيّرات أدّت إلى انفصال هذا النوع البيولوجي عن ذاك، أو هذا الشعب عن ذاك.

 

لاستيعابها بسهولة، مثالٌ بسيط: لنفرض أنك وصلتَ مع زوجتك من أفريقيا إلى جزيرة نائية بدون سكان.

بعد زمن من توالد أحفادكما فيها، بكل طفرات دنواتهم الممكنة، سيولد شعب مجموع تنوّع دنا أفراده ضئيل عموماً، لأن شعب جزيرتك انطلق حديثا، من تراثك وتراث زوجتك الجينيين فقط. وتشابه جينات الشعب في مجمله أكبر بكثير من تشابه جينات عدد مساوٍ متنوع من أهل أفريقيا.

 

مقارنة درجة هذه التشابهات بين المجاميع البشرية تسمح بحساب هذه الساعة الجزيئية التي برهنت بأن مهد البشرية: أفريقيا؛ بالإضافة إلى برهان ذلك بتحديد تاريخ الحفريات بواسطة الكربون 14.

وبفضل المنهجين في البرهنة، تم تحديد دقيق لسنوات هجرة بعض سكان أفريقيا نحو أرجاء المعمورة ليملأوا العالم.

 

يمكن اليوم فحص دنا الإنسان بأقل من 200 دولار لمعرفة تاريخه الجيني، وتاريخ سلالته وهجراتها، وكل انتماءاته الإثنية!

كل من قام بهذا الفحص فوجئ باكتشاف بديهية: تاريخ البشرية رحيل وتنقّل وغزو واستعمار وهروب. يصعب أن تفحص دناك دون أن ترى هذا المزج البشري في تاريخك الوراثي، الذي بفضله يتشابه دنا البشر بنسبة 99.9٪.

ومفاجآت من فحصوا دناهم صارخة غالباً، لاسيما العنصريين وهم يكتشفون أن لهم أجداداً من العرق أو اللون الذين يكهرهونه!

 

ثم تزداد المفاجآت عند فحص الدنا بغية تحديد شجرة الأنساب لهذا أو ذاك، لبرهنة أنه سليل ملك عاش قبل بضعة قرون، فما بالكم بنبي أو صحابيٍّ عاش قبل ذلك بأكثر من ألف عام؟!

 

إحدى أشهر المفاجآت رجّت بريطانيا في 2012. كان سببها اكتشاف رفات الملك الانجليزي الشهير الذي خلّدة شكسبير: ريتشارد الثالث (1435ـ1485) أسفل ورشة بناء موقف سيارات، قرب مدينة ليسيستر.

قُتل الملك في معركة، ودفن خلالها هناك، وضاعت آثار لَحدِه مع الزمن.

 

حسب مقال علمي نشر في مجلة “نيتشر” العلمية المتميزة، فحص الدنا أكّد كل ما يُعرف عن الملك: كونه أحدب، لون شعره، بما في ذلك نظامه الغذائي…

ثم قورن دناه الموروث من الأم بدنا ابن خالته، ميخائيل إبسن، الذي ولد في كندا، ليؤكد هويّة الملك بدون أدنى شك.

غير أن فحص الدنا الموروث من الأب لأحفاد العائلة المالكة الحاليين، الذين لهم مع ريتشارد الثالث (الذي لم يُنجِب) جدٌّ مشترك، فجّر الفضيحة الشهيرة مذّاك: حدثت خيانة في سلالتهم الذكورية!

ذلك يعني: إحدى الزوجات في السلالة اختارت لابنها أباً غير زوجها الشرعي!…

 

وفي فرنسا، الملك الشهير هنري الرابع (1589ـ1610) كان ضمن من أُخرِج رفاته من قبره، بعد الثورة الفرنسية، ورمي في حفرة.

في 1925، تم الإعلان عن اكتشاف مومياء رأسٍ اشتهر بأنه رأس هنري الرابع.

تلاه شك من بعض العلماء عن مدى صحة ذلك. لم يحسم الجدل إلا قبيل سنوات، بعد فحص دناه، ومقارنته بدنا أحفاده وذويه: ليست جمجمة هنري الرابع!

 

هكذا، فحص الدنا يعرّي كل الحقائق: يبدو مثلاً أن اليهود الأشكيناز والييديش، الذين طالما أدعوا أن أصولهم آتية من اليهود الذين فروا من فلسطين بعد تهديم الهيكل، ينتسبون لأصول إيرانية قوقازية لا علاقة لها بفلسطين، اعتنقت اليهودية لاحقا…

 

لكل ذلك، عندما يتحدث أحدهم أمامك، عزيزي القارئ، عن نسَبهِ الهاشمي أو الجنكيزخاني، أو يقول إن جدّه معاوية أو سلمان الفارسي، مسيلمة الكذاب أو جعفر الصادق، دون إحضار شهادة الدنا التي تبرهن ذلك، فليكن ردّك الساخر: “وأنا جدّتي ملكة بريطانيا!”، قبل أن تقرأ له الجملة الأولى من ميثاق حقوق الإنسان.