رحلَةُ العُمر

حبيب عبدالرب سروري

كلّا لم تبقَ بعد دقائق أو ثوانٍ. لقد إمّحى الزمن، فسادت الأبدية، أبدية من لُذاذات.

بودلير

———

كان قبرا جماعيا ذلك الجهاز الذي مخر عباب الفضاء من صنعاء إلى القاهرة. إنقسم ركابه إلى طائفتين: المرضى المغادرون للعلاج ومرافقوهم. كان المرضى خيرَ ممثلين لمدينةٍ «عاشقاها السلُّ والجربُ». والملاريا. والكوليرا. والشلل والطاعون. وكثيرٌ من أمراض العصور البائدة. كانوا خير نخبةٍ نموذجية من مستضعفين استفحل بهم الداء، إن لم يكونوا، رحمهم الله مقدما ووهبهم فسيح رضوانه، على بعد سويعات صغيرة من مثواهم الاخير.

على يساري في المقعد المجاور، مريضٌ نخره السرطان. هيكلٌ لا يفصل عظامه عن جلده فاصل. أظن انه سيسلم روحه لِباريها قبل الابتعاد كثيرا عن الربع الخالي أو بعد هبوط الطائرة بقليل. على يميني في الجانب الآخر من رواق الطائرة، أبوان يحيطان بإبنتهما الشابة المسكونة بأمراض جاثمةٍ عويصة. تنتابها بين الحين والآخر اضطرابات عصبية حادة تضمر خلالها أعين والديها ويعصر وجههما ألم جاف. تصرخ حينها بأنات يرتجّ لها هيكل الطائرة فيما يتوتر وجهها وساعداها وترتعش أطرافها مثل راقصات الاوبرا التراچيدية.

نحيبٌ مسموعٌ وغير مسموع ينبعث من كلّ مقاعد الطائرة.

كنت أنا، سالم عبدالجبار عبدالقوي، من طائفة المرضى لاالمرافقين. مريضٌ بلا مرافق. من عشيرة المنكوبين بأمراض القلب بالتحديد. يبدو أن قلبي يشرف بين لحظة وأخرى على السكوت. «سيفركُ» عمّا قريب، سوف «يقندلُ» لا محالة، أردّد دوما. تعطّلتْ معظم شرايينه عن الضخ، وغدا بعد أن رخت عضلاته وانقبضت صمّاماته لا يستحق حتّى البيع في سوق «الحراج».

كنت سعيدا بما فيه الكفاية بعد إقلاع الطائرة من مطار صنعاء، رغم أني كنت أعيش لحظات سماوية تشبه الدقائق الاولى من يوم الحشر. ربما سر ذلك أنني بدأت أشعر بخلوةٍ رهيفةٍ رقراقة وسط مناظر تنثالُ سريعا أمامي: مدينةٌ تتوسّد الأعالي أودعها بقبلات أعين والهٍ يعشق جمالها حتى الثمالة، جبالٌ شامخة نُحتت لتصير سلالم حقولٍ عملاقة ينتعش دماغي أمام تناسقها المبدع وانسيابها السريع، زبدٌ من سحبٍ بيضاء كأنها حمّامٌ كَونيٌ أنغمرُ في رغوته اللامتناهيةثمّ بدأ البحر الأحمر يلوح أسفل السحب، شاسعا، ممتدا، أزرقا كزرقة عيني مضيفة الطائرة، سعاد، التي لمحتها تعبر الممر المحاذي لمقعدي، هيفاء ممشوقة، فاتنة الملامح، وإن لم تخلُ نظراتها من نوعٍ غريبٍ من الحسرات الصامتة العميقة.

ربما لم تكن الخلوة ورؤية سعاد وحدهما منبع ابتهاجي المخبول. إختراق القشرة الجوية منحني إحساسا لا يخلو من الإثارة المخدرة. تفاصيل ديكور هذه الرحلة بدت لي خليقةً بمسرحٍ تراجيدي فضائي عبقري التصميم. ثمّ أني شعرت في غمرة تأملاتي العلوية بنشوة اكتشاف نظرية لم تخطر ببالي قط من قبل، رغم أنها أكيدة نافلة إن لم تكن ذات بداهة صارخة: الطائرة هي المكان الوحيد الذي لا يعترضك فيه شحاتون وجياع في هذا الزمن الجديد الذي فاقت فيه نسبة الشحاتين والجياع عصر الإمام بكثير.

