رحلةٌ إلى بحيرةِ الأسرار!

حبيب سروري

 

كيف تتشكّلُ الأساطير وتتطوّر، ولماذا تصمد بعضها وتُردّدُ من جيلٍ لِجيل؟ سؤالٌ طالما استعمرني. استحضرتُهُ كثيراً خلال زيارةٍ مدهشة لبحيرة سفيتلايور، على بعد 130 كيلومترا من نيجني نوفجورد، العاصمة الثالثة لروسيا (جوركي سابقاً).

 

لا توجد، في الحقيقة، بحيرةٌ على الأرض محفوفةٌ بالأساطير العتيقة والطقوس الشعبية الاحتفالية الدائمة مثل هذه البحيرة. فمدينةُ كيتجز المقدّسة تختفي أسفلها! لأن “الإله أراد حمايتها من العالَم الذي زادت شروره”، كما تقول صيغة وثنيّة من الأساطير. أو “حمايتها من هجوم التتار على نيجني نوفجورود في القرن 13″، كما تقول صيغةٌ حديثةٌ أخرى.

فعند وصول التتار إليها، “استغربوا من عدم وجود أسوار لِحمايتها. أسوارُها كانت تراتيل صلوات أهلها الأتقياء!”. وعند هروع الغزاة نحوها، “تفجّرت مياهٌ غمرت المدينة، أخفتها وحمتها من سطوِهم وتدميرهم!”.

 

ثمّة من يقول حتى اليوم إن أجراس كنائسها تُسمَعُ بين الحين والحين! وثمّة من يجزم أنه رأى ذات صيف بياضاً ناصعاً في قاع البحيرة: لونُ حجارة منازلها حسب الأسطورة! وثمّة من يقول إنه يرى أضواء تعبرها بين الحين والحين!…

 

أسَرَتْ هذه البحيرة ومدينة كيتجز شعراءً وفنانين عديدين. كَرَّسَ لها نيكولاي كارزاكوف أوبرا شهيرة بعنوان: “أسطورة مدينة كيتجز اللامرئية” (1907)، نقشها العديد من الفنانين التشكيلين، وكتب عنها الكثيرون مثل كوريلنكو وبتروشسكي وجوركي، وعدد من قصائد آنا آخماتوفا، وبضعة أفلام دولية.

 

للوصول إلى البحيرة يلزمك أوّلاً عبور غابات من صفوف أشجار البتولا البيضاء (الرمز الوطني لروسيا)، متاخمةٍ لقرية فلاديميروسكا ذات المنازل الخشبية البديعة، المبنيّةِ كليّةً من جذوعٍ صلبةٍ متمثالة، تتخلّلها صفوفٌ من ثقوبٍ تعبرها جذوعٌ عموديةٌ متطابقة من الأشجار نفسها.

تفاجؤك بعدها بحيرةٌ صغيرة، ماؤها نقيٌّ شفافٌ رقراقٌ بلوريّ، لا مثيل لصفائه. له خصائص استثنائية: يمكن حفظه سنين دون أن يتلوّث!

 

نشأت الأساطير وترعرعت غالباً عندما لاحظ الإنسان الأول ظواهر لم يعرف كيف يستوعبها.

فكفى لِمياه البحيرة أن تكون كذلك، ليؤمن الإنسانُ الأوّل، في العصور الوثنية، بأن هذه البحيرة مقدّسة، ولِيُحرِّم السباحة فيها. ولِيعتبر ماءها علاجاً للأمراض. وليطلق تعاويذه التحذيرية الخرافية من الضرر بشجرها، التي ما زالت تُردَّدُ حتى اليوم: “من مسّ شجرة في غابة البحيرة أصابه الأذى!”…

 

فجدّنا القديم، الذي قضّى حياته يتأوّهُ من ضعفه الجذريّ ويرتجف خوفاً من ضواري الأرض وعواصفها وفياضاناتها وكوارثها، لم يتوقّف عن مراقبة الصخور والغابات وما وراء الأكمات. همّهُ استنطاق ما تُكنّهُ من مقدرات على جلب الموت أو دعم الحياة: لا يرى في أية ظاهرة طبيعية تواجهه إلا رمزاً لغضب الآلهة وحاجتها لأضحيات منه، أو مدداً منها وجميلاً مقابل أضحياته الأخيرة.

 

ما الذي يحافظ على بعض الأساطير بعد نشوئها، ويجعلها تتكيّف مع الزمن، وتتردّد من جيل لجيل؟

لنلاحظ قبل الرد أنه، حسب علماء الذهن: لو عُرِض لإنسان شكلٌ هندسي مشعبك برؤوس وخطوط كثيرة لا يربط هيأتها ومنطقها رابط، فسينساه سريعاً.

لكن لو عُرِض عليه شكلٌ هندسيٌّ تقليدي مثلُ مستطيل، يخالِف العادةَ بشيءٍ واحدٍ فقط: تمّ استبدال إحدى زواياه الأربع مثلاً بمثلث يرتكز خارج المستطيل كقَرنٍ أو كذيل، فسيظلّ الشكل منطبعاً بالذاكرة وقتاً أطول.

