خيارات بودلير اليوم؟

(أو: كيف تثري حياتك الرقمية؟)

حبيب سروري

 

استحضر عبارة أمين معلوف:

“في عالَم اليوم لا أشعر بأنني في معسكر المنتصرين، بل في معسكر المهزومين الذين خابت آمالهم. وشعوري بأن العالَم الذي حلمتُ وأحلم به ليس هو العالَم الذي أراه الآن”.

أشاركه الشعورَ نفسَه والخيبات، منذ أكثر من عقدين. إذ نحن اليوم في عالَمٍ جديد يسوده تحالف قوى المال والتكنولوجيا الذي يُهيمن على مختلف مجالات الحياة السياسية والثقافية والعلمية والاقتصادية والبيئية: لا صوت يعلو فوق صوت مصالح أسواقه المالية التي لا تعرف الحدود الجغرافية، ولا يستطيع أحد أن يعيش خارج فضائه الرقمي الذي حوّل الكوكبَ الأزرق إلى قريةٍ صغيرة، يقودها وفق أهوائه ومصالحه نحو المجهول.

 

كيف نتعامل مع هذا العالَم الجديد، في المجال المعرفي الرقمي الذي يهمّني هنا؟

ثمّة أكثر من حل. أحدهم على طريقة الشاعر الفرنسي “رائد الحداثة” شارل بودلير. كان عمره 15 عاماً في عام 1836عندما ظهرت أوّل الصحف الورقية: أربع صفحات تختلط فيها الأخبار، الدعايات، أرقام البورصة…

كانت حينها ثورة تكنولوجية بمستوى الثورة الإنترنيتية اليوم.

قرّر بودلير الانتحار آنذاك، كما لاحظ المتخصصون في سيرته! قال: “لم أعد أطيق حياتي بعد الصحف الورقية”، “أريد الهروب إلى عالَمٍ لم تظهر فيه بعد هذه الصحف”.

لماذا؟

قال: “كل صحيفة، من أوّل سطرٍ إلى آخر سطر، نسيج من الكوارث: حروب، جرائم، سرقات، تعذيب، جرائم أمراء، جرائم شعوب، عربدةُ بشاعاتٍ كليّة”.

 

هكذا جرّم بودلير آخر انتاجات الحداثة: الصحافة الورقية، واعتبرها رمزاً للانحطاط الأخلاقي لهذا العالَم. لكنه كان ينشر فيها، يستثمرها لتعميم ابداعاته، وإن كان يكرهها حقّاً.

فالصحافة الورقيّة كانت تعني بالنسبة له: نهاية الشِّعر والجمال، وانتصار النفعي الفج!

 

ماذا كان سيعمل بودلير لو عاش في زمن رونالد ريجان ومارجريت تاتشر الذي لعب دورا حاسما في انتصار الرأسمالية المتوحشة في عالمٍ ذي قطب واحد، وفي تأسيس مداميك حضارتنا الجديدة؟ لأن الليبرالية الاقتصادية اكتسحت حينذاك العالَم، وأسّست عروةَ تحالف قوى المال والتكنولوجيا الذي يقود اليوم كل مناحي الحياة.

 

ماذا كان سيعمل بودلير لو حضر خلال تلك السنوات بداية الجدل الهائل الذي عرفته المختبرات العلمية حول مواضيع أبحاثها: بين البحث النظريّ الذي لا يهتم إلا بتوسيع المعارف الإنسانية، أو البحث التطبيقي الذي لا يهتم إلا باحتياجات العالم الصناعي؛ أي: بين الجميل أو المفيد، بين الفن أو التقنية، بين الشِّعر أو الأسواق الاقتصادية، بين السمو والتحليق في أقصى المعرفة الإنسانية أو عبادة الدنيوي لا غير…

حُسِم ذلك الجدل لسوء الحظّ بشكلٍ معادٍ لاختيارات بودلير: لصالح البحوث التطبيقية، النفعي، السوق، الدنيوي… انتصر الفريق المناصر للملموس ذي المردود المباشر.

 

مواضيع الأبحاث العلمية التي تجد الدعم الاقتصادي اليوم هي المواضيع التي تُحدِّدها الشركات الكبرى والأسواق، كل عام، وفق مصالحها وحاجاتها المتجدِّدة. ومواضيع الأبحاث العلمية التي تدعمها الأقاليم والمحافظات ترتبط بمدى مردود هذه الأبحاث على نشاطاتها الإنتاجية والاقتصادية المباشرة.