غير أن خلوتي لم تعد الملاذ الوديع كما كانته في مستهلّها: قطرات ماء بدأت تُنطّف فوق رأسي من شرخٍ مجهري يقع في رفٍّ بسقف الطائرة فوق مقعدي. سرعان ما أضحى ذلك التقطير ينكدني ويعكر صفوي. لولا أنه سمح لي بأن أحقّق حلمي الكبيربالتحدث مع المضيفة والتعبير لها عن إمتعاضي من قرع تلك القطرات الرتيبة.

ولّت سعاد نحو ذيل الطائرة لتعود حاملة ضمادا صغيرا ألصقَته فوق مركز الشرخ. لاحظتْ دون شك ارتباكي ووقوعي تحت سطوة جمالها الفتّاك. ربما أدركتْ أيضا كم كنتُ أحاول عبثا تفسير أسباب وشاح الحزن الغائر في نظراتها العميقة. كان جليّا لي أنني أمام فتاةٍ بصدرها، كما يقول الشاعر،«من الأسى كربلاءُ»… ونهدان لا يكتنف شموخهما وكبرياءهما أي وشاح. شكرتها على «تضميدها لجراح الطائرة». ابتسمتْ دون مبالغة. ثم مكثتُ أتابع انسياب جسدها الرشيق وهي تعبر رواق الطائرة ذهابا وايابا، متمنياً ان أحظى بالحديث معها ثانيةً والتمتع برؤيتها طويلا، وربما استجلاء سرّ احزانهالا أشعر بالجرأة هنا لأعترف لكم أن شيئاً ما بدأ يسري في عروقي ويتدفق نحو خلاياي العصبية. كما لو أن أوصال قلبي الرميمة بدأت ترتجف على حين غرّة، كما لو أن دفعات الحياة بدأت تتسرب إلى أنسجتها وتضطرم في شعيراتها الدموية من جديد. كما لو انني تعلّقت بسعاد على التو لئلا أقول لكم دفعة واحدة انني عشقتها بغتة من كلّ مشاعري

لحسن حظي أن قطرات الماء عادت تتسلّل من مسام الضماد الذي ما لبث أن أدلى باستقالته من سقف الطائرة. غمرني الفرح وأنا أشكو لها من جديد عودة «هطول» قطرات الماء! ألصقتْ سعاد ضمادا أكبر مساحة هذه المرة، فيما كررتُ من جديد الإبتهال لللّه والدعاء الخاشع بأن ينخلع سريعا هو الآخر لأدعو مضيفتي وأراها قريبا مني.

أطلقت المريضة الصغيرة التي على يميني صرخاتها الدورية لتخدشني مجددا وترميني في قاع مذبحة الواقع الذي هاجرتُه وأنا أسافر في أعماق عيني سعاد وقاراتها القصيّة. حزّ في قلبيأو ما تبقت فيه من خلايا حيّةالتأوهات المتسارعة لمريض السرطان الذي يجلس بجواري والذي لم أتجرأ بالحديث معه أو النظر إليه. إعتراني ألمٌ في الرأس وفي المعدة. رغبةٌ لاذعة في زيارة الحمّام. توجّهت نحو دورة المياه في ذيل الطائرة. طابور المرضى الطويل الذي يتكدّس هنالك أدارني فورا نحو مقعدي. غير أنَّ حاجتي لتلك الزيارة كانت لسؤ الحظ لا تقبل التفاوض. لم يعد أمامي غير اللجؤ لحمّام صالة الدرجة الاولى.

