حول ثلاثة أبيات للمعري عن أصلِ الإنسان

حبيب سروري

أودُّ هنا تقديمَ سلسلةٍ متكاملة من 3 أبيات لأبي العلاء (973ـ1057)، حول موضوعٍ جوهريٍّ طالما استحوذَ وجلفَنَ دماغ الإنسان ودوّخَ به: “من نحن؟ كيف جئنا؟…”.

تُجلي ثلاثتُها معا كم كانت الرؤية الشاعريّة الحدسيّة لصاحب “لا إمام سوى العقل” ألمعيّةً متقدِّمةً على الجميع بدون استثناء، منذ زمنٍ سحيق، وهي تنسجم مع اكتشافات علميّة حديثة، لم تُشرِق في سماء البشرية إلا في القرن 19!

البيت الأول:

والذي حارتِ البريّة فيهِ        حيوانٌ مستحدَثٌ من جمادِ

ليس جديدا، بحدِّ ذاته، كونُ الإنسانِ (هذا الكائن الذي حارتِ البريّة فيه، والذي لا يُسبَر غوره): حيوانٌ لا غير، كما يراه المعرّي.

فقبل أبي العلاء، كان الجاحظ (776ـ867)، في “كتاب الحيوان”، قد اعتبر الإنسانَ، مثل الدواب، صنفا كبقية الحيوانات التي تضمّنتْها نصوصُ ودراساتُ مجلداته السبعة.

وقبلهما، كان فلاسفة الإغريق، كإفلاطون وآخرين، قد اعتبروا الإنسان صنفا حيوانيّا. (حيوانٌ في منظورهم من لهُ “روحٌ” تميّزهُ عن الجماد).

ومن منظور العِلم الحديث أيضا: للحيوان البشري وغير البشري نفسُ التركيب البيولوجي والبنية الجينية. يخضعان معا للقوانين البيولوجية التطوّرية الداروينية نفسِها (للتذكير: يعيش حاليا بيننا رَجلٌ، أو أكثر، بِقلبِ خنزيرٍ زُرِعَ لهُ بعمليةٍ جراحيّة!).

بطبيعة الحال، هناك ما يُميّزُ الإنسانَ (لكن في إطار حيوانيته) عن غيرهِ من الحيوانات، مثلما لكل حيوانٍ آخر ما يُميّزه عن غيرهِ منهم.

فرغم التشابه الهائل بين الإنسان والشمبانزي مثلا (يمشي هذا على قدَمين، له حياة اجتماعية مشابهة، يستخدم الأدوات لفضّ الثمار، يضحك، يلعب، يخاف، يتعاطف مع الآخرين…: 99٪ من جينات جينومِه متطابقةٌ مع جينات جينوم الإنسان)؛ رغم ذلك، لا يمكن عدم ملاحظة أن الـ 1٪ من الجينات الخاصّة بالإنسان، سمحت له بامتلاك 900 سنتمترا مكعبا من كتلة الدماغ، لا يُوجد نظيرٌ لها لدى الشمبانزي، تمنحُ نوعَنا البيولوجي قدرات خارقة: لغةً متطوّرة وعلاقات اجتماعية عميقة وشاسعة، ابتكارات لا عدّ لها، بما فيها تلك التي تسمح (بفضل “المقصّ الجيني”) بتغيير الجينات، واستبدال قلوبنا التالفة بقلوب خنازير!…

لكن ذلك لا يبرر، بالطبع، موقفَ “التمركزية الإنسانية” Anthropocentrisme، ذي الطابع الامبريالي، الذي يرى الإنسان ألفا وأوميجا الكائنات، سيّدها، كل شيء يأتي منه ويقود إليه.

لعلّ هذا الموقف انطلق في البدء من مقولات ذات طابع تمييزي، كـ “الإنسان حيوانٌ سياسي” لأرسطو (الذي ترجمَ ابنُ البطريق كتابَه “الحيوان” إلى العربية، في أيّام الجاحظ).

لكنه، في الجوهر، ابن الأيديولوجيات الدينية التي حوّلت التمييزَ إلى قطيعة كليّة، وهي تعتبرُ أن “روح” الإنسان، على خلاف روح الحيوان، اندلعت من نفخةٍ إلهية؛ وأن الله خلق الإنسان على شاكلته!…

جليٌّ أن أفكار المعري (الذي كان نباتِيا) تقع في القطب المضاد لهذه المواقف الاستعلائية: كان يموضعُ الإنسان (المستحدَث من جماد) في إطار الكائن “الحيّ” الذي تجمعُ كلَّ أصنافهِ طبيعةٌ مشتركة، وتربطها وحدةٌ كليّة.

بيد أن الجديدَ في فلسفة أبي العلاء عن أصل الإنسان يبدأ بالكلمة المدهشة التي تلي “حيوان” في هذا البيت الأوّل: “مستحدَثٌ”. (يقال، في العربية، مصطلحٌ أو نصٌّ أو ابتكارٌ مستحدَث: أي جديد).

