رواية “حـفيــد ســندباد”: مرثية الأحلام المنكسرة
برهان شاوي

قبل فترة أرسل لي صديقي الروائي حبيب عبد الرب سروري مشكوراً نسخة من روايته الأخيرة “حفيد سندباد” التي صدرت عن دار الساقي العام 2016..وقد كانت ضمن الكتب الورقية التي أخذتها معي في رحلتي إلى الجزر اليونانية..وفعلاً ما أن بدأت القراءة حتى أخذتني الرواية إلى أغوارها ، وتنقلت بي بين شخصياتها وجغرافيتها الواسعة والغريبة..مثلما أثارتني بهذا الكم المعرفي في مجالات الرياضيات وعلوم الحاسوب وانثربولوجيا الشعوب..عطفاً على الغور في أعماق النفس والحفر في الذاكرة..!..ولا غرابة فالروائي حبيب عبد الرب هو بروفيسور في علوم الحاسوب ويعمل أستاذاً ومحاضراً جامعياً في فرنسا وفي جامعات أخرى خارجها.

الحكاية تبدأ في 30 يوليو 2027..أي بعد أكثر من عقد في رحم الزمن المجهول..ونسمعها من خلال الأستاذ الجامعي (علوان الجاوي) الذي ينتظر إحالته على التقاعد، حينما يعثر على جهاز كمبيوتر “ماكنتوش” مرميا في الزبالة…و” الزبالات ملك الشعب أيها الرفيق العزيز. لم ندخل بعد عصر خصخصة الزبالات “..هكذا يقول له صاحب المقهى. ويأخذ صاحبنا (علوان الجاوي) الحاسوب إلى بيته..ولأنه أستاذ جامعي في علوم الرياضيات والحاسوب..(وهي أقرب لسيرة الكاتب الرائي حبيب عبدالرب) فانه يتمكن من الوصول إلى ملفات الحاسوب ليكتشف أنه يعود لصديقه في مرحلة الماجستير المغربي الغامض (نادر الغريب)..! وهنا يبدأ التداخل في الحكايات..فنحن نقرأ من خلال ما يرويه لنا الأستاذ الجامعي عن نفسه..وأيضا نتوغل في ملفات صديقه الغامض.

ما يمكن الإشارة إليه أن هذه الرواية يمكن أن تُصنّف أيضا ضمن الروايات العلمية..فهي تستشرف المستقبل التقني للبشرية لما بعد عقد من الزمان..فالراوي يعيش وحيداً مع روبوت مؤنسن اسمه( بهلول)..اشتراه في خريف 2015 (إثر نصيحة من طبيب أخصائي عالجني بعد هروبي من حرب عدن في نهاية 2010 إلى باريس)..وهنا نعرف أن (علوان الجاوي) من عدن..وهو من الجيل الذي شهد قيام أول دولة اشتراكية عربية وكذلك موتها الفاجع..!.

وطبعا وهنا المفارقة فأن الرواية تعرج على الحرب اليمنية الحالية والصراع مع الحوثيين يمنيا وعربيا ..لكنها مع الأسف لا تخبرنا كيف انتهت..؟؟لاسيما وأن الرواية تعيش حاضرها في العام 2027..أي أن اراوي يعرف كيف انتهت..!

وتتداخل الحكايات..وتتداخل المصائر..شخصيات حاضرة في حياة (علوان الجاوي) وشخصيات حاضرة في ملفات الحاسوب من خلال سيرة (نادر الغريب)..تلك الشخصية الغامضة التي في بعض جوانبها هي من مرايا السارد الأول..

تتقاطع مع هاتين الشخصيتين  حواءات كثيرات..وقصص حب غامضة.. فريال العدنية التي تهاجر مع عائلتها إلى صنعاء بعد الاجراءات الاشتراكية في جنوب اليمن.. إيزابيل زوجة علوان الجاوي التي تعيش شغفا مرضيا بالهجرة من فرنسا والعيش في عدن وحينما ترفض سفارة اليمن منحها الفيزة تترك زوجها وتختفي..ومايا كازاكوفا التي توهم الأستاذ العاشق(علوان الجاوي) بالحب..لكن يتضح انها زوجة سرية لصديقه (نادر الغريب)..وهناك أيضاً رفض قاس للإبوة من قبل والد (نادر الغريب) ..ورفض الاعتراف بالأبوة أيضا من قبل الأستاذ الروسي – الفرنسي (ديمتري بابكين) لابنته الأستاذة (مايا كازاكوفا)..

في بضعة صفحات يلخص لنا الروائي حبيب عبد الرب تجربة سياسية مهمة كانت قد ألهمت أجيالاً من الشباب اليمني والعربي..ليصل بنا إلى بشاعة الواقع ..فتجربة بناء الاشتراكية في اليمن الجنوبي تحولت إلى صراع دموي مسلح ماركسي عشائري ( كانت مباراة قدم مسلّحة بين عيال شوارع، بين “فريق الراقصة سامية جمال” و” فريق الراقصة تحيّة كاريوكا”، حسب تعبير أستعيره ممن أرّخو وكتبوا عن هذه الحرب الناعمة الرقيقة)..ليصل إلى الحرب الحالية..وليختم هذا التاريخ الدموي  ( خلطة قذرة، أنا وسطها. مستنقعٌ نتنٌ، إلهي، عميقٌ جداً، عمقه 14 قرناً من الصراعات الدينية والطائفية المتأججة).

(حفيد سندباد) لقب أطلقه (علوان الجاوي) على صديقه المغربي الغامض (نادر الغريب)..لكن هذا اللقب يعنون الرواية  المعرفية المثيرة..ويمكن القول بكلمة موجزة عن هذه الرواية بأنها نص سردي  معرفي  درامي مثير يتوهج بقلق فكري يمزج التأريخ بالسياسة والأنثربولوجيا الثقافية بالرياضيات..ويقدم قراءة عميقة لمستقبل البشر على ظهر هذا الكوكب المجنون…

(حفيد سندباد) رواية متميزة سواء في تجربة الروائي حبيب عبد الرب سروري نفسه أو في تجربة الرواية اليمنية والعربية..

رواية ” حفيد سندباد ” رحلة في جغرافيا غيبة على السرد الروائي العربي..رحلات إلى مجاهل فيتنام  وكمبوديا من خلال ملفات (نادر الغريب) صانع السعادات الصغيرة..

“حفيد سندباد” رواية معرفية علمية ونفسية بإمتياز.. قدمت اليمن بطريقة مختلفة..وتقود القارئ إلى جيبوتي وسقطرة…وأ\تلقي به في شتاء موسكو..وتذكر بشكل بعيد، وفي جانب منها، بستانلي كوبرك عندما طرح في فيلمه ” أوديسا الفضاء” مسألة شائكة..: ماذا لو أخذت الآلات تشعر..!!..ففي هذه الرواية  قدم الروائي حبيب عبد الرب روبوتا مؤنسناً  اسمه (بهلول) كشخصية  روائية متميزة..تدفع القارئ للتعاطف معها…

شكراً لصديقي حبيب عبدالرب لأنه منحني متعة جمالية وأنا أتنقل معه بين البلدان والثقافات والتأريخ الجريح وأعماق النفس البشرية..

ف(حفيد سندباد) رواية ومرثية لأحلام جيل انكسرت بشكل جارح..