إعترض طريقي رجلٌ متحضّرٌ أنيق يقبع في واجهة الباب المؤدي لصالة الدرجة الأولى. كان يرتدي طقم بدلة إيطالية فاخرة، من ثلاثة قطع، رماديّة تميل إلى الزرقة، وربطة عنق حريرية كحلية فرنسية الصنع، تنساب فوق قميصٍ ورديٍّ من ماركة إنجليزية ارستقراطية. ابتسم باقتضاب وميكانيكية ابتسامة معلّبة أجلتْ، رغم سرعة كسوفها، بياض اسنانه المنتظمة. قال لي بصوت جهوري مهذّب:

نحن في دولة النظام والقانون! يمنع الذهاب العشوائي من صالة إلى صالة لا يسمح القانون بدخولها.

حاجتي ماسّةٌ عجلى يا معالي الوزير، وحمّامات الدرجة الثانية لن تفرغ قبل وقتٍ طويل، أجبتُ معوّلا على ضوءه الاخضر.

ينبغي التقيد باللوائح الدستورية واحترام المؤسسات المدنية، ردّ بنفس الابتسامة المهندمة والكياسة الصالونية.

ياسعادة القائد الكبير، أنا مريض جدا. لم يتبق من حياتي غير ساعات هوينة! لسوء قدري لم أعد امتلك القلب الكفوء على التريّث والانتظار أو الصراع من أجل مقعدٍ عاجلٍ في دورة مياه.

بلع ريقه بصوتٍ مسموع. ردّ وقد تبرعمت في نظراته إرهاصات تكشيرة رمادية قارصة:

أكرر للمرة الاخيرة: لا يسمح بأي حالٍ من الاحوال إختراق الارشادات الحضارية أو تجاوز الشرعية المؤسساتية.

إفهمْني أطال الله عمرك! قلبي معلّق داخل صدري بشعرة رهيفة. يمكنه أن يسقط في جوف معدتي خلال ثوان كما قال لي الاطباء. ربما الآن بين يديك، قبل أن تقوم من مقامك أو قبل أن تغمض عينيكصدّقْني يا سماحة الوزير: دمّي بين رجولك!

أذِنَ لي إثر وابل توسلاتٍ إضافيه من العيار الثقيل بالدخول إلى صالة الدرجة الاولى بعد أن صدّق إلى هذا الحدّ أو ذاك تاكيدي الذي لا يخلو من المبالغة بأنني على شفى شعرة من الإنطفاء. في كل الاحوال، يبدو أنه أيقن قطعا أنني لن أحيا طويلا لأثرثر معكم، كما أفعله الآن بطيبة خاطر، عن متحف العجائب الذي سأراه في الصالة الاولى من هذه الطائرة التي تترنّح في كفّ عفريت.

هرعتُ نحو دورة المياه. مشغولةً كانت وإن لم يكن قبالة بابها أحد. توقّفت أنتظر بمحاذاتها، أجول بنظري في كل أرجاء صالة هذه الطائرة التي سرعان مابدت لي موطنا حقيقيا لفيلمٍ غرائبي فريد.

خلت الصالة من المقاعد. جدرانها الاربعة صارت متكآت لأرائك سلطانية يتربع فوقها أربعون شيخ قبيلة ذوي أشكال جليلة مهيبة، يرمق كلٌّ منهم الآخر بنظرات لا تخلو من الريبة والحذر. حولهم حرسٌ مدججون بالسلاح، وخدمٌ ينظفون بقايا موائد كانت عامرة بأكتاف أثوارٍ وجواميس، تحيطها صحون«الحلبة»، و«بنت الصحن»، و«الشفوت» المتخم باللبن والعسل والسمن الجبلي، وأطباق»«صوانين» السمك العدني الراقي، ومطايب مرق الضريع البلدي الشهي المُثْمِل. خدمٌ آخرون يفرشون رُزم قاتٍ من نوعٍ ثمينٍ باهظ لا يمسّه إلا اللامطهرون، ويهيئون أرجيلات يمنية تستحق أن تنعت بتحفٍ فنية أصيلة.

دخان تبغٍ معسّلٍ عبق يتكثّف في فضاء الصالة ويتغلغل في نخاعها.