مهمٌّ جدا هنا ملاحظة أنّ المعرّي لم يستخدم كلمة “مخلوق” التي تنتمي مباشرة لنظرية الخلق الدينية.

أما كون الاستحداث منبثقٌ من جماد، فقد يبدو، من أوّل وهلة، أنّ مصدرَهُ خلقٌ إلهيٌّ (“كن فيكون”)؛ أو أنه مجرّد تعميمٍ لِمفهوم “التولّد الذاتي” Génération instantanée، ذي الجذور الإغريقية العتيقة، الذي كان يمسُّ بعض الكائنات الضئيلةِ الحجم (ولادة الذباب من القاذورات، العفن الفطري من التخثّر…)، وصار في بيت المعرّي يتضمّن الإنسان أيضا.

غير أن البيت الثاني، الذي يجلي عبقرية وإعجاز رؤية أبي العلاء، يلغي هاتين الفرضيّتين، ويفتح للبيت الأوّل آفاقا رحبةً نورانيّةً مذهلةً جديدة.

البيت الثاني:

جائزٌ أن يكون آدمُ هذا          قبلهُ آدمٌ على إثر آدمْ

المتابعُ لبيبلوجرافيا الأبحاث البيولوجية حول أصل الإنسان (انظر **)، يلاحظ أن كلّ علماء البيولوجيا، بدون استثناء، حتّى بداية القرن التاسع عشر قبل جون باتيست لامارك Lamarck (1744ـ1829)، لا سيّما أهمّهم عقب الثورة العلميّة في القرن 17: (1705ـ1627) John Ray، (1778ـ1707) Carl Linné، (1788ـ1707)Buffon، (1844ـ1772) SaintHillaire، (1823ـ1769)Cuvier، ممن قاموا بجرد وتصنيف الكائنات الحيّة بطريقة علميّة، في مجلدات موسوعية ضخمة، كانت رؤيتهم “ثباتية” (fixiste): الكائن الحيّ مخلوق ثابت لا يتغيّر! 

بفضل دراسته لِعيّنات هائلة من حفريات الأصداف والمحارات البحرية، المتكدِّسة بالملايين في مختبرات “المتحف القومي للتاريخ الطبيعي” بباريس، ورؤيتهِ ميدانيا لِتنوّعاتها وتغيّراتها الأكثر فأكثر تعقيدا، واكتشافهِ لسلسلة تحوّلاتها البيولوجية من نوعٍ بيولوجي إلى نوع، عبر حقب طويلة من الزمن، كان عالِم الحفريات لامارك أوّلَ من أدرك أن الأنواع البيولوجية تتحوّلُ، مع الزمنِ وتَغيُّرِ البيئة.

ثمّ جاء داروين، بعد ذلك بعقود، لِيبرهنَ مبدأ تحوّل الأنواع وتطوّرها، عبر عدد هائل من النماذج التي درسها خلال 30 عاما، قبل نشر كتابه “أصل الأنواع” في عام 1859، شارحا فيه القانون الجوهري الذي يحكم ذلك التطوّر: الانتقاء الطبيعي.

واجهتْ كتابَهُ في البدء مقاومةٌ عنيفة، من المؤسسات الدينية أساسا، قبل أن تتوالى براهينُ نظريّته وتفرضَ نفسَها كأساس للبيولوجيا الحديثة اليوم، لا سيّما بعد تراكم براهين جديدة لها جاءت من علم الجينات (الذي برزَ وتطوّر بعد وفاة داروين).

وكذلك بفضل توالي اكتشاف حفرياتٍ عديدة أكّدتْ، على نحو مرئيٍّ متواصل، أنّ مفتاحَ الإجابة على ما كان دوما أهمّ الأسئلة الآسرة للإنسان عبر العصور، “من نحن؟، كيف جئنا؟…” هو: التطوّرُ الدارويني عبر الانتقاء الطبيعي.

وبفضل داروين، لا يوجد اليوم كتابٌ علميٌّ عن الأنواع الحيّة، يخلو من “شجرة أنواع” تسرد سلسلة تطوّرات كل نوع بيولوجي عبر الزمن، لا سيّما بالاستعانة بتحليل الحمض النووي DNA للحفريات القديمة.

في إطار هذه الشجرة، يبدو نوعُنا الحالي (هوموسابيان: الإنسان العاقل)، وأخونا المنقرض قبل حوالي 40 ألف سنة: هومو نياندرتال (الذي تتطابق حوالي 99.7 من جيناته مع جيناتنا)، فرعَين نهائيين لِسلسلة من تشعّبات فروعٍ إنسانية ضخمة معقّدة (تتداخل غصونها أحيانا)، تضمّ حوالي 30 نوعا بيولوجيا مختلفا، منذ حوالي 7 مليون سنة (أنظر **).