فالدماغ البشري حسّاسٌ لاستقبال واحتضان كل ما يشبه العادة في كل شيءٍ، إلا في خصلةٍ واحدة فقط. ذلك صنفٌ يثير ذاكرة عصبونات الدماغ وينطبع فيها بسهولة، حظّه وافرٌ في سوق تطوّر وانتقاء وبقاء المفاهيم والحكايات والأساطير عبر الدهور.

 

لذلك ليس غريباً أن رموز كل الأساطير والمعتقدات، التي تصمد عبر الزمن، من ذلك الصنف تحديداً: الشجرة التي تشبه كل الأشجار لكنها تسمع أحاديث العابرين قربها، المرأة التي لا تختلف عن النساء إلا بعيونها الزرقاء التي تسمح برؤية جيشٍ قادم على بعد 3 أيام (زرقاء اليمامة)، التفاحة التي تشبه كل التفاحات لكن عضّها يسمح بامتلاك كل المعارف…

كذلك حال ماء بحيرة سفيتلايور الذي يشبه كل المياه إلا في خاصية نقائه الاستثنائي وإمكانية حفظه لسنين!

 

يفسِّر الكيمائيون اليوم سرَّ النقاء الدائم لِمياه هذه البحيرة بِكونها تتجدّد من ينابيع ساخنةٍ أسفلِها، وتحتوي على نسبة مناسبة من بيكربونات الكالسيوم. ثمّة أيضاً أسئلةٌ علميّةٌ مفتوحة حول قاع هذه البحيرة التي يصعب حسابُ عمقِه بالطرق التقليدية، لعدم ارتداد الأمواج الصوتية عند إرسالها باتجاهه، بسبب جيولوجيا قاعه غير الاعتيادي…

 

البحيرة اليوم مزارٌ أثيرٌ للجميع: سوّاح، عشّاق الطبيعة، دارسو الإثنولوجيا، متديّنون من مختلف الأديان قاطبة، عبّادو الشمس، ولا متديّنون أيضاً، يرتعون جميعاً في أحضانها المترعة بالأساطير الدينية والوثنية…

متحفٌ قريبٌ منها زرتهُ، يسرد تاريخها. وكنيسةٌ أورثوذكسية مجاورة، بالطراز المعماري التقليديّ المبنيّ من جذوع أشجار البتولا.

تفاجؤك قرب الكنيسة حجرةٌ في الأرض، عليها ثقبٌ يُشبِه قدماً صغيرة مكتوبٌ قربه: قدم السيدة العذراء!… تستحضر حينها مدينةَ هود بحضرموت التي يرتادها سنويّاً حجاج كثيرون لزيارة ما يسمّى: قبر هود، وحجرةٍ قربه، عليها شكل قدمٍ عملاقة، تسمّى مع ذلك قدم النبي هود!

 

زرتُ البحيرة مع زملاء باحثين روس، وقضينا ليلة في القرية المجاورة. سبَحتُ فيها عصر وصولنا: متعة مدهشة. الصمت الربّاني في غابتها المحاذية يثير التأمل والهدوء، “له ضجيجٌ صارخ” كما تقول أغنية بينكي الروسية. أما غسقُها الكثيف فلا يُنسى. هو “أنصع النهارات” كما تقول الأغنية.

 

صحونا للسباحة فيها في الخامسة فجراً. كان أوّل من رأيت أفغانيا مسلما يمارس اليوجا فيها لمدة ساعة قبل السباحة، وروسيّة تسبح قبل ممارسة اليوجا!…

 

زيارتها في مساء 6 يوليو حتى صباح الغد، حدثٌ متميّزٌ كل عام، بسبب “عيد إيفان كوبالا”: عيدٌ ذو جذور وثنيّة، باسمِ وثنيٍّ أعتبرته الكنيسة مقدّساً، يسمّيه البعض: قديس القديسين.

للعيد طقوسٌ عديدة منها الرقص قرب نار مشتعلة في منتصف الليل…

 

للعيد نفسِه اسمٌ آخر في مدن شمال أوربا الاسكندنافية: “عيد القديس يوحنا” الذي “أمّم” العيدَ الوثني، وأعاد صياغته بلباسٍ ديني: تُمارس فيه الطقوس النارية الوثنيّة نفسُها، تحت اسمٍ ديني هذه المرّة، كما هو حال كثيرٍ من الطقوس الوثنية التي كانت عميقة الجذور سابقاً، وصعب محوها، لا سيّما في بلدٍ كروسيا ظلّ وثنيّاً حتى وصول المسيحية المتأخر في عام 988.

هبط عيد القديس يوحنا في العقود الأخيرة إلى بعض مدن جنوب أوربا، حيث يمارس فيها اليوم بصيغةٍ لا دينية خالصة: احتفالات ليلية نارية في بعض المنتزهات، لكن في سياقٍ فنيٍّ مهرجانيٍّ لا غير.

 

تشتعل البحيرة الروسية في عيد إيفان كوبالا بنشاطات وطقوس كثيرة: ثمّة من يتضرّج بِطين البحيرة، أو يبحث عن زهرة لا تظهر إلا في تلك الأيام، من يلقاها ينال الحظ! رقصٌ وطقوسٌ نارية طوال الليل…

 

في ذلك العيد أو بدونه، تظلّ هذه البحيرة مأوىً فريداً للتأمل والسكينة، وملاذاً في غاية الجمال، وإن كانت أساطيرها هي الأجمل!