استحوذ انتباهي أحد الشيوخ الفاضلين وهو يحاول عبثا سحب الدخان من إرجيلته التي كانت شبه مسدودة. ظللتُ أراقبه لاهيا وهو يشدّ على مصّاصها، يستمدُّ جلّ أنفاسه من أسفل سافليها، وكأنه آلى إلا أن يخرج أثقالهادون جدوى. ينفثُ زوبعةً من سراب، ثمّ يعاود مجددا جذب أنفاسه بعمق بين استراحتين من الشتائم التي يكيلها لِ«مُعمِّر» أرجيلته، أي مُوقِدِها، رغم جودة حجرها وكركرة مائها وتوهّج جمرها وطراوة تبغها البحريني الفاخر.

يبدو أن عزيمة سُموِّه لا تثبطها العراقيل. إستلّ من مشدّة قاته الملتصقة بخاصرته عشبا طويلا ليّنا قطف أصغر وأندى أوراقه، ثمّ غرسها في مدخل خدّه الأيمن. تنحنح. جحظت عيناه، زفر كلّ ما في شعيبات رئتيه الهائلتين حتّى تلامست أسناخها الهوائية، حشر مصاص الأرجيلة في فمه الذي ماطفق خدّه الأيمن يتكوّر دون توقفثم شفط بنفَسٍ طويل جامح وكأنه مسكون بعنفوان ثورٍ نصف مطعون.

فجأة بدأ يسعل ويبصق في كل الاتجاهات وكأنه اجتذب من أمعاء الإرجيلة شيئا التصق في بوابة قصبته الهوائية.

معصم باب الحمّام المغلق بدأ يستدير أخيرا. قبل أن ألِجَهُ مسعورا، شعرت بلكزة مؤلمة من يدين تدفعاني دفعة قوية. تعثّرتُ كما لو نطحني قرن ثورٍ مجنون أو شيخٍ هائج. وجدت نفسي مرميا قرب باب قائد الطائرة.

دخل جلالته المرحاض. حشر أصبعه في جوف فمه أمام المرآة لينزع من بلعومه ذلك الجسم الطفيلي الذي سدّ مسار الدخان. عاود أوبرا البصق والسعال ولعن معمِّر النارجيلة، قبل أن يطرش صرصورا صغيرا يبدو أنه تسلل خطأ من الفوهة السفلى التي تُغرس فيها نهاية مصّاص الأرجيلة بعد استبدال مائها قبل أن ينحشر في خرطوم الفوهة، ويتحجّر ثمّة في مضيق الخرطوم.

كان باب قائد الطائرة نصف مفتوح عندما رمتني لكزة جلالة الشيخ عند مشارفه. أردتُ حينها أن استغلّ فرصة تواجدي ثمّة لأرشق عن قرب فيلق الساعات والاجهزة الإلكترونية التي لم أشاهدها قبلُ وهي ترتصّ أمام مقعدَي الطيار ومساعده، إلا في أفلام التلفزيون.

لم تكن غرفةُ القيادة ديوانَ الحكمة أو قُدسَ الوقار الذي كنتُ أتوقّعه. لم يكن منظرها هو الآخر مثيرا للسكينة والاطمئنان. صخبٌ وصراخ. هرجٌ ومرج. عددٌ من حرس أحد المشائخ يرقصون رافعين جنابيهم في وسط الغرفة. الطيار ومساعده يدخلان في حديثٍ مضطرب وشتم وعراكنهضتُ، شهّدتُ وكبّرتُ وقد أيقنتُ أن ثمن السكتة القلبية في هذه الطائرة لا يكلّف أكثر من ربع ريال.

خلتْ دورة المياه أخيرا. هرعتُ نحوها مبعدا نظري عن حوضٍ تتوسطه قشدة لزجة من بصاقٍ معجونٍ بالقات تعثّر في لجّه صرصورٌ فقدَ بعض أطرافه بين رقائق الكتلة الرخوة التي يلوكها سمو الشيخ، إلا أنه ما زال حيّا يتململ.