ما يهمّ ملاحظته هنا، بإعجابٍ استثنائي، هو أن أبا العلاء، في بيته هذا، رأى أن للنوع الإنساني تاريخا جينيالوجيا تراتبيا متغيرا عبر الزمن، ينتقلُ عموديا من نوع إلى نوع، أو من “آدمٍ إلى آدم”، حسب استعارته الجميلة التفخيخية الممتعة، هو الذي كتب، في “رواية الغفران”، مقاطع مرحة، لا تخلو من السخرية، من الأساطير الميثولوجية الدينية عموما؛ والذي اعتبر (دون تقديدِ كلماته) “مقال الرُسلِ قول زورٍ سطّروه”.

هكذا، يختلف أبو العلاء (قبل غيره وببصيرةٍ إعجازيّةٍ حادّة) مع الرؤية الثباتية الأفقية السائدةِ حتى بداية القرن التاسع عشر!

البيت الثالث:

أرى الحيَّ جنساً ظلّ يشغل عالَمي           بأنواعهِ، لا بُورِكَ النوعُ والجنسُ

يستهلّ الشاعر هذا البيت بتعميمٍ للبيتين السابقين، يضمّ في فنائه كلّ “شجرة” الكائن الحيّ بمجمل جنسهِ وأنواعه (سيستخدم كلمة “شجرة” تحديدا، في أبيات أخرى لاحقة).

وينتهي البيت الثالث بتقييمٍ سلبيٍّ لا يخلو من إدانةِ هذا الجنس، بكلِّ وحدته التراتبية الكليّة: “لا بُورِك…”.

يتفق هذا التقييم النافر مع آراء كثيرٍ من الفلاسفة وعلماء الحفريات الأنثروبولوجيين حول الإنسان: نوعٌ غازٍ مجتاح، يحمل في طبيعته غرائز استعماريّة إباديّة.

يُعمِّم أبو العلاء هنا، في ضوء رؤيته البيولوجية التوحيدية، “لعنَتَهُ” على الكائن الحيّ بمجمله. لكونِهِ، ربما، ابن تاريخٍ تطوّريٍّ واحد، كلّه صراعٌ ضارٍ من أجل البقاء.

أليس هوموسابيان، على سبيل المثال، من ساهم، بعد إحدى هجراته خارج أفريقيا قبل حوالي 60 ألف سنة (سبقتْها هجراتٌ خارج أفريقيا، لسلالات من أسلافه الإنسانية القديمة)، في إبادة أربعة من الأنواع البيولوجية الإنسانية، كأخيه هومونياندرتال، الذي اجتمع شملُه به، خلال 6000 عام، في أوربا، قبل حوالي 45 ألف سنة؟

أليس هو المتهم الرئيس بتآكلِ واضمحلالِ التنوّع البيئي في كوكبنا، بل بإبادةِ وسحق الأنواع البيولوجية الأخرى أحيانا، بسبب نشاطاتهِ الاقتصادية التي لا تحترم توازن البيئة، وهي تستهلكها وتلوّث أجواءَها وبحارَها بإفراطٍ وأنانيّة؟

أليس هو جذر كارثة الاختلال البيئي الذي يقود كوكبَنا اليوم نحو الهلاك: أنثروبوسين (“الفناء السادس” للحياة على كوكب الأرض، بعد أن كانت أسباب الفناءات السابقة جيولوجية أو كوسمولوجية، كالفناء الخامس الذي أطاح بالدناصير و90٪ من الكائنات الحيّة، قبل 65 مليون سنة).

عن “شجرة” هذا الهوموسابيان المارد، منبع كلّ الأذيات والبلايا والخرائب، قال فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة:

شــرُّ أشــجارٍ علمــتُ بها                    شَــجَراتٌ أَثمـرَتْ ناســـا

حــملَتْ بِيضًـــا وأَغربـــةً                    وأتــتْ بــالقومِ أجناســـا

كــلُّهمْ أَخــفتْ جوانحُـــهُ               مـارداً فـي الصــدرِ خنَّاسـا

لــم تَسِــقْ عَذباً ولا أَرِجاً                     بـــل أَذيّـــاتٍ وأدْناســـا  

ـــــــــــــــــــــــ

(**) انظر المحاضرة الافتتاحية، في كوليج دو فرانس بتاريخ 13 يناير 2022، وما تلتها من دروس، لعالِم الحفريات البروفيسور جون جاك هوبلان (مكتشف أقدم حفريّة لهوموسابيان في جبل أيغود بالمغرب، عمرها حوالي 300 ألف سنة)، بعنوان “هوموسابيان، نوعٌ مجتاحٌ غازٍ؟”:

 تابَعَ هذه المحاضرة في كلِّ قاعات الكوليج معا، وعلى اليوتيوب مباشرة، أكثر من 30 ألف مشاهد