 

ماذا كان سيعمل بودلير وهو يرى أن العالَم لم يعد هو العالَم بعد 1995 الذي كان عاماً فاصلاً في كل شيء، وبدايةً لحضارةٍ إنسانية جديدة مذهلة مدهشة، لكنها تهرول نحو المجهول: الإنترنت برسائله الإلكترونية ومدوّناته، والمعرفة الرقمية ب “روابطها النصيّة الفائقة” وتراكمها اللانهائي، خرجتْ جميعها طازجة من أفران المختبرات الكمبيوترية (التي جهّزت ذلك خلال سنوات طويلة) لتصير بعد ذلك العام مِلكاً لِلجميع، والجميعُ مِلكٌ لتحالف قوى المال والتكنولوجيا، الذي أضحى يهيمنُ بغطرسةٍ وتبجّح على كلِّ مناحي الحضارة الإنسانية؟

 

ما الذي يلزم أن تعمله أنت، عزيزي القارئ، إذا كنتَ في سفينةٍ فضائية هائلة تقودك إلى كوكبٍ غير الكوكب الذي تحلم به؟

ثمّة ثلاث اختيارات: أن ترمي بنفسك من النافذة على طريقة رغبة بودلير في صباه. أو أن تجلس في ركنٍ من السفينة تبكي وتبكي وتعيش على الأشواق والسويداء، على طريقة “قفا نبكي”، تتذكّر الأيام الخوالي، أيّام البيداء والبعير وكثبان طي.

أو أن تتسكّع في أرجاء السفينة الفضائية، تنهل من مكاتبها، تتعلّم طرق حركتها، وتحاول قدر ما تستطيع المساهمة في توجيهها، كما فعل بودلير نفسه مع الصحافة الورقية وهو يستثمرها، أو مع التصوير الفوتغرافي الذي كرهه حقاً، وإن كانت صورَه أوسم صور أهل زمانه.

 

هذا الطريق الثالث اختياري. سأحاول في سلسلة مقالات هدفها حثّ القارئ على إثراء حياته الرقمية ثقافيا، وفتح ممارسات رقمية وعوالم جديدة.

يؤسفني في الحقيقة أن الكثيرين مرتبطون بالإنترنت طوال اليوم، منذ عقود، لكنهم لا يستخدمونه إلا لإرسال الإيميلات، لسماع الموسيقى، لقراءة منشورات الفيسبوك ومشاهدة الصور.

يبدّدون حياتهم فيه دون مردود معرفي عميق يستحق الذِّكر. ومع ذلك، الثالوث الشهير الذي يرافقهم في الشارع والسرير والحمّام: الآيفون، الآيباد، والقارئ الآلي كندل، يسمح بعمل أشياء كثيرة أهمّ من تلك الممارسات الأوليّة، وبإمكانه أن يكون مفتاحاً لِتطوير الذات واقتحام العالم.

 

مثل غيري، لا يفارق هذا الثالوث حقيبة ظهري لحظةً واحدة، بجانب بطارية صينية صغيرة تسمح بشحن هذه الأجهزة الثلاثة معاً قبل نفوذ تعبئتها. بطبيعة الحال، كان بإمكان ثلاثتهم أن تكون في جهازٍ واحد، لكن ما يقود الشركات الصناعية هو البحث عن الربح وليس وزن حقائب ظهورنا وراحتنا المثلى، وإن كان وزنهم جميعاً خفيفاً نسبيّاً مع ذلك.

 

بإمكان المرء لو استخدمهم كما يلزم أن يتطوّر بشكل سريع، وتكون الكرة الأرضية بأطراف أصابعه: يتعلم اللغات، ينهل من أهم موسوعات الدنيا ويغيّر من محتواها ويضيف إليها ما يشاء بنفسه، يتابع من بيته أرقى وأهم المحاضرات في أهم الدور الجامعية، يرتبط بملايين الكتب بطريقة جديدة منهجية وبكل الصحف والمجلات، يستخدم عددا هائلا من التطبيقات الكمبيوترية وتكون له تجربة في صناعة المحتوى الرقمي الفني والثقافي ترتبط باسمه أمام العالم، يتابع جديد المقالات والدراسات والأخبار الكونية، يوزِّع ملفاته على “سحب الكمبيوترات” بحيث يمكنه قراءتها متى ومن أين أحب، ويصنع برامجه الكمبيوترية إذا أراد بلغاتٍ تعبيرية ذكيّة…

 

فالعالَم القادم سيخرج من صلب وترائب الأجهزة الإلكترونية. هو عالم السيارات بدون سائق، السفن الفضائية التي توزع الإنترنت للجميع، الذكاء الاصطناعي الجبار، الروبوتات الذكية، السيارات الطائرة…

لعل من الأفضل البحث عن الانتماء لهذا العالَم من الآن، ومن موقعٍ أفضل.

 

السؤال الذي سأحاول الردّ عليه في عدّة حلقات من “عين الديك”: كيف تثري حياتك الرقمية؟… لنفكّر بذلك مليّاً أوّلاً.