حينها كادت رغبتي في ولوج الحمّام تُقمع كليّة لولا حاجتي البيولوچية لتقيؤ أشياء كثيرة. أولها منظر ذلك الأستاذ الأنيق الذي يقف في بوابة الصالة الاولى. تذكّرت أنه قضّى حياته واجهةً مدنيّة لِنظامٍ سياسي قَبَلِي تناطحت قياداته الأمِّية وتآكلت في حروب قبلية مروعة وهو يغنّي للملأ: «إننا نبني سلطة العمّال والفلاحين المؤسسة على مبادئ الاممية البروليتارية». هاهو اليوم نفسه يرتّل: «إننا نبني سلطة حضارية عمادها القانون والمؤسسات المدنية» قبل أن يكيل شتمه بسخاء ودون خجل لما صار يسمّيه بازدراء: «عصر الشمولية»… يابوي أنا يابوي. يابوي!

إرتميتُ أخيرا فوق مقعد ذلك الملاذ المنتظر الذي قصفتني في طريق بلوغه مواعظ معالي الوزير ولكمات جلالة الشيخ. شعرتُ حقا براحة عظيمة بعد هذه المسيرة النضالية التي أفضت بي إلى هذا الفردوس الذي لم أحظ بهِ دون استحقاق أو جدارة.

«إنها ليست طائرة، إنها ورشة فجائع» عبارةٌ قصّت شريط تأملاتي الهادئة فوق أريكة المرحاض. أو بالأحرى، تجلياتي النورانية. أنا الذي ما تفجّرت بنات أفكاري قط (إذا ما جاز لي أن أسميها بنات أفكار) إلا في صومعات المراحيض.

عبارةٌ أخرى سمعتها ذات يوم من ثغر مدرّس اللغة الانجليزية في المدرسة الثانوية، ثمّ انمحت من بالي منذ أمد قبل أن تنتفض بغتة كماردٍ استلب كلّ عقلي وتفكيري:

Waiting for death is passivity. Commiting suiside is action!

شظايا عباراتٍ أخرى انبلجت من عتمة الذاكرة بلغةٍ لم تتكوّن كلماتها بعد. لغةٍ جنينية تترنّحُ في أزقّتها شفراتٌ هلاميّة، رموزٌ عميقة، نبرات معقّدة. تتداخلُ في معانيها أحلامُ طفولة، ذكرياتُ حياةٍ استعمرتها الانكسارات، فحيحُ خوفٍ أزرق، هلعٌ من مستقبلٍ نغلت في مخّ عظامه الجراثيم

باغتتني أسئلةٌ هبّت من كل حدبٍ وصوب لِتلعلعَ بعنفٍ في مركز جمجمتي:

لماذا تُهدرُ طاقاتنا، لماذا نحترقُ عبثا في رمضاء الصحراء؟

ماذا يمكِنُ أن تُهديه الزوابع لقلبٍ ضعيفٍ ذابل؟

لماذا قُدِّر لنا أن نحيا جرذانا منسوخة في حديقة حيوانات هذا الكوكب الفسيح؟

ما هي أصغر مسافةٍ لاضرامِ عشقٍ مجنونٍ في فؤاد المعشوقة؟

لماذا تعود العصافير لأعشاشها قبل الموت؟

كم يجب أن نطوف حول كعبة الاضحيات والألم لننال تذكرة الدخول لفردوس الحرية؟

ما هي أدسم القرابين التي تبتهج لها آلهة الحرية؟

………

عُدتُ من شرودي. أخرستُ مواييل أسئلتي. أغلقتُ محراب تأملاتي. إجتاحتني رغبةٌ عارمة في أن أغتسل، في أن أعوم بهدؤ في بحرٍ دافئ، في أن أدعو سعاد لتناول عشاءٍ رومانسيٍّ على شرفةٍ تغمرها أضواء القمر، في علياء مطعمٍ بحريٍّ فاخر. إستباحني هاجس العوم في غمرة الماء، في لجّ البحار البعيدة. العَومُ أو الجنون: خياران لا ثالث لهما. هاأنا أسقط في تيه الجنون. كلّا. هاأنا أُخلَق من جديد. أودّ أن أعوم، أن أحيا مرّةً أخرى. أريد أن أعيش دهرا من العشق والقُبَل

«كي تحيا من جديد، يلزم أن تموت أولا»: نظرية أخرى، نافلة أكيدة، ذات بداهة صارخة، لا أتذكّر أين قرأتها من قبل، في مجلّد شروحات كتابٍ سماويٍّ مقدّس، أو في كتاب حكيمٍ هنديٍّ عميق، أو من لسان مهندسٍ معماريٍّ متخصّصٍ بتهديم العمارات الخاربة قبل اعادة تشييدها.

«كي تحيا من جديد، يلزم أن تموت أولا».

«كي تحيا من جديد، يلزم أن تموت أولا».

………

غادرتُ برجي العاجي الأثير رائق الذهن، ألمعي الرؤية، مشتد العزيمة. عبرتُ باب الصالة حيث ما زال سيادة الوزير يتحدث عن عصر المؤسسات المدنية ومناهج الولوج العلمي للألفيّات القادمة

حينها «بانتْ سعادُ» قرب مدخل غرفة المرطبات في ذيل الطائرة. إتجهتُ نحوها لأقول لها شيئا ما.

آنستي العزيزة! هناك لحظات في الحياة لا يمتلك فيها المرء وقتا كافيا للإسهاب في شرح أحاسيسه ونواياه. لحظات يحتاج فيها إلى تبادل ثقة فورية كاملة مع إنسان آخر يحبُّه بقوة!…

أفرغتُ ذلك دفعةً واحدة. كانت الكلمات تغادرني آلياً، دون تلعثم، دون رقابة، دون حدود. أكثر ما أذهلني هو أن نظرات سعاد كانت ناعسةً مُبارِِكة تنتظر بتعاطف ما سأقوله بعد ذلك.

– …لن أطيل عليكِ مقدمتي. إخبريني!…

كِدتُ أتراجع عمّا سأقوله لولا ابتسامتها المفاجئة التي أوحت لي أنها قرأت ما سألفظُه كلمةً كلمة.

– …هل هناك مظلة جوية في هذه الطائرة؟ لا تخافي، تعلّمتُ استخدام المظلات خلال سنوات الخدمة العسكرية. صدِّقيني، عليك أن تقفزي معي في نفس المظلة كيما نغادر سويا هذه الطائرة قبل فوات الأوان.

مرّت الاحداث بعد ذلك بسرعة مذهلة لم أكن أتصورها ابدا. توجّهت سعاد (وكأنها تنتظر هذه اللحظة منذ قرون) نحو رفٍّ قرب غرفة المرطبات. أخرجت حقيبةً تحوي مظلّةً ململمة بدقة، مدّتها نحوي.

صعقني هدؤها وسرعة تجاوبها إن لم أقل انتظارها الصامت لهذه اللحظة التكوّنية التي طال غيابها. زادني ذلك ثقةً وعدم تردد. أنا الذي أيقنتُ طيلة حياتي أن للمرأة حدسا وجوديا وبصيرة غيبية تطنُّ فيها ذبذبات لا يمكن أن يلتقطها من لم يهبه الله ملكة تكوّر البطن والإنجاب.

لم تمر بعد ذلك إلا لحظات حتى كنا نحلّق معا في منتصف الطريق الهوائي بين سواحل سيناء وجسد طائرة تحوّل فجأة إلى كرةٍ من لَهَبْ. معصرةٍ ارجوانية هائلة تتسرب منها، في منظرٍ بديع ومؤلم في نفس الآن، حقائب متناثرة وأحزمة مقاعد، نظارات وعلب سجائر، أنقاض أثوار وجواميس، مناديل كلينكس وعلب مرطبات، قشر موز وأعشاب قات، أرجيلات يمنية أصيلة، مطايب مرقٍ بلديٍّ شهيٍّ مُثمِل، جنبيات وكلاشنكوفات، ربطات عنق فراشيه وعمامات أئمّة، شراشف سوداء وأكياس بلاستيك مشحونة بالطرش، حوض مغسلٍ يرتجف في وسطه صرصور معوَّق مسكين، فَقَدَ بعض اعضاء جسده وهو في مقتبل العمر، يشكو من فوضى هذه الرحلة، يشعر بالنحس والذعر، يشعر بالبرد، يشعر بالقرف، يشعر بفقدان الجاذبية، يشعر بانعدام الإطمئنان

في الفلك العالي حيث أحلق مع سعاد نسمات عليلة تتسلّلُ من حدائق الملكوت الأعلى، وأصداء أغانٍ آتية من مُدُنٍ ترقص خارج المدارات.

فوق رأسينا شمسٌ لا تكسف، تكتسحُ سماءً شديدةَ الزرقة تبدو فيها الطائرة الملتهبة شهاباً مارقاً في معمعان القيلولة. تحت أقدامنا سواحل مدينة ذَهَبْ في أسفل سيناء. يحاذينا خليج العقَبة وهو يتوّج مع خليج السويس علياء البحر الاحمر الذي يترامى أسفلنا كثعبانٍ أسطوريٍّ أزرق يتفرّع من صدرهِ رأسان متقابلان. على يميننا في الجهة الاخرى من خليج العقبة، قرب سواحل السعودية، شريط جبال تبوك الجرانيتية الخلابة التي لا تبعد عنّا إلا بضعة كيلومترات. على يسارنا يلوحُ جبل طور سينين يعلوه في القمة دِير سانت كاترين، ثمّة حيث صعد سيدنا موسى لرؤية قبسٍ ساطعٍ من ظِلِّ الحضرة الإلهية، وحيث تسلّق فرانسوا ميتران لإمتحان مقدرته الڤيزيائية على بداية فترة رئاسية جديدة.

خلفنا، بعيدا في الخلف، تُمطرُ سماء الحسرات ويورقُ لَيلُ القبائل.

بين أحضاني سعاد، اخترق معها رغوة السحاب الرقيقة وندى الغُميمات الطرية. أخشى أن تفلت من بين يداي. أحيطها بذراعي بحنو وحنان ولذة لا توصف. أضمّها نحوي كي تتدفأ بي، كي أتدفأ بها، كي تكون أقرب إلى قلبي من حبل الوريد

هاهي تُحدّثني بحبورٍ ودهشة عن كلّ ما نراه وما سنراه: أرخبيل شُعَب سيناء المرجانية الذي يتسمّر المرء أمام روعة جمالها وتنوعها، أسماكها الملونة الساحرة، رمال سواحلها الصافية البيضاء، مياهها الكريستالية الخالية من الامواج، غسقها الملائكي الزاخر بالنجوم الناصعة والشهب الراقصةوجهي يلامس كتفيها، يغتسل بأنفاسها، يتنفس بدفقات صوتها العذب الناعم، يناغم تماوج نهديها الوثيرين

ببطءٍ لذيذ وسعادة غامرة مازلنا ننتعلُ هذا الفضاء المقدّس الذي تكتضُّ فيه مقصورات الحور العين ومنتزهات الملائكة، نتمرّغُ في كثبانِه العالية، نرقصُ في قاعات جليده الشاسعة، مجبولين على التوحّد، مُدانين بالاندماج أو الموت، محكومٌ علينا بأن نتداخل معا بوحدانية كي نتجنّب السقوط والتهشّم

نحاول بشراسة أن نمطمط قدر ما نستطيع رحلة العمر هذه، لِنمدّ إلى مالانهاية هذه الدقائق الدهرية التي نسبح فيها فوق كوكب الارض وهو يسيل دافقا تحت أقدامنا، لا تفصلنا أكبر من مسافة همساتٍ وقبلة.

نحاول بشراسة أن نهيم مندمجَين إلى الأبد خارج ڤيزياء المسافة والزمن، بعيدا عن مضيقات منحنياتها الحلزونية وفجوات دالّاتها المقعّرة، شريكَين متّحدَين في تسكّعنا، منسجمَين متكاملَين كجذرين تربيعيّين لنفس المعادلة.

نحاول بشراسة أن نحيا بتباطؤ واسترخاء لحظة الفَرَج التي تمتد بين نيران الطائرة المتفجرة ومقبرة الأرض الصمّاء. لحظة الفَرَج التي تفصلناكما تقول بسملة رواية «زهرة البن»- عن مشنقتين!

———-

البتراءزبيد، أغسطس ٩٩